1- الدعوة إلى الله في المفهوم المنهاجي
تعددت التعاريف والمفاهيم لرجال الدعوة والإصلاح العاملين في حقل الدعوة الإسلامية حول مفهوم الدعوة إلى الله 1. ومجمل ما خلص إليه هؤلاء الدعاة في تعريفهم للدعوة إلى الله تعالى هو أنها إمالة وترغيب الناس إلى الإسلام، والطلب منهم الدخول في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام والالتزام بشرائع الإسلام، وهي بالنسبة لهم فرض كفاية على كل مسلم ومسلمة، إذا قام به بعض الدعاة المؤهلين سقط عن الآخرين.
يعرف ابن تيمية رحمه الله الدعوة إلى الله بقوله: “الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا” 2.
وعرفها الشيخ البيانوني رحمه الله، وهو من الدعاة المعاصرين، بأنها: “تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة” 3.
إلا أن الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تفرد بتعريف الدعوة إلى الله تعالى، حيث أعطاها مفهومًا منهاجيًا دقيقًا وعميقًا، يقول رحمه الله تعالى: “إن الدعوة إلى الله عز وجل هي لُبّ الأمر كله، هي وراثة النبوة. والدعوة إلى الله غير الدعوة إلى الإسلام، وإن كانت الدعوة إلى الإسلام بدايتها. وهي غير الدعوة للحل الإسلامي في الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وإن كان الحل الإسلامي والجهاد لفرضه ونصرته بعضَ مهماتها حين تكون دعوةً على المنهاج النبوي، وحين يكون الدعاة ورثةً جامعين. وهي غير الدعوة إلى الإيمان وحلاوته والذكر وتلاوته والروحانية وكرامتها، وإن كان كلّ ذلك بعض خصائصها. الدعوة إلى الله الطريق إلى الله، السلوك إلى الله، الدلالة على الله” 4.
إذن؛ الدعوة إلى الله تعالى في المفهوم المنهاجي عند الإمام رحمه الله تعالى هي الدلالة على الله تعالى، وهي ركن من أركان الإيمان، وهي فرض عين على كل مسلم ومسلمة، يقول رحمه الله تعالى: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإيمان، وهو فرضُ عين على كل مسلم ومسلمة، ولو أدّى بهما إلى التهلكة” 5.
ويقول في رسالة الدعوة إلى الله: “فعلى كل واحد منكم يقع واجب نشر الدعوة وتبليغ النداء، وتمهيد الطريق أمام المسلمين والمسلمات ليهبّوا من رقادهم، ويلتفّوا حول لواءِ لا إله إلا الله. إنها السعادة في الدنيا والآخرة أن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا أو امرأةً، فكيف إذا وفقك الله لهداية رجال ونساء؟”.
قلتُ: وهذا من صميم ديننا الحنيف؛ روى الإمام البخاري رحمه الله أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: “بلّغوا عني ولو آية”. ويقول المولى عز وجل: قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].
2- الدعوة إلى الله سلوكًا
صمّامُ الدعوة إلى الله المؤثرُ في خلقِ الله هو الربانيةُ والنورانيةُ التي يكتسبها الداعيةُ إلى الله تعالى من السلوك إليه، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين في جميع لقاءاته ومكتوباته ومسموعاته يتحدث عن الدلالة على الله تعالى، وسلوك الطريق إلى الله، بالله ومع الله وإلى الله، سلوكا وإحسانًا ومراقبةً وتوجهًا وطلبًا ولجوءًا وتعبدًا، تربيةً في الأول، وتربيةً في الوسط، وتربيةً دائمًا وأبدًا حتى لقاء الله تعالى.
يقول الإمام المجدد: “لا يقدِر أن يغيّر المنكرَ مَن في قلبه منكرُ النفاق، ولا يقدِر أن يأمر بالمعروف مَن لا يعرف الله عز وجل. تدعو إلى الله في زعمك وأنت لا تعرف الله! لا تعرف الله وأنت تظن أن تشملك عنايته بالذين دعَوا إليه بإذنه! من ليس على بصيرة، من هو عامه في أوهامه، سادر في غفلاته، محجوب عن الله تعالى، كيف يزعم أنه يدعو إلى الله؟” 6.
وقد أولى رحمه الله تعالى للتربية الإيمانية الإحسانية اهتمامًا كبيرًا، نلحظ ذلك من خلال ما أثله من برامج ومحطات تربوية لأعضاء وعضوات جماعة العدل والإحسان التي أسسها، من الانكباب على حفظ كتاب الله تعالى، والأوراد المسنونة، ورباطاتٍ تربوية، ومجالسِ النصيحة الربانية، وبرنامجِ يوم المؤمن وليلته، حتى يخرج المؤمن والمؤمنة من زمن الغفلة إلى زمن العبادة والجهاد.
يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى في رسالة الدعوة إلى الله ناصحًا وموصيًا أحبابه المرابطين: “أكتب إليكم هذه الوصية، أحبّتي، وبعضكم مرابطٌ في مجالس الإيمان، عاكفٌ على ختم القرآن، ومنهمكٌ في ذكر الرحمن. نعم الجمعُ هذا الذي تلتمسون فيه نسائم الإيمان، وتتعرضون لنفحات الإحسان، وتُحدّثون أنفسكم بإعادة مجد الإسلام. وإن المعنى الأول لكلمة رباط لَهو التأهب الكامل والاستعداد اليقظ، وإعداد القوة لمواجهة مقتضيات الجهاد، إلا أن جهادنا يتطلب منا التزود بالتقوى، والتترس بالورع من محارم الله، والتسلح بالعزيمة الماضية، ورفع عيون قلوبنا إلى أفق يتلألأ فيه موعودُ الله بالفوز المبين لمن بذل نفسَه ومالَه كلَّه لله، وموعودُه سبحانه بالنصر المكين لهذه الأمة حين تتوطّد إرادةُ جندِ الله على اقتحام العقبة، كلِّ عقبةٍ تحول دون إعلاء كلمة الله في الأرض. ذلك اليومُ يقذف اللهُ بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق”.
السلوكُ إلى الله تعالى هو لُبّ وجوهر دعوة الإمام المجدد. ويجب أن يكون للداعية إلى الله تعالى هَمٌّ مع الله، ونيّةٌ صادقةٌ في طلب وجه الله تعالى ليفوز بالله تعالى، يقول رحمه الله تعالى: “حتى دولة الإسلام إن نصرتها في غفلة عن الله دنيا في حقك” 7.
ويقول: “أنا أسعدُ الناس إن كان لشهادتي سامعون واعون. هبّوا من سبات الغفلة لصرختي هذه الهادئة، وتيقّظوا يقظةَ القلب، وتجافَوا عن الحياة الدنيا، وفزعوا إلى من يدلّهم على الله حتى يعرفوا الله. أنا أسعدُ الناس إذا حصل في ميزان حسناتي أفواجٌ من المحسنين، كنتُ لهم صوتًا يقول: من هنا الطريق، من هنا البداية” 8.
3- الدعوة إلى الله وفاءً
إنَّ من أهم الصفات التي يجب على الداعية إلى الله تعالى أن يتصف بها ويمتلكها هو خلقُ الوفاء، لأنه أساس النجاح والقوة والقدرة على تحقيق الأهداف المرجوّة. والداعيةُ إلى الله تعالى الذي يتمسك بهذا الخلق لن يجد نفسَه عاجزًا عن تحقيق ما يصبو ويطمح إليه.
لقد وصف الله تعالى سيدَنا إبراهيم عليه السلام، الذي كان أُمّةً وحده، بقوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37].
كان سيدُنا إبراهيم عليه السلام وفيًّا في الدعوة إلى الله تعالى ومقاومةِ الشرك والمشركين، فوفّقه الله تعالى في إتمام رسالته التوحيدية إتمامًا كاملاً.
ومن معالم الوفاء: الاقتداءُ بمن اصطفاهم الله عز وجل وخصّهم بالدعوة إليه عز وجل، وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام، ورجال الدعوة والإصلاح. يقول الله تعالى: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، ويقول عز وجل: قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].
ومن تمام الوفاء للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: الاقتداءُ به، والسيرُ على دربه وطريقته، واتباعُ منهاجه في الدعوة إلى الله تعالى، والوفاءُ لمشروعه المنهاجي النبويّ المجتمعيّ في التغيير. ولقد استعمل الإمام جميع الوسائل المختلفة والمتاحة للدعوة إلى الله تعالى، وبسط نظريته في التغيير في مكتوبات كثيرة ومتنوعة، ولقاءاتٍ ومجالسَ مباشرة، وأشرطةٍ مسموعة ومرئية، وجولاتٍ عبر المدن والأقاليم، ورسائلَ إلى الملوك والزعماء والناس أجمعين. وواجه في سبيل ذلك أشكالًا متعددة من الظلم والقمع والسجن والحصار. وهو القائل رحمه الله تعالى: “من كان ذا وفاءٍ لم يُعدمِ المقدرة” 9؛ هذه الكلمات تحمل مدلولاتٍ عميقة، فالوفاء هو روحُ العمل والجهد والجهاد للداعية إلى الله في تحقيق الأهداف المرجوة، والتأثير في الناس وجمعهم حوله.
والإمام رحمه الله تعالى يعتبر مجددَ هذا القرن بامتياز، بما نظّر للدعوة إلى الله تعالى، وأسس تنظيمًا إسلاميًا “جماعة العدل والإحسان” لتنزيل نظريته في التغيير على أرض الواقع، أصبح رائدًا ومدرسةً في العمل الإسلامي المتميز عبر العالم، وربّى رجالًا صادقين أوفياء هم أسودُ الدعوة إلى الله، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ما غيّروا وما بدّلوا تبديلا؛ رهبانًا بالليل وفرسانًا بالنهار.
ومن الوسائل التي استعملها الإمام رحمه الله تعالى في تربية رجالِ الدعوة إلى الله: الاحتضان؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى تربيةٌ في الأول، وتربيةٌ في الوسط، وتربيةٌ في الأخير حتى نلقى الله تعالى. وهو من الأساليب التي انتهجها سيدُنا رسولُ الله عليه الصلاة والسلام في تربية الصحابة رضي الله عنهم، فكان يجمع الصحابة في في محاضن تربوية؛ نذكر منها دارَ الأرقمِ بنِ أبي الأرقم رضي الله عنه، أولَ بيتٍ احتضن الدعوةَ إلى الله تعالى.
والإمام عبد السلام ياسين ما فتئ يوصي، ويُلِحّ، ويحثّ، ويرغّب أحبابه أعضاءَ وعضواتِ جماعة العدل والإحسان بالدعوة إلى الله تعالى حتى لقي ربَّه عز وجل. يقول رحمه الله تعالى في رسالة الدعوة إلى الله: “أوصي كلَّ واحدٍ منكم أن يعتبر نشرَ الدعوة وتعزيزَ الصف من أحد واجباته، بشرط أن يربط سعيَه الدؤوب في الدعوة بسعيه الجوهري في التقرّب إلى مولاه. إنها لَقُربةٌ شريفة. إن من أعلى شُعَب الإيمان، بل من أسبق سابقات الجهاد، أن تدعو غيرك إلى الله. إنها مهمةُ الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومهنةُ المصطفَين من عباد الله. فتعِسَتْ هِمّةٌ لا تطمح هذا المطمح، ولا عاش مَن لا يحمل همَّ الأمة، الساكنُ عن الدعوة ساعةً من نهار، وفرصة كل لقاء، مُثبط قاعد. تكلّموا وبلّغوا حفظكم الله.
إن إيمانك أخي وأختي له أبوابُ المزيدِ مُترَعة حين يشغل بالك، بعد ذكر الله عز وجل الدائم المقيم، هَمُّ تبليغ رحمة الإيمان لغيرك”.
[2] ابن تيمية، الفتاوى، 15/157.
[3] الشيخ البيانوني، المدخل إلى علم الدعوة، 16.
[4] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، 132.
[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، 236.
[6] المنهاج النبوي، الشعبة السابعة والسبعين: الدعوة إلى الله بإذنه.
[7] عبد السلام ياسين، الإحسان، 1/348.
[8] نفسه، 1/23.
[9] مجلة الجماعة، ع 16، ص 54.