ساحة السرايا: إشارات ودلالات

Cover Image for ساحة السرايا: إشارات ودلالات
نشر بتاريخ

بقلم: سعيد مهتدي

مهما سالت بحور المداد في التعبير عما حدث في غزة حين طوفان لأقصى وبعده ستظل الأقلام عاجزة عن توصيف ما حدث. يقف العقل عاجزا عن الإدراك التام لفصول هذه الملحمة التاريخية بالمقاييس البشرية، غزة أقبرت وحماس استهدفت منذ اليوم الأول للحرب، فمن يصمد أمام تحالف دولي خبيث النوايا مستعد لتجريب كل أنواع الأسلحة الفتاكة في بيئة حية مثالية. بل إن أشد المتفائلين والمتعاطفين مع المقاومة، ظل يقنع نفسه بأن حماس وإن اختفت كقوة ضاربة ستظل فكرة خالدة نؤجج بوهجها مشاعر أبنائنا وأحفادنا ببيان مشوق على منوال: كان يا ما كان… كان هناك رجال، ليسوا ككل الرجال هاجموا الصهاينة كطوفان وصمدوا أمامهم كجبال وعاملوا أسراهم كملائكة. لا يفرون ولا ينهزمون ولا يؤسرون. لغتهم الوحيدة النصر أو الشهادة …

في ساحة السرايا بطلت كل العقائد العسكرية والأعراف الحربية وارتفع صوت الحقيقة الأوحد: وأعدوا لهم ما استطعتم… إن تنصروا الله ينصركم…

من ساحة السرايا انطلقت الجولة الثانية من الحرب ينتقم فيها الضحية من جلاده والشهيد من سافك دمه. في العرف الإنساني المجرم يقتل ضحيته مرة، ولكن روح الضحية تستمر في التنكيل بقاتلها مدى الحياة. من ساحة السرايا بدأ القصف والعصف فيما تبقّى من قلاع الكبرياء الصهيوني الواهي، أرواح الشهداء استحالت أبابيل للثأر: الروح بالروح والدم بالدم والهدم بالهدم… حقا لم نكن ندرك أن فصولا مثيرة ستأتي تباعا بمجرد الإعلان عن الهدنة/ النصر المبين.

بين يدي الهدنة

إلى وقت قريب صدر حكم حاسم صارم بالقضاء على المقاومة عموما وحماس خصوصا، وتبجحت الآلة العسكرية الصهيونية ألا مكان لحماس في غزة بله في الساحة السياسية الفلسطينية. وتناغمت مع هذا القرار الآثم كل القوى المعادية للتحرر الفلسطيني وعلى رأسها أمريكا، وبما أننا عشنا حربا غاب التكافؤ في بدايتها فقد غاب المنطق في ختامها، فصار من كان يعمل على إزاحة “حما س” يخطب ودها من أجل هدنة تضخ الحياة في صنمه المتهاوي، فهذا بايدن “الآفل” يعلن في خطابه الأخير أنه صاحب الفضل في تحقيق الهدنة مع حماس، ولم تكد تصل كلماته إلى أذان الأمريكيين حتى سحب ترامب “المتعجرف” البساط من تحت قدميه معلنا بـ”أناه الأدنى”: لولا “أنا” ما كانت الهدنة لتخرج إلى الوجود. كل منهما يرنو إلى “تسجيل هدف في مرمى بلا حارس وخارج توقيت المباراة”، ولكن حماس تظل سيدة الموقف.

ساحة السرايا… من منصة لإطلاق الصواريخ إلى منصة لإطلاق الأسرى.. سلاحان مختلفان ووجع واحد:

شاءت الأقدار المصنوعة بسواعد المجاهدين أن يكون تسليم الأسيرات في ساحة السرايا التي كانت أعين الصهاينة ومخططاتهم ترتكز على جعلها مركز القيادة العسكرية بعد سحق المقاومة نظرا لموقعها الاستراتيجي (حسب تقارير صهيونية).

وكنا نتصور أن الصفقة ستنطلق بعد غروب الشمس بكثير أو قبيل شروقها بقليل، وبين أبنية متهالكة وأعمدة دخان خفيف يتصاعد من الركام في جو شتائي كئيب، وأهل غزة في خيمهم ينصتون إلى أنين أوجاعهم، وسيارات الصليب الفخمة رباعية الدفع ينزل منها رجال في مهمة سياسية أكثر منها إنسانية، وبالمقابل مجموعة رجال بملابس شبه عسكرية في سيارة مهترئة اختفى بعض طلائها بفعل الحرب والحصار. يسلم هؤلاء لهؤلاء أسيرات في موقف بارد برودة فصل الشتاء. ولكن المفاجأة أن كل شيء تم في صورة تعجز “الآلة الهوليودية” عن الإتيان بمثلها، مشاهد بقمة الإبداع وبعفوية في قمة الوفاء، شباب يضحكون ويهتفون في فوضى جميلة خلاقة أفضل من فوضى (برنارد لويس) عراب الفوضى الخلّاقة.

صفقة في طياتها بيعة

كان المشهد مهيأ لانتقال ثلاث أسيرات من مكان إلى مكان، ولكن الذي غاب عن الصهاينة أن هناك بيعة رجولية بطولية جرت أطوارها الرمزية في ساحة السرايا، وهي انتقال شعلة البطولة والجهاد والثبات القسامي إلى الأجيال الناشئة، وتم التقاط رسالة “مشفرة” مفادها أن خزان المقاومة البشري بخير ليس فقط كميا ولكن نوعيا أيضا، شباب رغم حداثة أعمارهم أقوياء البنى، متحفزون متوثبون، لهم قدرة فطرية على تحمل ضغط المحن، مادة خام لصناعة رجال لا يقهرون. وكم كان مثيرا أن يستلم أحدهم عصابة خضراء من أحد عناصر كتائب القسام ويلف بها رأسه الصغير بزهو وافتخار.

الكتائب في أبهى حلة

من حق المنتصر أن يحتفل، ومن متطلبات الاحتفال لباس يليق بالمناسبة، وأجمل لباس اللباس العسكري الأنيق النظيف المتكامل. فلا عجب أن تظهر عناصر القسام كتماثيل نقشها الصمود بعناية حتى في أدق التفاصيل: الأحذية والشارات والعصائب والرشاشات…

قوة في الإعداد، وقوة في المعركة، وقوة في التفاوض، وقوة في التموقع عند تسليم الأسيرات. خطة حربية متكاملة الأركان.

ردع غير مسبوق في صباح السابع من أكتوبر، ورجولة في حرب الخمسة عشر شهرا، وحنكة في مفاوضات كسر العظام، وإخراج مثالي في تدبير بنود الهدنة.

هدايا تذكارية

أي نفس حربي هذا؟! هل يملك رجل الجهاد مساحة في عقله المجهد بالخطط الحربية للتفكير بإبداع، متناسيا الآلام والأولويات الملحة، ليفكر في تفاصيل تبدو تافهة كهدايا تذكارية في لحظة ضغط هائل؟

ولكنها عندما وضعت في السياق، بدت كحبة التوت التي أضفت على الكعكة بهاء غير متوقع، مما عمق جراح الصهاينة: الهدايا التذكارية الرمزية أقوى دلالاتها أننا قبضنا على الأسرى بإرادتنا وأطلقناهم بإرادتنا واخترنا المكان المناسب لتسليمهم بإرادتنا. وإن عدتم عدنا. بل ونعود وقتما شئنا…

فرحة مشروعة وتوتر مسعور

شباب يملأون جنبات الشارع المتهالك مع ابتسامات وضحكات لا تخفي ولعها بالمقاومة ورجالات المقاومة. لسانهم يردد بصوت واحد: تحية للكتائب.. عز الدين. تحية للكتائب.. عز الدين. ولسان حالهم يقول: وددنا لو كنا معكم، نقتحم كما اقتحمتم، ونصمد كما صمدتم، وننتصر كما انتصرتم…

الإنسان الغزي بشر ولكن ليس ككل البشر. عبور الغزاويين من مشاعر الألم إلى مشاعر الأمل يستحق وقفة متأملة. من المعروف عن السيكولوجية البشرية أنها بطيئة التعافي من جروح الحرب، هذا إن لم تنتج عنها عاهات نفسية مصاحبة مدى الحياة. هل هذا الاستثناء عائد إلى كثرة الحروب التي عاشها هؤلاء؟ أم هذه بعض مواصفات الطائفة المنصورة، كما وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

بل حتى أرضهم تحذو حذوهم، سرعان ما تعود إليها الحياة، وتتحول من دمار مادي إلى عنفوان معنوي لكثرة ما أسقيت به من دماء الشهداء.

تضامن وفرح

قبل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين توجه العدو الصهيوني بالوعيد الشديد للأهالي كي لا يظهروا صور الفرح بلقاء أحبتهم العائدين. وكأن الفرحة مصدر قوة وحالة شعور ملهم تجعل صاحبها يدرك الأبعاد الحقيقية لواقعه فيتوق إلى الحرية ويتهيأ لأداء ثمنها مهما كان. يريد الصهاينة شعبا مقهورا ينزوي إلى القناعة بكسرة خبز ورقعة ثوب تحت رحمة منظمات إغاثية وسلطة متصهينة فلا يهدد وجودهم الآني والمستقبلي. الفرح بالنصر يؤذي كبرياء الصهاينة ويصيبهم في مقتل، شعب تعيس ورث الشقاء والتيهان أبا عن جد لا شك يؤلمه الفرح بالنصر، ومن هذا المنطلق فليكن فرحنا بغزة طويلا، إذا قصرنا في مواكبة الصمود البطولي للمقاومة بالحضور المكثف للوقفات التضامنية، فليكن الفرح بنصرهم عزاءنا. لقد غدا الفرح جزءا من مناصرة إخوتنا في غزة.

لِنفرح ولنظهر فرحتنا، فهناك جولات قادمة من الفرح فلنكن في الموعد.