الدَّرس الماركسيّ أو”الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”

Cover Image for الدَّرس الماركسيّ أو”الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”
نشر بتاريخ

مدخـل: ماذا بقي من الكتاب؟

ما الذي يمكن أن يبرِّرَ العودةَ لـ”قراءة” كتاب يبدو من خلال عنوانه وكأنه أصبح متجاوزا؟ فالماركسية اللينينية لم يعد يعتبرها أحدٌ تحديا لا للإسلام ولا لغيره؛ نعم هناك في الغرب الآن من ينادي بضرورة “عودة ماركس” الفيلسوف، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت الغرب ابتداء من سنة 2008 1 ، لكن لا أحد يَحنُّ أبدا لعودة حواشي التلاميذ وشروحاتهم النظرية وتطبيقاتها العملية.

فإذا كانت عودتنا للكتاب لمجرد الرغبة في التأريخ للحياة الفكرية وتطور النسق الفكري لرجل يُعدَّ بحقّ مجددا في الفكر الإسلامي المعاصر لكان كافيا، لكن المسألة تأخذ أبعادا أعمق لكلّ من عاد وقرأ المتن بعين متفحِّصة ناقدة.

ذلك أنه سيقف فيما يشبه الاكتشاف على أن الكتاب مازال يحتفظ براهنيته الشديدة، على مستوى الموضوع والرؤية والمنهج.

فالأستاذ عبد السلام ياسين ـ رحمه الله ـ صاحب “مدرسة فكرية” تمتلك رؤية معرفية متكاملة، مدعمة بعُدَّة منهجية وترسانة مفاهيمية أصيلتين ونادرتين، هي بمثابة مفاتيحَ عملَ بواسطتها الأستاذُ على معالجة العديد من “الأبواب المعرفية” وفتحها؛ فنراه يجربها في نقد “القومية العلمانية” ونقضها، وفي تفكيك قضايا الديمقراطية وإعادة تركيبها، وفي تفسير التاريخ والتموقف الحادّ من وقائعه وأحداثه، وفي خلخلة بناء الحداثة العصيِّ ومحاولة أسلمة فتوحاتها، وقبل هذا وذاك في تربية الإنسان وتحريره؛ وهو هاجس الأستاذ وشغله الشاغل في كل كتاباته.

لقد وظَّف الأستاذ ياسين في كتابه، موضوع الدراسة، عـدّته تلك لمخاصمة ونسف نظرية الماركسية اللينينية وتطبيقاتها كنموذج للفلسفات المادية التي تريد تنميط الإنسان واختصاره في “البُعد الواحد”، عملا بالمبدأ المنطقي الذي يروم نسف ما يُعتبر بناء قويا ومتماسكا ومن ثم يسقط بالتَّبَع كل بناء أقل تماسكا.

العنــوان

1.

أول ما يثير انتباه المتتبع للكتابات الأولى للأستاذ أن عناوين أغلبها تبدأ بـكلمة “الإسلام” معرفة بـ”ال”: “الإسلام بين الدعوة والدولة” و”الإسلام غدا” و”الإسلام والقومية العلمانية” و”الإسلام ساعة الثورة” و”الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”، وقد تخلى عن هذا النهج فيما تلا من كتب، لأنه ـ كما يبدو لي ـ قد اقتنع بأن ذلك يعطي الانطباع للقارئ بأنه يطابق بشكل كليّ بين “وجهة نظره” وبين “الإسلام”، في حين أن تصوره ما هو إلا “مدرسة” داخل الإسلام، وهذا يعني أنه أراد أن يسحب البساط من تحت أقدام من يمكن أن يتهموه بأنه “يحتكر الحديث باسم الإسلام”.

2.

أما عنوان كتابنا؛ وهو “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”، فإنه من الجلي جدا أنه يضع الإسلام والماركسية اللينينية على طرفي النقيض، لأنه حتى وإن التقى الطرفان على المستوى العدلي، فإنهما يتدابران ويتخاصمان في رؤيتيهما لقضايا الله والإنسان والطبيعة ونوعية العلاقة التي يجب أن تسود بينها، ما دام أن الماركسية لا ترى في الدين سوى أفيونا للشعوب، ولا يتسامح “الإسلام” معها أبدا لأنها تلغي كل عناصر الغيب من حساباتها، وتختصر التاريخ في مجرد صراع أزلي بين الطبقات. ورغم ذلك يعترف الأستاذ بأن هذه النظرية تشكل تحديا حقيقيا للإسلام. أما بأي معنى، فهذا ما سنحاول إبرازه فيما يلي من سطور.

الرجل والفكرة

1.

لن نتكلم عن “الرجل” هنا إلا بمقدار ما يخدم تقريبنا للكتاب ومنهجيته وقضاياه، ومن ثم فإننا نشير إلى أن القارئ المتمعن في كتابات الأستاذ ياسين سيجد نفسه ـ وبدون مبالغة ـ أمام شخصية علمية فريدة، استطاع أن يبني لنفسه ـ وبتوفيق من الله تعالى ـ مدرسة فكرية تمتلك رؤية معرفية أصيلة، اتكأ عليها ليؤسس لمشروع مجتمعي لا يكتفي بتفسير التاريخ وتعليل وقائعه ومجرياته، ونقد الحاضر وتفكيكه، بل يبني على كل هذا ويتجاوزه إلى طرح بدائل تروم تغيير ما بالأمة من وهن وتخلف.

وأكثر ما يميز كتابات الأستاذ أمور لا يسمح المقام بالتوسع في بيان مقوماتها، ونقصد بها أصالة الطرح، وفرادة الأسلوب، ومحاربته الشديدة للتبسيط والنمطية، ورفضه لـ”الموضوعية” الباردة، أما الواقعية فيمارسها بنية التعبد في محراب لا يشبه أبدا برج المثقفين العاجي. كل هذا يمنحنا نسجا على غير منوال، كما كان يحب أن يقول دائما.

2.

أما “الفكرة” فنجملها في النقط التالية:

ـ في الكتاب محاكمة للحضارة والثقافة الغربيتين وما أنتجتا من فلسفات تشييئية للإنسان وسالبة لمعناه، ممثلة هنا في الماركسية اللينينية، فليست الماركسية إلا شقا من جاهلية الغرب المعاصرة.

ـ في الكتاب إظهار لتهافت الفكرة التي تحاول أن تفرق بين النظرية وتطبيقاتها، فتلصق الخطأ بالتنزيل رغبة في تبرئة التصور من كل عيب.

ـ في الكتاب تنبيه للشباب المغتر بكل صيحة فكرية، خاصة إذا كانت ترتكز على الشق العدلي، لئلا ينقاد ويستجيب لكل منادٍ بصوت العدل والكرامة والحرية حتى يمحص التصورات والمواقف.

ـ في الكتاب دعوة للخروج من ضيق الفلسفات المادية المتعددة والانتماء لرحابة الإسلام واتساعه.

ـ لكن الهدف الأكبر من الكتاب ـ كما يبدو لي ـ هو تنبيه الإسلاميين إلى ضرورة إعطاء المسألة الاجتماعية ما تستحقه من اهتمام، وإلا سيستغلها من لا يمكن استئمانه على مستقبل الأمة ورسالتها.

سياق الكتابة والنشر

1.

جرت العادة عند الأستاذ ياسين أن يميز بشكل واع بين “زمن الكتابة” و”زمن النشر”، فإذا استثنينا بعض الكتابات السياسية التي كانت تستهدف المشاركة في مناقشة قضايا أثير النقاش حولها في الصحف والمنتديات الوطنية، كالموقف من الديمقراطية مثلا، فإن أغلب كتاباته لم تنشر إلا بعد أن أخذت وقتا كافيا من الانتظار، انتظار الزمن والظروف المناسبين.

وكتابنا من هذه النوعية، حيث كتبه الأستاذ في سجن لعلو بالرباط، بين سنتي 1983 و1985 حيث كان معتقلا بسبب ما جاء في افتتاحية العدد العاشر من مجلة “الجماعة” 2 ، والتي كانت عبارة عن ردٍّ على الرسالة الملكية “رسالة القرن”، ولم يصدر إلا شهر يوليوز من سنة 1987، وبعد شهرين؛ أي في سبتمبر من نفس السنة سيتم الإعلان عن اسم “جماعة العدل والإحسان”، وقد أحيل بعدها الأستاذ مباشرة على التقاعد.

2.

عندما دخل الأستاذ ياسين المعتقل كانت قد مرت سنتين فقط على انتفاضة 1981 الاجتماعية، وفي الوقت الذي كان يكتب فيه كتابه في السجن كان المغرب يعيش على صفيح ساخن؛ حيث اشتعلت انتفاضة 1984، والتي تعرف بـ”انتفاضة الخبز”؛ وهي مجموعة من الاحتجاجية التي اندلعت ابتداء من يوم 19 يناير 1984 في مجموعة من المدن المغربية، وبدأت عبر مظاهرات تلاميذية، حركها بعض المناضلين المحسوبين على التيار الماركسي، قبل أن تنخرط فيها شرائح اجتماعية مختلفة. وقد جاءت هذه الاحتجاجات في سياق اقتصادي تميز ببداية تطبيق المغرب لما يعرف بـ “سياسة التقويم الهيكلي” الموجهة من طرف صندوق النقد الدولي، والتي كان من تداعياتها ارتفاع كلفة المعيشة وتطبيق رسوم إضافية على التعليم. وقد ووجهت الاحتجاجات بعنف كبير، وكانت النتيجة اعتقالات واسعة وضحايا بالمآت.

وفي 22 يناير، ألقى الحسن الثاني خطابا عنيفا طبع الذاكرة السياسية المغربية، حيث وصف سكان الشمال بـالأوباش المتعيشين من التهريب والسرقة)؛ إضافة إلى اعترافه الضمني بمسؤوليته المباشرة في قمع انتفاضة الريف سنة 1958، عندما قال بأن سكان الشمال يعرفون جيدا ولي العهد وليس في مصلحتهم بأن يعرفوا الحسن الثاني).

وقد أحس الحسن الثاني ـ يومها ـ بالإهانة الشخصية لأن الأحداث تزامنت مع انعقاد القمة الإسلامية في الدار البيضاء في يناير 1984. وهو الذي كان دائما يقدم نفسه أمام الحكام العرب والمسلمين بالرجل القوي الضامن لأمن بلاده ووحدتها.

ولم يتوان عن تحميل مسؤولية اندلاع الأحداث لثلاثة أطراف: منظمة “إلى الأمام” الماركسية اللينينية، والنظام الإيراني، والمخابرات الإسرائيلية.

3.

مخطئ من يعتقد أن الأستاذ كتب هذا المتن ليناقش موقع الماركسية في العالم، ودورها في الصراع الدائر يومها بين شقي الجاهلية؛ فقد كان يعلم أن التجربة السوفيتية ظهرت ملامح تؤكد قرب تفككها وسقوطها، ذلك أنه نشره قبل أربع سنوات فقط من سقوط الاتحاد السوفييتي[1991] 3 ، ولكنه ألفه لأنه لاحظ الانتعاشة الكبيرة التي كان يعرفها الفكر الماركسي في المدارس والجامعات المغربية، ممثلا في “الحركة الماركسية اللينينية المغربية” التي تأسست ـ كما يقول أصحابها ـ كنتاج لواقع الصراع الطبقي السائد آنذاك. وتأكدت ملاحظته من خلال تعرفه على أعضاء من هذا الاتجاه في السجن، وسماعه منهم ما هاله.

مصـادر الكتاب

1.

من عادة الأستاذ ياسين في كل كتاباته ألا يفصح عن مصادره، ليس استعلاء، ولكن لأنه اختار أن ينسج على منوال مختلف كليا عن “الطريقة الأكاديمية”، فهو لا يريد أن يشوش على القارئ بكثرة النصوص والإحالات، إلا في الحالات التي يراها ضرورية، عندما يكون في إطار مناقشة مفكر في فكرته، وحتى في هذه الحالة تجده في بعض الأحيان يناقش الفكرة وينتقدها دون أن يصرح باسم صاحبها. وهذا لأنه يجعل من الشاغل المعرفي خادما للتربوي والدعوي، أما الجدل فأمر يمجه الأستاذ ويحتقره، فلا وقت لديه ـ كما يقول ـ ليضيعه في محاكمات وجدل لا ينتهيان.

2.

أما كتابنا، فأول ما يُنتبه إليه من جهة المصادر، أنه ـ على غير عادته ـ قلل من إيراد نصوص القرآن الكريم، ولم يستشهد بأي من الأحاديث النبوية، على اعتبار أنه يخاطب ـ بالدرجة الأولى ـ من يعتبرون أنفسهم ضد الدين وضد نصوصه، ولا يؤمنون إلا بما ينتجه العقل ويسوغه، ولا يقبلون أن يخاطَبوا بنصوص يعتبرونها رجعية، وهذه استراتيجية تروم مخاطبة الناس بما يفهمون، ومناقشتهم بآلياتهم المنهجية العقلانية، ورغم ذلك يحس القارئ بـأن روح القرآن ومنطقه حاضران في كل ثنايا الكتاب، فالغاية والهدف ـ في نهاية التحليل ـ هو نسف مقومات الباطل ورفع الصوت عاليا بالدعوة لرسالة الإسلام.

3.

اعتمد الأستاذ ياسين في محاججته للماركسية اللينينية بالعودة لأصول النظرية وتطبيقاتها في المنشأ، زمانا ومكانا؛ ومن ثم رجع إلى نصوص الآباء المؤسسين؛ ماركس وإنجلز ولينين على المستوى النظري، وتجربة ستالين على مستوى التطبيق. فأكثر ـ بالخصوص ـ من إيراد نصوص من “البيان الشيوعي” و”الدولة والثورة”، أما شاهده على فضاعة التنزيل فقد كان المفكر والأديب سولجنتسين الذي ذاق لسنوات هول “مشروع إعادة التربية بالعمل” الذي أعده ستالين للآلاف ممن لم يكن يعجبه وجوههم 4 .

4.

من التيمات التي حلل بواسطتها الأستاذ الماركسية ومشتقاتها نقع على دال “فاوست”؛ فقارئ الكتاب يحس بحضور روحه في كل نقد يوجهه الأستاذ للماركسية، وفاوست ـ كما هو معروف ـ شخصية مركزية في بناء الحضارة والثقافة الغربيتين المعاصرتين، أوردها الأدب الأوربي، وخاصة أديب ألمانيا الكبير “غوته” في مسرحيته، وترمز عامة للإنسان الذي باع روحه للشيطان من أجل تحقيق رغباته وطموحاته المادية والمعرفية.

نماذج من قضايا الكتاب وإشكالاته الموضوعاتية والمنهجية

يقع الكتاب في 126 صفحة، موزعة، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، على سبع وعشرين مقالة وعنوانا، كلها مناقشة للنصوص المؤسسة للنظرية الماركسية في شقها المتعلق بالعدالة الاجتماعية بالخصوص، وفضح لتطبيقاتها العملية، خاصة على عهد ستالين، وفي خضم كل هذا لا ينسى الأستاذ أبدا همه الدعوي ـ التربوي؛ فهو لا يترك أي فرصة، مهما بدت صغيرة، إلا واستغلها ليبشر بحقائق الإسلام، ويعرض مبادئ برنامجه العدلي، ويستفز قارئه بطرح الأسئلة الحاضرة/الغائبة؛ أسئلة المعنى من وجوده، وما ينتظره غدا من حساب.

ليس هدفنا ولا مما يشغل بالنا عرض كل محتويات المتن، فالكتاب ليس بالحجم الكبير حتى نعمل على تلخيصه وتجميع محتوياته، ولكن الهم سينصب كليا على وضع اليد على أهم قضاياه الموضوعاتية والمنهجية.

1. “الطريق المعتمة”… ولكن ما عتمها؟

افتتح الأستاذ ياسين كتابه بمقدمة جميلة وحاسمة سماها “الطريق المعتمة”، وهي عبارةٌ استقاها من تصريح لاشتراكي مشهور يقول فيه بأنه حتى لو أطفأ الاشتراكيون للحظة كل نجوم السماء سأمشي معهم على الطريق المعتمة التي تؤدي إلى العدل) 5 .

ومن لبنات هذه المقولة “الرومانسية المحلقة” ينطلق: من “الطريق” و”العتمة” و”العدل”.

ولكي يضع أصبعه بدقة على اللحظة الحاسمة التي تعتمت فيها طريق المسلمين يعود إلى البدايات، عندما كانت لدى الأمة “خطة واضحة” و”منهاج قابل للتنفيذ”.

طبعا هو يدرك أن “الفاعل التاريخي” حينها كان واعيا بأمور منحته “القدرة” على التنفيذ والسير على “الطريق البينة”، ويحصرها أساسا في أربعة أسس: المصدر السماوي للمنهاج، وأثر الوحي الطري في قلوب تلك الأجيال وعقولهم، إضافة إلى التربية النبوية، والقيادة الفذة لمن جاء بعده من الخلفاء الراشدين.

ثم وقع التحول. لقد تعتمت الطريق… فما عتمها؟

يؤمن الأستاذ ياسين ـ كما قلنا ـ بأن طريق الأمة كان واضحا، لكن فساد الحكم ونشوء الطبقية عتَّمها، ولأن الفطرة البشرية محبة للحرية شغوفة بالعدل، فإنها مستعدة أن تسير في أي طريق تراه سالكا إليهما، مهما كان معتّما، لأنها تعتقد بوجوب خرق أي حاجز يقف مانعا أمام المجتمع عن أهداف العدل والحرية.

فإن قصّر الإسلاميون ولم يبينوا برنامجهم العدلي، أو أجلوه تقديما لأولويات أخرى فلا نأمـن أن يؤمّ الأمة من يسلك بها تلك العتمة بسم الغضب على الظلم، فـالدولة والغلبة والفرصة لمن يتقدم بجرأة ووضوح وقدرة على التنفيذ ببرنامج العدل في مقدمات بنوده). 6

ذلك أن الأستاذ ياسين ـ شأنه شأن كل حامل لمشروع تغييري ـ يعتقد يقينا أن أسباب الانحراف تكمن في المسألة الاجتماعية، في وجود الفقر في جانب والغنى في جانب، في تركيب الظلم السياسي على التفاوت الطبقي، وتولد هذا من ذاك، وفي المسألة الاجتماعية تكمن الغيوم المظلمة التي تلبد سماء النفوس والعقول فتتعتم الطريق وتتقتم) 7 .

2. إمامتنا للأمة رهينة باستيعابنا لـ”الدرس الماركسي”

المطلع على كتابات الأستاذ ياسين يعرف جيدا أن مشروعه يرفع شعارا ذا شقين: الأول عدلي يروم الدفاع عن المستضعفين، والعمل الجاد على إيجاد دولة تعمل على نشر العدل وسيادة الحق والقانون، ويهدف إلى رفع الأمة إلى مستوى يجعلها تمارس دورها التاريخي في نشر رسالة الإسلام. وشق إحساني ذو طبيعة فردية ـ تربوية بالخصوص، يهدف إلى الرقي بالإنسان ليبحث عن “كمالاته”، وإخلاء الطريق أمامه لمعرفة ربه، كي يحظى باسم في عالم الغيب.

من أجل ذلك نراه يؤكد في كل كتاباته على ضرورة إحداث التوازن في نضالاتنا وجهادنا كي لا يقع خلل في سيرنا، وينبه بشدة إلى أنه مهما رفعنا نداء الإسلام دون أن نبين البرنامج العدلي أو أجلنا إعلانه، فالفطرة المظلومة المتمثلة في سواد الأمة وجماهيرها المحتقرة المفقرة ستظل حائرة، لا هي تثق بالصارخين من عزلتهم على الإمبريالية والبرجوازية لعدائهم السافر للإسلام، ولا هي تثق بالإسلاميين لسكوتهم المطبق عن القضية الاجتماعية) 8 .

“فعندما نسكت عن النقطة القوية (…) وهي المسألة الاجتماعية (…) أو نقتضب الكلام عنها اتكالا على بدهية كون العدل من أسس الإسلام ثم لا نفصل (…) ولا نبرز المشكلة (…) ألسنا بذلك ننسحب من الموقع الاستراتيجي الأهم على الساحة الأرضية حيث يحسم الصراع على إقناع الجماهيرـ وبالتالي حيث يحسم الشوط الأول والأخير في الصراع على السلطة، أي على إمامة الأمة وقيادتها؟ 9

في هذه النقطة بالضبط كان التحدي الماركسي للحركات الإسلامية. وعلى قدر التحدي يطمح الأستاذ أن تكون استجابة الطليعة الإسلامية؛ نأن

فلا بد إذن من “تنهيج الدعوة”؛ أي أن نتدرج بالإنسان من موقعه الإنساني، من ظروفه المادية، من تعبه اليومي وكبده، من همه المأساوي والرزق، والأمن والضروريات ليطمئن إلى أن الإسلام وعد بفك الرقاب؛ أي تحرير الإنسان من كل عبودية تحتقره ولا تكرمه، وعد بإطعام الجائع، وبالقضاء على البؤس، بالإنصاف، بالقسمة العادلة للرزق) 10 .

فـعلى الدعوة الإسلامية أن ترسم البديل المنهاجي للطريق المعتم الذي غاب عن سلوكه كل اهتمام بالإنسان وتحريره، بديل يحرز الفاعلية لكن لا يضيع الإنسانية) 11 .

3. أين الخلل… في النظرية أم في التطبيق؟

كان لينين يؤمن دائما بأن العمل الثوري يحتاج إلى نظرية ثورية، لكنه في وصيته التي كتبها قبل وفاته، وبعد تجربة ست سنوات في قيادة الثورة وإدارة دولتها، أبدى دهشته الشديدة من تطور التجربة، وجوهرها الدولة، في غير الاتجاه الذي حسبه ونظَّر له، حتى وصلنا، مع ستالين ومَن بعدَه، إلى دولة عوض أن تذهب في اتجاه الاضمحلال، كما بشر ماركس، إلى تغوُّلها واستبدادها. فما الذي وقع؟

يؤكد الأستاذ على أن أكبر الثغرات التي تعاني منها النظرية الماركسية اللينينية غياب تصور متماسك لما بعد الثورة) 12 ، فعملوا على تعويض هذا البرنامج بالتفاؤل الطليق وبالأحلام المجنحة، وأثناء ذلك، وقع العكس، حيث زحف الرعب الثوري لـ”إعادة التربية بالعمل”.

ومن ثم فالتجربة الماركسية، بما أنتجته من استخفاف بالقيم والدين والإنسان، إنما هي النتيجة الحتمية للمذهب الذي كان يحكمها، فلا معنى إذن للفكرة التي تريد أن تقنعنا بأن الخلل وقع في التطبيق. وشاهدُنا على هذه الدعوى سولجنتسين الذي أكد أن أثر ستالين الشخصي على الأحداث يتلخص في شيء ما حزين وبليد، يتلخص في نزوات جبار صغير، يتلخص في تعظيمه لنفسه، أما فيما عدا ذلك، فإنه لم يزد على أن وضع رجله بالضبط في المخطط الذي وجده مرسوما) 13 .

خاتمة: من أجل “فقه” يوازن بين همَّي الدنيا والآخرة

في مقالة معنونة بـ”الدنيا والآخرة”، يشير الأستاذ إلى ضرورة الوعي بـ”البعد الإحيائي” للصحوة الإسلامية، والمتمثل في نداء الإسلام المتجدد الذي يسلك في قضية واحدة همَّ الدنيا وهم الآخرة) 14 كي نحافظ على توازن تكون فيه الدنيا مطية لآخرة، ويكون فيه التفاتنا لمعاني الاستضعاف والاستكبار والترف والظلم والطاغوتية فقها واضحا، ويكون تعلقنا بهذه المعاني نبراسا يضيء لنا تاريخ المسلمين، دليلا لفرز أصناف المجتمع المسلم المعاصر، وخطة لبناء مستقبل الدولة الإسلامية والوحدة الإسلامية والعدل الإسلامي نكون بها على بينة من الواقع الطبقي العالمي والمحلي، على بينة من وشائج المصلحة والتناصر بينهما، على بينة من أن استبدال هذا الواقع بالمجتمع الأخوي المنشود في ظل الإسلام لن يتأتى بالمثالية الحالمة، ولا بالعنف الكاسر، ولا بالمطالبة السياسية، بل يتأتى بالجهاد الذي جعله الله عز وجل شرعا يضبط حركة جند الله في حلبة التاريخ التي أرادها جل شأنه مسيرة تدافع بين الناس لا تصلح الأرض بدونه) 15 .


[1] خالد طحطح، “الكتابة التاريخية”، دار توبقال، الطبعة الأولى 2012، الصفحات 36 ـ 40.\
[2] عبد العالي المجذوب، “التناوب على الحصار”، مطبوعات الهلال، وجدة، الطبعة الأولى 1999، الصفحة 92.\
[3] يقول في الصفحة 48 “كتبنا مرارا أن الماركسية آفلة بأفول الأيديولوجيات، لم يبق لها زبناء إلا في البلاد المتخلفة”.\
[4] كان ستالين ـ حسب ما حكى خروتشوف- إذا قال لأحد “لا يعجبني وجهك اليوم” فهذا يعني أن أيامه في الدنيا أصبحت معدودة.\
[5] عبد السلام ياسين، “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”، دار الإيمان الطبعة الأولى 1987 الصفحة 7.\
[6] نفسه، الصفحة 7.\
[7] نفسه، الصفحة 8.\
[8] نفسه، الصفحة 7.\
[9] نفسه، الصفحة 11.\
[10] نفسه، الصفحة 19.\
[11] نفسه، الصفحة 25.\
[12] نفسه، الصفحة 86.\
[13] نفسه، الصفحة 93.\
[14] نفسه، الصفحة 17.\
[15] نفسه، الصفحة 119 ـ 120.\