التماسك داخل الجماعة.. صوى ومعالم

Cover Image for التماسك داخل الجماعة.. صوى ومعالم
نشر بتاريخ

مقدمة

جاء في وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “وأوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا، فلا يُلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لِبلوغ مراتب الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراهُ، ولا مدخل لك في هذا يا أخي ولا مدخل لك يا أختي في هذا المضمار إلا بصحبة تفتح أمامكَ وأمامكِ المغالق وتحدو بركبك إلى عالم النور والرقائق.

لذا أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة. أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة.

أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة.”

بعدما وصى رحمه الله ورضي عنه ثلاث مرات بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة. أوصى أحبابه إخوانه بعد ذلك بدعاء ربنا عز وجل بأن يمسك وحدة الصحبة والجماعة في الجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا قائلا: “…أوصي أن يدعوَ أحبابي إخواني وأخواتي من جماعة العدل والإحسان ربنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة في جماعتنا كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا”.

 وذلك مصداقا لقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا سورة فاطر. إثبات أنه تعالى هو القيّوم على السماوات والأرض لتبقَيَا موجودتَيْن، الحافظ بقدرته نظام بقائهما. ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما أحد سواه سبحانه.

مفهوم التماسك

نقف هنا عند كلمة يمسك؟

فقد ورد في أصل (مسك): تماسك، وتمسَّكَ واستمسك، ومَسَّكَ تَمْسِيكًا.

يقال:  مسك الفريق بالحبل، وعندما تريد توكيدا أكثر تقول أمسك الفريق بالحبل، والخماسي فيه مزيد توكيد، تقول تمسّك الفريق بالحبل، أما السداسي فهو القمة في التوكيد والاضطرار، تقول استمسك الفريق بالحبل. وقد تقرر لدى علماء اللغة أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى كقوله تعالى: فاستمسك بالذي أوحي إليك سورة الزخرف؛ الآية: 43.

وفي المعجم الوجيز مَسَكَ بالشيء مَسْكاً: أخذ به وتعلَّقَ واعتصم. وتماسك الرجل: ضبط نفسه.

ويُقال: تماسَكَ البناءُ: قَوِيَ واشتدَّ. والتماسُكُ: ترابطُ أجزاءِ الشيء حسيًّا أو معنويًّا. والتماسك ضد التفكك الذي هو الانفصال وعدمُ التعلّق والارتباط.

ومنه التماسُكُ الاجتماعيّ، وهو ترابطُ أجزاء المجتمع الواحد. وتماسك الجماعة، أي الارتباط الوثيق بين أفراد الجماعة في أهدافهم القريبة وغاياتهم البعيدة. فهو وسيلة ليشيع إحساس مشترك لدى جميع الأفراد بالميل للبقاء والاستمرار في مسيرة واحدة مع تعظيم الشعور بالانتماء للجماعة.

نجد من مرادفات مُتَماسِك: ثابِت، شَديد، صَلْب، قوي، متِين، مفتول، مترابط، مُحكم..

ومن أضداده: ضعيف، عاجز، مهتزّ، خائِرٌ، خاضِعٌ، خواف، متزلزل، متزعزع..

البنيان المرصوص

جاء في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ سورة الصف.

الصف يطلق على الأشياء التي تكون منتظمة في مظهرها، متناسقة في أماكنها، والمرصوص هو المتلاصق الذي انضم بعضه إلى بعض. يقال: رصصت البناء، إذا لاءمت بينه وقاربت حتى صار كقطعة واحدة.

والمراد أن الله يحب عباده المؤمنين المجاهدين الذين يثبتون في مواطن الجهاد، ويلزمون مكانهم متماسكين كالبنيان المرصوص.

يقول قتادة رحمه الله: “إن الله صف المومنين في قتالهم وصفّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عِصمة لمن أخذ به”. تفسير ابن كثير.

وما أجمل ما عبَّرَ به سيد قطب رحمه الله في الظلال عن هذا المعنى ﴿بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾؛ بنيان تتعاون لَبناتُه، وتتضامّ وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسدُّ ثغرتها، لأن البنيانَ كله ينهار إذا تخلّت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تُمسِك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء.

وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه” رواه البخاري رحمه الله.
هذا الحديث فيه تصوير وتوضيح لمعنى التماسك والتراص بصورة حية ظاهرة، فهي تقرب المعنى المعقول بالصورة المحسوسة، فينبغي على كل مؤمن أن يعرض نفسه على هذا الحديث، هل هو لإخوانه كالبنيان يشد بعضه بعضًا أم لا؟

أن يكون المؤمنون في اجتماع كلمتهم واستواء نياتهم وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص. إنه نور جماعة المسلمين الواحدة الموحدة، الذي يشد بعضه بعضا كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

إنّ البناءَ إذا تَماسَكَ فَاسْتَوَى

لم يضطرِبْ ضَعفاً ولم يَتَهَدَّمِ

وحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف والشتات في جملة آيات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ سورة الأنفال.  وقال عز وجل: ﴿تَحْسِبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّي ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْم لَّا يَعْقِلُونَ سورة الحشر. وذاك سبب شقاقِهم؛ لأنَّ نواياهم متضادَّة، وتوجهاتهم متناقضة.

نجد كلاما نفيسا للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة في [كتاب الإحسان ج: 1]. حيث يقول:

“كان النسب القلبي الفطري حياة سارية بالإيمان في أوصال الأمة، وكان أهل النسبة الوثقى أولياء الله تعالى أهل كرامته محطات يشع منها الإيمان الأقرب فالأقرب.

هذا التماسك الموروث بالانتساب القلبي، بالتحاب في الله، والخلة في الله والتواصي بالحق والصبر، كان ولا يزال روح الأمة ومناط وجودها وبقائها ومنعتها على الفتن.

في عصرنا توشك هذه العروة القلبية أن تتلاشى. لذلك يكون المطلب الإحساني أسبق المطالب في سلم الأولويات، ويكون طب القلوب أهم علم، وتطبيقه أهم عمل”. فالإحسان يطهر القلب من الأنانية والأثرة.

نجد أحاديث كثيرة تأمرنا بالتمسك بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنته وأهل بيته. أحاديث تضمن لنا الهدى إن فعلنا. نجد فيها ما يثلج الصدر ويوضح الطريق؛ نجد وصيتين لسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم: “روى الترمذي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا”. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وعَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْباضِ بْنِ سَارِيَة رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون، فقُلْنَا: يَا رَسولَ اللَّه كَأَنَهَا موْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا. فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ” رواه أَبُو داود، والترمذِي وَقالَ حديث حسن صحيح.

مقتضيات التماسك

ولكي يتحقق هذا التماسك نقف مع قول ربنا عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا سورة الكهف، هي دعوة من الله إلى رسوله للاجتماع بالمؤمنين والتمسك بالذين انجمعت قلوبهم على طلب وجه الله وأعرضوا عما سواه. وقد حمد اللهَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الله أن جعل من أمته من يؤمر بمجالستهم، فقال: “الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أنْ أصبِرَ نَفْسي مَعَهُ”. أخرجه الطبري رحمه الله في تفسيره.

فجمع القلب على الله والاجتماع عليه وجمع الكلمة عليه وإفراده بالولاء هو ما يربط جماعة المؤمنين، فالصبر والمصابرة مع المؤمنين، والتحاب في الله والاجتماع والتواصل فيه، كل هذا يجعل المؤمنين جسدا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فنور التوادّ والتراحم هو الذي يُبدد سواد التفرقة والولاء لغير الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

هذا الجمع والانجماع على الله يحتاج لإرادة تتقوى بالصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة، (صحبة سلوك وعمل، لا صحبة تبرك وانغلاق)، وذكر لله عز وجل ودوام الاتصال به، كما يحتاج إلى صدق الطلب؛ طلب وجهه عز وجل، وصدق الاستجابة، وصدق الولاء للجماعة ومشروعها، وباقي خصال الإيمان وشعبه حتى تحيا النفس من غفلتها، وتجتمع بعد تفرقها.

فاللقاءات التربوية والمجالس وبرنامج يوم المؤمن وليلته، والصلاة في وقتها ودعاء الرابطة، كلها تحقق الانجماع على الله، والإقبال عليه والإدبار عما سواه، فيصبح المؤمنون متماسكين على قلب رجل واحد، يحملون هما واحدا، حتى تنتشر في الأمة رحمات الرحمة المهداة نورا وبركة وفتحا مبينا. سيرا على منهاج النبوة الذي مكّن الصحابة رضي الله عنهم من الوصول إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.     

ختاما

يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ سورة الزخرف. يقول الإمام القشيري رحمه الله في معنى الآية: اجتهد من غير تقصير، وتوكل على الله من غير فتور، وقف حيثما أُمرت، وثق بأنك على صراط مستقيم.