صناعة الحرية (30).. كادوا يكونون عليه لبدا

Cover Image for صناعة الحرية (30).. كادوا يكونون عليه لبدا
نشر بتاريخ

“كادوا يكونون عليه لبدا”…

وفي مقابل اضطهاد دعوة ياسين سمحت السلطة -كما اعترف بذلك وزير الأوقاف السابق عبد الكبير العلوي المدغري رحمه الله (ت2017م) 1– لبعض الفقهاء والدعاة والمتطفلين على الميدان، بنشر الفكر المتشدد المستورد، وتلقي الدعم السخي من الخارج، حتى تحولت قِبلة تدين المغاربة إلى فقهاء البترودولار، بل ساعدتهم في ذلك 2، عبر رفع وصاية وزارة الأوقاف عليهم من جهة، حيث كانت لا تستطيع التدخل في المؤسسات الوهابية الموجودة في المغرب ولا في نشاط الأفراد الوهابيين، ومن جهة ثانية حمايتهم من طرف وزارة الداخلية حماية خاصة 3، فأنتج ذلك مما أنتجه شيوع مظاهر التديُّن المرضي من تشددٍ وعنف وتكفير، وتدريب على استعمال السلاح، ولعل ذلك كان بتنسيق مع وزارة الداخلية لأغراض “استراتيجية وجيوسياسية” 4.

وكان أول المستهدَفين من تيار “سلفيي صاحب الجلالة le salafiste da sa majesté” 5بتعبير جيل كيبل هو فكر عبد السلام ياسين؛ تخريف قوله، وشيطنة جماعته، وتغطية انتشار دعوته. وقد رأينا مِن دعاة السلطة من أقدم على القيام بمهمات قذرة، مثل “فبركة” أشرطة سمعية أو مرئية تُحرف الكلم عن مواضعه، وتخلط الحق بالباطل، وتتهم الأستاذ بالخرافة، وتوزعها وزارة الداخلية على الشباب! لكن زعماء نشر الإشاعات -ورغم دعم دول النفط لهم- سرعان ما استغنت السلطة عن خدماتهم فتساقطوا الواحد تلو الآخر، وانفضح خبث فعالهم وتطفيف موازينهم، ولم يبق منهم سوى طفافة تعيش في هامش الهامش لا يسمع لها أحد. أما الأستاذ عبد السلام فلم يرد على أحد، ولم يفرغ مدادا في الدفاع عن نفسه، بل حافظ على سمته ومشى في قصده ولم يلتفت لقيل وقال، وإن أصابه منهم الأذى الكثير.

تبلد القوم وتلبدوا ضد رجل أعزل، ولم يجرؤوا قط على قول كلمة حق لغيره.

وقد قال حاكيا معاناته مع خصوم تكالبوا عليه من كل جانب:

عضَّنا الناسُ بأنيَا.. بٍ كَأطْرافِ الحِرَابِ

وَجِهَازُ الظُّلْمِ أهْوَى.. بِمَخَالِيبِ العُقَاب

يَتَغَذَّوْنَ بِلَحْمٍ.. وَالتَّعَشِّي بالإِهابِ 6

أوْدعونَا السِّجْنَ دَهْراً.. هَدّدوا ضَرْبَ الرِّقَابِ

وَخَلِيُّ البَالِ يَهْذِي.. في غِيابٍ وارْتِيَابِ

هكذا قابضُ جَمْرٍ.. في زَمانٍ ذي انقلابِ

صلِّ يا رب على من.. قَدْ أتانا بالْكِتابِ 7

قلق السجان..

سُجن الرجل في بيته لعل صوته ينكتم ولعل الجدران تحبسه من أن يصل إلى الغير، لكن الذي وقع هو العكس تماما، فالمحاصَر أصبح محاصِرا، والسجّان انقلب سجينا لمظلمته، والسجين صنع حريته من حصاره، وكما قال برناردشو: “أكثر الناس قلقاً في السجن هو السجان” 8، فما إن تسامع الناس خبر الحصار وخبر الرجل المحاصَر والرأي الـمُصادَر حتى ازدادوا طلبا للتعرف عليه ويقينا بصدق دعوته وقوة موقفه وثباته على الحق. وكل ممنوع مرغوب كما يقال.

الأستاذ وهو يتصفح أحد الكتب..

وتناقل الناس كتب الرجل وأشرطته المرئية والمسموعة ورسائله 9، وأعداد مجلة الجماعة من يد ليد، ومن مدينة إلى أخرى، ومن المغرب إلى الخارج، وهكذا انتشرت كلمة الدعوة أكثر مما سبق، واستوت التجربة على سوقها شجرة عميقة جذورها وباسقة أغصانها ويانعة ثمارها، تمد الـ“جسور من أجل الحوار” 10 مع الجميع، ومن داخل السجن.

حصار رجل وحصار أسرة

الأستاذة ندية ياسين أثناء محاكمتها بسبب رأي عبرت عنه في حوار أجرته معها جريدة “الأسبوعية الجديدة” (عدد 33، 2- 8 يونيو 2005م)

لأسرة الأستاذ طبعا -والدته رحمها الله (ت1987م)، وزوجه رحمها الله، وأبناؤه وأصهاره وأحفاده- أفضالٌ كثيرة في الدعوة، وقد كانوا صلة الوصل بين المرشد ومجلس الإرشاد وباقي قيادات الجماعة، وفي بناء العمل الجماعي وتطوره وتوسعه وإشعاعه، كما لها أيضا ذكريات تضحيات واعتقالات، منها اعتقال نجل الأستاذ المهندس كامل ياسين، أثناء محاكمة والده في الجلسة الأولى في يناير من سنة 1984م، وهو دون سن العشرين، واعتقال الأستاذ عبد الله الشيباني وتعذيبه وسجنه سنتين، ومنع زوج الأستاذ السيدة خديجة المالكي رحمهما الله وابنه المهندس كامل ياسين والأستاذ منير ركراكي وزوجه كريمة صليان رحمها الله (ت2005م) من أداء فريضة الحج عام 2000م 11، ومحاكمة الأستاذة ندية ياسين بسبب رأي عبرت عنه في حوار صحفي 12.

وليس هنا موضع التوسع في مشاركة هذه الأسرة النموذجية وتضامنها وتحمّلها، في جميع فترات السجن الثلاث (من 1974 إلى 2000م) والذي يحتاج بمفرده كتابا خاصا.

وأكتفي بتصريح السيدة خديجة المالكي رحمها الله بخصوص مرحلة الحصار، حيث قالت: “كانت أيام الحصار صعبة، إذ حتى أمي رحمها الله مُنعت من زيارتي، كما مُنعت ندية لفترة من دخول المنزل. وحُرم الأبناء من حقهم الطبيعي في الخروج مع والدهم” 13. فتعدى أذى الحصار الرجل إلى أسرته وأصهاره وعائلته. والشعب بأكمله.

 


[1] انظر: حوار مع عبد الكبير العلوي المدغري، في موقع الجزيرة (www.aljazeera.net)، يوم 11 نونبر 2006م، وشوهد في 20 ماي 2020م.
[2] انظر: المدغري، عبد الكبير. الحكومة الملتحية: دراسة نقدية مستقبلية، دار الأمان، الرباط، ط1، 2006م، ص 61.
[3] المرجع نفسه، ص 64.
[4] المرجع نفسه، ص 65.
[5] كيبل، جيل. حوار مع جيل كيبل، جريدة أخبار اليوم المغربية، العدد 1060، بتاريخ 11-12 ماي 2013م.
[6] الإهاب هو الجِلد.
[7] ياسين، عبد السلام. قطوف (ديوان شعر)، مرجع سابق، قطف رقم 213، 3/65.
[8] سلامة، موسى. برنارد شو، مطبوعات كتاب، مصر، د.ط، 2013م، ص 164.
[9] دوَّن الأستاذ العديد من الرسائل وبمناسبات كثيرة ولأشخاص وهيئات، منها رسائل إلى وزارات، ومنها رسائل إلى المعتقلين، ومنها رسائل إلى أعضاء مجلس الإرشاد، ومنها رسائل إلى أصدقاء، ومنها رسائل إلى الطلبة، ومنها رسائل إلى بعض أعضاء الجماعة، لو جمعت وطبعت في كتاب لكانت مادة خصبة للباحثين في فكر الرجل ومنهج عمله.
[10] عنوان فصل في كتاب “مقدمات في المنهاج” الذي كُتب في سجن لعلو. وسيأتي الحديث عنه في فصل التأليف في السجن.
[11] انظر البيان الذي أصدرته الأسرة بمناسبة منعها من أداء فريضة الحج، في عهد حكومة التناوب. ضمن فصل الملاحق.
[12] في حوار مع جريدة “الأسبوعية الجديدة” في عددها 33، 2005م، وقد كتبتُ آنذاك مقالا في الموضوع تحت عنوان “سؤال العقل في محاكمة ندية ياسين”، منشور في موقع الجماعة (aljamaa.net) بتاريخ 4 يوليوز 2005م، وشوهد في 20 أبريل 2020م.
[13] المالكي، خديجة. “الإمام زوجا وأبا”، مرجع سابق، ص 13.