الثقافة والمثقفون في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1)

Cover Image for الثقافة والمثقفون في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1)
نشر بتاريخ

لقد كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى صارما وهو بصدد مناقشته لمفهوم الثقافة وتعاطيه مع موقعها وأدوارها، وقد غلبت في كتاباته -في الغالب الأعم- السمة السلبية عن الثقافة والمثقفين، فلطالما عَرَّض بهما لاعتبارات سنتوقف عندها قليلا. كما نلاحظ غلبة الطابع السِّجالي الذي حكم طريقة الرجل وهو بصدد إيجاد الأرضية النظرية والمهاد المفاهيمي لمشروعه، إضافة إلى هندسة المساحات المطلوبة في حركة التدافع، بقراءة وضعية مختلف الفاعلين، وما يصدرون عنه من إيديولوجيات، وما يخدمونه من أجندات، وما يوجههم من منظومات، ذلك السجال الذي قد يُستَشَفُّ منه نفور من الكلمة ذاتها، لكن مع تقدّم الاطلاع في مكتوباته يتبيّن أن الرجل كان منفتحا على تقليب النظر، رغم صرامة المنهج، وتبنّي الحسم بخصوص المبادئ المُوجِّهة، والغايات الكُبرى. ولذلك فقد ناقش مفهوم الثقافة بالتركيز على أطرها المرجعية وخلفياتها الفلسفية وتوجهاتها الحضارية، وناقش تبعا لذلك ماهيتها ووظائفها، والسياقات التي تطوّرت فيها، والأهداف التي تخدمها، ومختلف الأنساق التي تصدُرُ عنها.

وإذا ما جزنا قنطرة الصّدّ الظاهرة، التي قد تحجب عنّا الموقف الحقيقي، فإنه يمكن القول بأن الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وهو الحريص على تدقيق المفاهيم، بحيث لا يسلّم باستعمالها إلا بعد مخضها وتفكيكها وإعادة قراءتها وفق روح الإسلام التجديدية التي تبنّاها وقادها علما وعملا، تنظيرا وممارسة، يميّز بين ثقافة مهاجمةٍ للإيمان، صّادّةٍ عن الله والدار الآخرة، قد جعلت نصب أعينها الإغارة على الإسلام وشعائره وفق توجه راسخ وأجندة مُوَجَّهة ونيّة مبيّتة، وبين ثقافة قد تساكنت وتعايشت -إلى حدّ ما- مع الدين معتبرة إياه جزءا من تركيبتها، على سبيل تعديد روافدها، والتسامح مع “نوع محليّ” من التفكير والسلوك، وهو تساكُنٌ تزيّن به الثقافة صورتَها وصِيتَها، ويمدّها ببعض ألوان الزهو بنفسها وبقدرتها على التدجين والاستيعاب، ريثما تنضج العقلية ويرقى الفكر لينزع عنه أثواب “الطفولة الفكرية” ويعتنق العقلانية المُؤلِّهة لنفسها.

كما يميز الإمام رحمه الله بين ثقافة تتعايش مع الدين، بوصفه معطى لا يمكن تجاوزه أو تخطّيه، بل استثمار إمكانياته التعبوية ونوافذه الروحية في عالم سِمَتُهُ العامّة الضغط والقلق، وبين ثقافة عائدة على استحياء إلى الاعتراف بمركزية الإيمان في صناعة الحضارة الإسلامية العظيمة، فهي هناك تفاوض أن يتم تهذيب الدين وتطويره وتجديده ليوافق العقلانية، ويتنازل عن بعض أحكامه وشرائعه لترضى عنه “الفرمانات” الثقافية الغربية، أو في أحسن الأحوال، يُتْرَكُ محترما في ركن قصي، “مقدّس”، لا يتدخل في دنيا ليؤطّرها، ولا في واقع ليؤثّر فيه ويوجّهه.

ويمكن الإشارة إلى أهمّ ما ركّز عليه الإمام رحمه الله تعالى وهو بصدد تناوله لقضية الثقافة والمثقفين، كما يأتي:

– التركيز على تفكيك مفهوم الثقافة وإبراز مختلف أهدافها وانحرافاتها ومقولاتها، والتذكير الدائم بخصائص الثقافة الجاهلية المذمومة في القرآن الكريم: تبرّج الجاهلية، ظن الجاهلية، حكم الجاهلية، حميّة الجاهلية، وهي خصائص ممتدّة، لا تنفي وجود قيم إنسانية آدمية فطرية مشتركة، لكنّ مآلاتها ومساراتها الكبرى، تخدم في المحصّلة الأجندة الشيطانية الكافرة، والهوى النفسي الطاغي، والتألّه العقلي المدّعي، والتجبّر البشري المغرور. إن “الثقافة الجاهلية تمثل روح الظلام الهاجم علينا في ديارنا، ومسارب هذا الروح إلينا هو حاجاتنا إلى أشياء الحضارة الجاهلية وأنماط نظامها، وأشكال بناها المرصودة للتعامل مع الإنسان الدّوابي بالإنسية الجماهيرية الكاسحة لكل الإنسان أو بإنسية التحرر من كل التزام خلقي في بلاد الفردية الغابوية” 1.

– الحرص على تبيان الجذور الفكرية والفلسفية لمختلف التعاريف وموقفها من الدين ومن وجود الله والدار الآخرة، وبيان أدوار الثقافة المستعلية والمهام المنوطة بها ضمن الأنظمة الحضارية الغربية، في علاقتها بالمجتمعات الإسلامية، والدول التابعة بصفة عامة.

– تفكيك البنيات الذهنية والنفسية لطوائف المثقفين، وبيان مختلف تموقعاتهم من الثقافة الغربية، ودرجة تبعيتهم لها وذوبانهم في منظوماتها، وتقديم قراءة في اختلاف مواقفهم من السلطة، ومستويات تجندهم لخدمة الثقافة المهيمنة، وحجم انخراطهم في معاداة الحركة الإسلامية.

– مناقشة المواقف اللازمة من الثقافة السائدة المهيمنة، والأهداف التي ينبغي تبنيها في مواجهتها، إضافة إلى المحاذير الواجب الوعي بها في العملية برُمَّتها، وعرض الخصائص اللازمة والقيم المؤطرة لأي ثقافة بديلة تنطلق من الوحي، وتنسجم مع الغاية من رحلة الإنسان ومغزى عبوره من الدنيا إلى الآخرة.

ولذلك يمكن التمييز بين ثلاث استراتيجيات تحكمت في خطاب الإمام عبد السلام ياسين عن الثقافة والمثقفين، تتركز الاستراتيجية الأولى حول ضرورة الكشف عن مختلف الخلفيات التي تؤطّر توجه الثقافة وتحكم رؤاها التي تروّجها وتصدر عنها، ومن تمة معرفة حقيقة بواعثها وأبعاد حركاتها وسكناتها، بينما تدعو الاستراتيجية الثانية إلى مواجهتها ومدافعة حركتها، سواء عبر الاطلاع والكشف عن الخلفيات والجذور، أو عبر الوعي بالأهداف البعيدة وتعرية جوهر روحها وعملها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى ضرورة تبني الاستراتيجية الثالثة، أي أنه يستلزم اقتحام العقبة، والنزول إلى الميدان، بنية عظمى، وزاد كافٍ وإرادة صلبة، ليس من أجل تفكيك خطاب الثقافةِ المستعليةِ التي تسحب المسلمين خلف دُبِّ الحضارة الغربية المادية وبهرجتها وخوائِها وعنفِها فقط، بل من أجل صناعة البديل الذي يحمل تصحيحا للرؤية، وجبرا لما تَمَّ كسْرُه، ودرءًا لما تمَّ زرعُه، وغرسًا لما يُرادُ قطفُه.


[1] مجلة الجماعة، العدد الثاني، ص: 40.