بدأ التطبيع الرسمي للنظام السياسي المغربي مع الكيان الصهيوني، في كسر لكل الأعراف الديبلوماسية بين دول ذات سيادة، بتغريدة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على منصة تواصل اجتماعي أخرجت ما كان مخفيا منذ عقود، ووضعت نقطة النهاية لنجاح إدارة ترامب إلى جر أربع دول في سنة واحدة نحو مساق التطبيع قبل مغادرته للمنصب الرئاسي.
وقد كان يوم 22 دجنبر 2020 آخر الفصول في المشهد الكاريكاتوري لهذا الانحدار الرسمي بتوقيع رئيس الحكومة المغربي، بحضور الملك، لإعلان مشترك بينه و«جاريد كوشنر»، صهر دونالد ترامب والمستشار الأمني لرئيس الوزراء الصهيوني «مئير بن شبّات»، اللذين وصلا إلى الرباط من عاصمة الكيان في أول رحلة رسمية بينها وبين المغرب؛ إعلان أُسس له بمدخل الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب، لم تكن غير ذلك قبله، على صحرائه، ليعرج على تمسح تمويهي بالقضية الفلسطينية، لينتهي إلى خندق عميق من التطبيع السياسي والديبلوماسي والاقتصادي، وما سيلي هذا التطبيع المعلن من خطوات محمومة في اتجاهات شتى.
التطبيع العربي الرسمي: المداخل متعددة والحشر واحد
حاولت البروباغندا الرسمية تسويق أن المغرب دُفع إلى خندق التطبيع من مدخل الاعتراف الأمريكي على صحرائه، والذي لا يعني بالضرورة اعترافا أمميا أو حتى دوليا بهذه السيادة، التي تشكل الجبهة الداخلية عنصر القوة الأولى لها، في ظل عدم الثبات المميز للعلاقات الدولية التي تبقى لغة المصالح هي لغتها الوحيدة بعيدا عن الالتزام بالمعلن، وإلا فمصير الاتفاق النووي مع إيران الذي أوقفه ترامب بجرة قلم خير دليل على عدم جدوى الرهان على مواقف الدول أكثر من الرهان على الالتفاف الشعبي حول قضايا الوطن.
تبرير اختلف في شكله عن التبريرات التي قدمتها الدول الثلاثة الأخرى؛ فالإمارات والبحرين مثلا اختارتا الفزاعة الإيرانية لصناعة عدو/جار مفترض بحثا عن تحالف أمني وعسكري إقليمي لا بأس أن يكون ضمنه العدو الحقيقي ضد هذا العدو المفترض، في حين بررت السودان سقوطها في فخ التطبيع بمطمح رفع العقوبات الأمريكية الظالمة على هذه الدولة.
اختلفت المداخل والحشر واحد لأن الخطة المعدة سلفا بإحكام كانت واحدة، وهي أن الطريق الوحيدة المؤدية إلى البيت الأبيض تمر بالضرورة من عاصمة الكيان الصهيوني المغتصبة، بل كانت الرسالة الأعمق للجالسين على كراسي الحكم السلطوي في العالم العربي أن الاستمرار أيضا فوق تلك الكراسي لن يكون إلا بضمانة أمريكية تقدم عبر الصهاينة لا غيرهم.
من السر إلى العلن.. ومن السلام البارد إلى دفء التعاون
إن لم يكن المغرب الرسمي أسبق الدول التي طبعت علنا مع الصهاينة، فإنه كان من أسبقها إلى التعامل المعلوم غير المصرح به أو المغلف بقضايا وظفت للتبرير ليس إلا، من قبيل الحديث عن وساطة مغربية بحثا عن “حل عادل ودائم بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية”!!.
تعود العلاقات بين الطرفين إلى بداية استقلال المغرب، حيث أكدت عدد من الدراسات وجود تنسيق مغربي صهيوني في مسألة تهجير اليهود المغاربة إلى دولة الاستيطان خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بل ذهبت أخرى إلى الحديث عن دور سياسي للمغرب في توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والدولة الصهيونية سنة 1978.
هذه العلاقة التقليدية خرجت إلى العلن رسميا بعد اتفاقية أوسلو حيث تم تأسيس مكتبي اتصال رسميين لدى الجانبين سنة 1994، لتشهد بعد ذلك العلاقة برودا فرضته تموجات القضية الفلسطينية خاصة بعد أن فرضت انتفاضة أطفال الحجارة سنة 2000 معادلتها على الاحتلال، وأربكت الدول المُطبِّعة معه وبالخصوص المغرب الذي كان له دور رمزي باعتبار ملكه هو الرئيس الدائم للجنة القدس، وما يستلزمه هذا الدور من تدخل مفترض لإيقاف مسلسل التهويد والتقتيل والاستيطان الذي يطمس الهوية الإسلامية العربية للقدس وفلسطين، فكان التعامل البارد عنوان هذه المرحلة.
وقد شكلت ظروف الجائحة التي عمّت العالم سنة 2020 وما صاحبها من تدابير استثنائية وتقييدات للحريات والحقوق، فرصة سانحة للدولة المغربية للخروج من التطبيع المخفي إلى الإعلان الصريح لتفادي التكلفة الاحتجاجية والرفض المجتمعي الذي من المتوقع أن يصاحب الخطوة غير المسبوقة، والتبرير الفج لمساق التطبيع وربطه بالقضية الوطنية، وكذلك كان ولا يزال الرفض الشعبي تصدح به حناجر المغاربة.
خطوات متسارعة ومخترقة لكل المجالات بيّنت أن التطبيع غاية وليس وسيلة كما روج لذلك، وهو بحث عن علاقات دافئة مع بوابة أمريكا وليس بحثا عن سلام مزمع يتاجر بدماء الفلسطينيين.
مجالات التطبيع: تعاون أم اختراق
لم تغب هذه المجالات يوما عن مسارات التطبيع المغربي مع الكيان المحتل لفلسطين، إنما تم إخراجها من المناطق الرمادية إلى الأضواء المكشوفة المفضوحة؛ مجالات دخل لها الصهاينة باستراتيجية محكمة التخطيط وبأهداف مستقبلية غاية في الخطورة تستهدف مقومات وهوية الأمة المغربية، بل تستهدف عمقها المغاربي والعربي والإسلامي، مقابل هرولة الدولة إلى تسهيل كل مسالك التطبيع دون أي تحصين للمقومات السالفة الذكر، فرَبِيبة أمريكا أغلى من الشعب المغربي ومصيره في وعي المطبعين.
ويأتي المجال الأمني في مقدمة هذه المجالات الذي لم يكن حدثا جديدا، بل هو استمرار لعلاقة وتعاون بين الطرفين توظفه “إسرائيل” لملاحقة المقاومين الفلسطينيين والعرب، وبالمقابل توظفه الدولة المغربية لملاحقة المغاربة كما حدث مؤخرا مع فضيحة برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي الذي وظفته الأجهزة الأمنية المغربية للتجسس على عدد من النشطاء والحقوقيين والصحفيين المغاربة.
وقد تطور هذا “التعاون” الأمني مؤخرا إلى تزويد المغرب بأسلحة إسرائيلية مهددة للأمن القومي المغربي أولا، لكونها غير محمية من إمكانية احتوائها على معدات التجسس والتحكم عن بعد، وأيضا مهددة للأمن القومي المغاربي والعربي في ظل تصعيد الخلاف غير البريء بين الدول المغاربية والعربية.
كما يعد التطبيع الاقتصادي من المجالات المهمة التي استهدفها التطبيع السابق والحالي، فقد قُدّر حجم المبادلات المغربية الصهيونية سنة 2015 بنحو 33 مليون دولار منها 22 مليارا عبارة عن صادرات إسرائيلية نحو المغرب، وقد قفز حجم هذه المبادلات الثنائية سنة 2017 إلى حوالي 37 مليار دولار، مما يرتب المغرب في الشركاء الأربعة الأوائل للدولة العبرية داخل القارة الإفريقية.
ويستثمر الصهاينة بالمغرب أساسا في المجال الزراعي الذي يعد القطاع الحيوي في الاقتصاد المغربي، ومجال تكنولوجيا المعلوميات الذي لا يخلو كما أسلفنا من خطوة الاختراق والتجسس التي يبرع فيها الصهاينة. أضف إلى ذلك المجال السياحي توافدا واستثمارا مع ما يفتحه هذا القطاع من فرص كبيرة للصهاينة للقيام بأعمال استخباراتية واختراقية تحت غطاء السياحة وهم سادة هذا المجال. فهل أمن المغرب مكر الصهاينة حتى يفتح لهم هذه القطاعات الحساسة والاستراتيجية على سبيل المثال لا الحصر؟
المجال الثقافي والتعليمي كان بوابة أخرى فتحها المغرب للصهاينة ذوي العقيدة الصلبة التي لا تتأثر بأي ثقافة أخرى بقدر ما تخترق الثقافات، وتحرفها عن أصولها وتفكك الهويات الوطنية الجامعة، وتزرع أصول الخلافات وتأججها وتغذي النزعات العرقية والطائفية لتفكيك أوصال المجتمعات العربية والإسلامية كما تروي سجلات أجهزتهم المخابراتية.
تظاهرات تستهدف الوعي الجمعي بالذات والانتماء للدين والتاريخ والجغرافيا تحت غطاء الثقافة، ومنح دراسية وتسهيلات ملاحية لجلب الطلاب وغيرهم للتصديق على الواقع الذي فرضه الصهاينة على الأرض والمواطن الفلسطينيين بقوة الحديد وبأس التقتيل والتهجير والاستيطان والتهويد تحت مسمى البعثات العلمية والسياحية.
فأي فائدة سيجنيها المغرب من تسليم ناشئة البلد لقوم يتقنون الفتك بالإنسان قبل الأوطان؟ وإلى أي هوة سحيقة سيصولها المهرولون إلى التطبيع هذا المجتمع ومصالحه ومقومات وجوده؟
ماذا جناه الأولون من التطبيع لننافسهم عليه؟
إن سلمنا تجاوزا أن الدولة المغربية لم تكن أول المطبعين علنا مع الصهاينة، فقد سبقها إلى ذلك من سبقها من دول كان بعضها درعا حامية للعرب في سلسلة المواجهات العسكرية مع الاستيطان الصهيوني، يوم قررت الأنظمة العربية أن تتساوق مع الواجب الشرعي والأخوي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني الذي تكالبت عليه العصابات الصهيونية بتمويل وغطاء من أعتى دول العالم آنذاك قوة وجبروتا. فأين وصل بهم الوضع اليوم؟
الجواب ما ترى لا ما تسمع كما يقال؛ فبعد التطبيع المصري مع الكيان الصهيوني فقد هذا البلد مركز الثقل العربي والإسلامي والإقليمي الذي حظي به جرّاءَ تزعمه لمحور مقاومة الوجود الصهيوني في فلسطين، فقد كبله التطبيع بسلسلة من القيود السياسية والأمنية والعسكرية، بل حوّل الصهاينة هذا البلد إلى عصا غليظة يعاقب بها الفلسطينيين ويبتزهم في المفاوضات مقابل فتات فتح المعابر وغيرها.
وزد على ذلك رهن الاقتصاد والمجتمع المصريين بعقود اتفاقيات اقتصادية غير متوازنة تميل كفتها دائما للدولة الصهيونية، ويمكن الاستدلال هنا بمؤشر واحد لكنه بليغ التعبير عن واقع الحال في مصر، فبعد أن أبرمت مصر عقودا لتزويد “إسرائيل” بالغاز الطبيعي منذ سنة 2005 بأثمان تفضيلية وامتيازات متعددة، انقلب المشهد فأضحت مصر اليوم تستورد الغاز من الكيان بأثمان مبالغ فيها، بل تحدثت بعض التقارير الإعلامية على أن “اسرائيل” استغلت “توقف مصر عن تصدير الغاز إليها، لابتزازها من خلال دعوى تحكيم دولي قضت في فبراير 2018 بتغريم القاهرة أكثر من مليار دولار”.
هذا غيظ من فيض، وليس المشهد بأحسن حال في البلد الثاني الأردن. فماذا جناه الأولون من التطبيع لتنافسهم عليه الدولة المغربية ومن سار في ركبها من المطبّعين؟!