ملامِحُ المشروعِ المجتمعيِّ لدى الأستاذ عبد السلام ياسين

Cover Image for ملامِحُ المشروعِ المجتمعيِّ لدى الأستاذ عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

تــأطــيــر:

يقول الحق سبحانه في خواتم سورة “الأعراف”: قل إن صلاتي ونسكي ومحيايْ ومماتِــيَ لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين(الأعراف: 165،164). وجوابا على سؤال رستم قائد جيش الفرس: “ما جاء بكم؟”، وفي رواية: “من أنتم وماذا تريدون؟”، قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه: “نحن قوم ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

وإذا كانت الآيتان الكريمتان تؤطـران حياة المسلم وما يأتيه من الأعمال صغيرها قبل كبيرها، عبادة لله وتقربا إليه، فإن مقالة ربعي بن عامر الجامعة تؤسس لمشروع مجتمعي انتشل الله تعالى به المسلمين من دياجير الجهالة والضلالة والغواية؛ مشروعٌ عنوانه الحرية والعدالة والكرامة، كُفلت فيه الحقوق والحريات، وتفيأ في ظلال العدالة الاجتماعية العباد.

اليوم، وبعد قرون من صولة الحكم العاض والجبري وما بلغت الأمة من انحطاط وهوان، يتطلع المسلمون “إلى تكافل اجتماعي، إلى أخوة باذلة، حانية، مُحبة، تأسو الجراح وتُطلق السراح…” 1؛ تكافل يحرر البشرية وليس المسلمين فقط من “النموذج الجاهلي للتنمية الجامحة التي لا تعرف حدودا، يهدد العالم بالخراب، ويبدد تراث الإنسانية في إرضاء بذخ الأغنياء على حساب المستضعفين في الأرض، ودور الإسلام المنبعث أن يغالب تيارات الاحتكار ويبني نموذج الاقتصاد الإسلامي الأخوي الذي يرضى حاجات الإنسان، كل إنسان، على شرط الكفاية لا التبذير” 2

على سبيل الـتـعــريـف:

المشروع المجتمعي هو “نسق من التصورات التأسيسية حول الإنسان والكون وما يرتبطان به من وجود وحرية ومصير” 3. من جهته، ميز الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بين مفهوميْ الحضارة والعمران، وإذا كانت الحضارة تروم توفير وتطوير “الوسائل المنفعية المادية للحياة الإنسانية الاجتماعية، وذات طابع عقلاني يفرضه تقدم الظروف الطبيعية المادية للعمل والإنتاج والتكنولوجيا، ومدلولها ماديٌّ دنيوي محض. لا تُنْبئ عن شيء من معنى الإنسان ومصيره” 4؛ فــ“إن العمران الأخوي يريد الاستخدام الأمثل للقدرات، واستيعاب كل أفراد الأمة” 5، تحقيقا للغاية الفردية من وجود الإنسان وفاء بمقتضيات العبودية الحقة لله تعالى، وتحقيقا للغاية الجماعية للأمة تمكينا لدين الله وتوفيرا لشروط تكريم الإنسان وتحرره مما يحول دون سماع نداء الهداية.  

فـي خصائص الـمشروع:

وإذا كان “لكل مذهب سياسي عقيدة عليها يبني قواعده” 6، فــــ “ليست الهيكلة التنموية الاقتصادية التصنيعية مُعطىً واقعيا محايدا، لكنها نتيجة لاختيار قِيَميٍّ. ففي أساس إقامتها اختيار لسلوك معين وعلاقات اجتماعية معينة ونمط حياة معين. وعلى الإسلاميين أن يختاروا النمط الملائم لأهدافهم” 7. من هذا المنطلق، اقترح الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله باعتباره مُنظرا لغد الإسلام ومستقبل الأمة، مشروع العمران الأخوي، “لا مجرد حل إسلامي بديل. بديلٍ له، شاء أم أبى، ملامحُ المُبدَلِ منه وحدودُه” 8؛ مشروع قاعدته “المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمـين” 9 يـُخلّص الإنسانية وليس المسلمين فقط مما يسود العالَمَ من “علاقات تجارية باردة مميتة، علاقات الحِساب والربح المادي، واستثمار رأس المال، واللا مبالاة بالإنسان. ويَسود المدينة الصناعية الكبيرة، ومدنَ القصدير، وبوادي الفقر، بؤْسُ العامل الذي حولته الآلة الصناعية لَــوْلَـبـاً من لوالبها، وحـوّلـه بؤسُ البطالة صعلوكا مـخدَّرا، وحـوّلـه استبداد الثري المحلي دابة للحرث والحمل والجوع والتناسل في حظائر الهوان” 10.

مشروع عمران أخوي تميزه خصائصُ منها:

1.    الأصالة: بما هي انسجام مع هوية المجتمع وعقيدته، “فإن أهم ما يضمن للمشروع المجتمعي تطبيقه هو انسجامه مع طبيعة المجتمع. ولعل فشل المشاريع الاشتراكية في المجتمعات المسلمة سببه الأول يكمن في التناقض مع طبيعة هذه المجتمعات” 11.

2.    الشمولية: تحقيقا للتكامل والتناغم بين “التصورات التأسيسية والتصورات الفرعية، وبين مختلف المجالات العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية” 12.

3.    الإجرائية: فـــ “ما كان في الصحف مسطورا، وفي الصدور أملا مطمورا، وفي العقول خطة سابحة في المثالية، يجب أن يصبح برامج حكيمة، قابلة للتطبيق، آخذة في التطبيق، جارية تفرض نفسها بوجودها في عالم الكم والعدد” 13.

4.    الـمستقبلية: “المشروع المجتمعي هو ذلك النسق الاجتماعي الذي يراد بناؤه مستقبلا بعد نقض النسق الاجتماعي القائم… وبعد تطبيقه يصبح نظاما اجتماعيا، وليس مجرد مشروع” 14

شروط تنزيل المشروع:

يتطلب تنزيل المشروع المجتمعي شروطا منها:

1.    حكم راشد، فكما كان الانقلاب على نظام الخلافة الراشدة بوابة الانكسار التاريخي وتدحرج الأمة في دركات الانحطاط والذيلية، فإن الحكم الشوري يعتبر شرط وجوب “لإحلال العمران الأخوي، بل لبدايته…” 15.

2.    وضوح الأهداف: على قدر الوضوح يكون التجاوب. “اعرضوا على الأمة وجها مؤمنا غير منافق، ثم قودوها… لحرية اقتحام العقبة ومسؤولية اقتحام العقبة”. 16

3.    تلاؤم الوسائل مع الأهداف العمرانية الأخوية.

4.    انخراط الأمة الجماعي ومشاركتها “العامة في تنظيم الجهود لبناء القاعدة الاقتصادية الضرورية”. 17

5.    الحاضنة الشعبية: تحتضن المشروع وتتبناه وتبلوره واقعا ونموذجا يعجب ويقنع. فمهما بلغ أي مشروع من شمولية ونضج تصورا، ودقة وسائل وأهداف، ووضوح بسط، لا تعدو كونها نظرية جذابة دون أثر في واقع الناس.

وتبقى هذه الشروط في حكم الأماني ما لم يتوفر شرط أساس ممثلا في نجاح عملية التعبئة واليقظة العامة للأمة، وإلا فمآسي المسلمين القرونية مشخصة في الاستبداد ما كان له أن ينتعش ويتغول ويتمأسس لولا غثائية الأمة؛ نجاح عملية التعبئة واليقظة العامة “يتطلب تحويل الإنسان، وتغيير نفسيته، وسلوكه وضوابطه، وعلاقته مع الآخرين” 18؛ لأن “المشروع المجتمعي يكون بهدف تغيير النظام الاجتماعي القائم، وليس مجرد تعديله أو تقويمه” 19؛ تغيير جذري يُتوسّل له بــ“إيقاظ وازع القرآن في قلوب المسلمين، وتقويته… لتجاوز ما فـي عقول المسلمين من تناقضات، وما في نفوسهم من هزيمة أمام الموت، وما في حياتهم من بؤس مرده إلى الكراهية والشح والجبن والقعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… كيف ننتقل من منطق الأنانية الفردية إلى مجتمع المحبة والتطوع والعطاء والرخاء والعدل والإحسان”. 20

تحديات وعقبات:

واهِمٌ من يعتقد أن تنزيل مشروع يروم تكريم الإنسان وتحرير العباد من ربقة الاستكبار محليِّه وعالـميِّه نزهة وقفز على المراحل، فدونه عقباتٌ وتحدياتٌ تُـقتحم بتوفيق من الله الكريم الوهاب؛ مشروع مجتمعيّ يتطلب التخلص من دمار استبداد تنأى بحمله الجبال، “ومن يريد تغيير واقع الفتنة لا بد أن يحسب حساب الواقع، ليربي الرجال والنساء، وينظم الصف القادر على مسك الواقع المرذول، بقوة وحكمة. عقول متخلفة تحتاج بعد نور الإيمان إلى نور العلم بالله ودينه وإلى العلم بنواميس الله في الكون…” 21؛ تغيير وتربية وتنظيم وتعليم مهمات تنبري لها طليعة مجاهدة نالت حظها من التربية والتأهيل تسير بنموذجية أخلاقية وحضور ميداني بالحال قبل المقال، وبالمواقف المسؤولة قبل الشعارات الرنانة. فليس أصعب من تطبيب أمة درجت لقرون على الوهن والغثائية، فــ “فك رقبة الأمة تربية شمولية تتناول الروح فتبعثها حية من موات، وتتناول الفكر فتنفي عنه السم بإكسير القرآن والجسم الفاشل بفشل روحه وعقله فتسترجله وتستخشنه. وإنه لا إسلام بلا تربية، وإنه لا تربية إلا ببث روح الاستقلال وضبط النفس والثقة بموعود الله ورسوله”. 22

مشروع عمران أخوي يتطلب تنزيله بعد استكمال بناء العامل الذاتي “القيام على السفهاء لاستخلاص نفطنا وذمتنا وشرفنا من يد السفهاء حلفاء العدو… ومقاومة تقسيم العمل الدولي الذي بمقتضاه يستأثر العالمون المخترعون الصانعون بالمغانم المربحة… والتعاون بين المسلمين لمصارعة آليات السوق، ومصانعتها، ومقاومة العلاقات النهبية” 23. مثلما يتطلب أسلمة العلوم والخبرات وتوطين التكنولوجيا، فـ “لن تدورَ رحا القومة الإسلامية وآلياتُها، ولن يستقيم سيرُها، ولن يُحفظ ميقاتُها، ولن يجتمع هم المسلمين على وحدة إن كان الأساس الاقتصادي خِرباً” 24

ومهما كانت العقبات والتحديات، فبشائر التمكين لدين الله وعباده تتوالى، وصبح العزة والحرية والكرامة أقرب من أي وقت مضى، وما هذه الأفواج التائبة المقبلة على دينها مسلِمةً وغيـرَ مسلِمة، وما هذه الحملات لتشويه الإسلام والتشويش على مشروع عمرانه الأخوي تحت مسميات مختلفة إلا دليل على اهتزاز صرح الباطل واستشعار أهله فقدان المبادرة والتحكم في توجيه السفينة البشرية وفق أهوائهم ومصالحهم. فـ “ها هو القرن الخامس عشـر يدُق طبولَ النصـر على رأس الرأسمالية المنتصرة في موكب أحداث تحمل بشائر تغيُّرٍ حثيث واسع هي في آخر المطاف بشائر النصر للإسلام. إن شاء الله العلي العظيم” 25؛ بشائر يبقى أعظمها بعد الوعد القرآني لعباده بالنصر والتمكين متى استوفوا شروط النصر البشارة النبوية العظيمة أن بعد حكم الجبر والعض يبزغ فجر خلافة ثانية تملأ الأرض عدلا وكرامة. ويومها يفرح المؤمنون بنصر الله.

أما بعد:

إنه ومع التسليم بتفرد الإمام عبد السلام ياسين ــــ جدد الله عليه الرحمات ــــ بتأصيل وتقعيد مشروع انبعاث الأمة في شموليته، حيث تناول جميع مجالات تأهيل الأمة وانعتاقها من نير الوهن والغثائية، فألّـف في التربية وقواعد السلوك وتجديد الإيمان، وحاور الإيديولوجيات وناقش أطروحاتها، وحلل تاريخ المسلمين واستنبط منه عوامل إحياء الأمة من مواتها القروني بعيدا عن منطقي التمجيد أو التحامل، وحاور مختلف الحساسيات الفكرية معترفا لذوي الفضل بفضلهم، وقعّد لدولة القرآن مفصلا في نظام الحكم وأسس الاقتصاد مشددا على حيوية امتلاك ناصية التكنولوجيا والتصنيع، وعرّج على عالم الإعلام والثقافة والفنون وعيا بدورها في بناء الشخصية وصيانة الذوق والفطرة السليمة؛ مشروع مهما تميز به من عمق وأصالة في التحليل، واستشراف فـي التنظير، وتدقيق في التوصيف والتشخيص، وشمولية في التناول، وواقعية في الاقتراح، ما كان ليكون له ـــ في تقديري المتواضع ـــ هذا الصدى وهذا الإشعاع لولا جمعه ــــ رحمه الله ــــ بين التنظير والتأطير، اقتناعا منه وهو الخبير التربوي أن الأفكار مهما بلغت من نضج لن تعدوَ أن تكون صيحة في واد سحيق، ما لم تتحول واقعا يراه الناس، ويتفاعل معه الناس، نموذجا معاشا في الميدان.

إنه ولولا هذه الخاصية، خاصية الجمع بين التنظير والتأطير، بين العلم والعمل، من خلال بناء تنظيم وإطار لتربية وتأهيل أفواج من الوافدين على الجماعة ساروا في المجتمع بنموذجية المشروع سلوكا ومواقفَ وبذلا وخدمة ومصاحبة للشعب، فتأكدت نجاعة المشروع ومصداقية صاحبه، فلا عجب أن حوصر الرجل حيا وميتا، وحوربت جماعته بكل أشكال التضييق والتشويش ـــ ولا تزال ـــ وهذا دليل على قيمة المشروع واعترافا بنجاعته وصوابيته. تضييق في الحركة وحرمان من الفعل المجتمعي وحملات تشهير وعدٌّ للأنفاس يرى فيه بعض الأغيار أنه يزيد من منسوب التعاطف مع الجماعة، لكن لسان حال النظام العارف بقيمة مشروع الجماعة وخلفيته العلمية التأصيلية يقول: يا قوم، إني أرى ما لا ترون، إني أرى مشروعا مكتمل الأركان تحمله طينة باءت مع ثباتها كل محاولات الاحتواء بالفشل؛ مشروع آخذ في التبلور مقتحما كل الموانع، وحيث إنه لا جدوى من استئصاله فلا أقل من عرقلته والتشويش على تنزيله.

فرحم الله تعالى الإمام عبد السلام ياسين ورفع مقامه ومقام صحبه أحياء وأمواتا الذين أبلوا البلاء الحسن في بلورة مشروعه المجتمعي، حتى استوى وأضحى يعجب الناظرين ويطمئن المتهممين بغد الإسلام ومستقبل الأمة.

والحمد لله رب العالمين.


[1] العدل: الإسلاميون والحكم. ص: 188.
[2] مجلة الجماعة العدد:1. ص: 21.
[3] مقالة للدكتور محمد منار ـــ الجماعة. نت بتاريخ: 01/04/2003
[4] العدل: الإسلاميون والحكم. ص: 181.
[5] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين. ص: 182.
[6] العدل الإسلاميون والحكم ص:187.
[7] نفسه. ص:443.
[8] نفسه. ص: 182
[9] نفسه. ص: 186
[10] نفسه. ص: 188.
[11] مقالة للدكتور محمد منار ـــ الجماعة. نت بتاريخ: 01/04/2003.
[12] نفسه.
[13] العدل الإسلاميون والحكم ص:190.
[14] مقالة للدكتور محمد منار ـــ الجماعة. نت بتاريخ: 01/04/2003.
[15] العدل الإسلاميون والحكم ص:189.
[16] الإسلام غدا. ص: 672.
[17] العدل الإسلاميون والحكم ص:190.
[18] مقالة للدكتور محمد منار ـــ الجماعة. نت بتاريخ: 01/04/2003.
[19] نفسه
[20] العدل الإسلاميون والحكم ص:204.
[21] المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا. ص: 20.
[22] الإسلام غدا. ص: 680.
[23] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين. ص: 207
[24] العدل الإسلاميون والحكم ص: 234.
[25] نفسه. ص: 317.