التحول السياسي في المغرب – معالم في الطريق

Cover Image for التحول السياسي في المغرب – معالم في الطريق
نشر بتاريخ

من يملك السلطة بالمغرب؟

لا ينبغي قبل الخوض في غمار الحديث عن التحول السياسي بالمغرب، عن مقتضياته وارتباطاته، وعن نماذج التحول التي شهدها البلد، أن نقفز على مسألة غاية في الأهمية، ألا وهي ضبط المستوى والاتجاه والمنحى الحركي الذي يتحرك فيه مفهوم “التحول” في علاقته بموضوع “السياسة”. يقول كارل بولانيي: “ليست سرعة التحول دائما أقل أهمية من منحى التحول ذاته” 1.

من معاني التحول في اللغة التغير من وضع إلى آخر. ومن قضايا السياسة كما تقول حنة أرندت “قضية الحرية إزاء الاستبداد، وهي القضية التي تشكل في حقيقة الأمر وجود السياسة ذاته منذ بداية التاريخ” 2..

عطفا على هذين المعنيين الأصيلين، فإن الزاوية التي ننظر من خلالها إلى “التحول السياسي في المغرب”، والمستوى الذي نقيس عليه النماذج والتجارب التي خلت، هو قدرتها على صناعة أفق التحول من وضع الاستبداد إلى وضع الحرية، وعلى إرساء دعائم النقلة من حكم العسف إلى حكم النصف، وعلى تحقيق واقع التبدل من دولة الجور إلى دولة العدل.

على هذا الأساس، فالتحول السياسي المقصود هو التغيير الذي يحدث على مستوى هذا “المن” الذي يملك السلطة بالمغرب ويتحكم فيها، أي سلطة إدارة الحكم، والتحكم في دائرة صنع القرار، وتدبير شؤون الدولة.

ربما يكون هذا “المن” فردا أو مؤسسة أو هيئة أو طبقة أو جمهورا…  وربما تكون السلطة متمركزة بين يدي شخص الملك أو لدى المؤسسة الملكية أو في هياكل النظام السياسي، أو لدى الأحزاب السياسية، أو لدى المجتمع المدني… وبعيارة أخرى، إنه التأكيد أساسا على أين تتموضع السلطة وأين تستقر؟ ثم التدقيق في الجهة التي يجب أن تتحول إليها؟

 من يملك السلطة بالمغرب؟ سؤال محوري، وسيظهر على قاعدة الجواب عنه إن كان التحول السياسي بالمغرب تحويلا في البنية وتوطينا للحرية أم هو مجرد تجميل للصورة وتكريس للعبودية؟ سيتجلى بوضوح إن كان التحول السياسي بالمغرب تحولا حقيقيا أم تحولا فاشلا؟  وستبين نماذج التحول السياسي السابقة إن كان الفشل فشلا جذريا أم نسبيا فقط؟

فشل التحول السياسي في المغرب

الاستبداد الفردي هو الذي يملك السلطة بالمغرب. وبالنظر إلى هذا الجواب القطعي الدلالة، قد يتسرب إلى ذهن بعض أصحاب العقلية التصنيفية أننا نتخندق في صف المنادين بالتغيير من أعلى جوابا على الإشكالية المعروفة في فقه التغيير، هل يبدأ التغيير من أعلى أم من أسفل؟ ولا يخفى على أحد تبعات هذا التصنيف، ومخلفاته على أسلوب التغيير المتبع، أسلوب السرية والعنف والمنابذة والصراع المسلح… إنه “النموذج الذي يفرضه الأسلوب الانقلابي. وهو الاستبداد لا غير. الاستبداد فقط” 3. والأسلوب الذي نرقبه، ولله الحمد، في الرفق والقوة والمدافعة براء من كل هذا الركام.

في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” عقد عبد الرحمان الكواكبي فصلا أسماه “الاستبداد والتخلص منه”، وطرح فيه سؤالا مهما صاغه على هذا النحو: “هل ينتظر من الحكومة ذاتها السعي في رفع الاستبداد؟ أم أن نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعا لا يترك مجالا لعودته من وظيفة عقلاء الأمة وسراتها؟” 4.

يتضمن سؤال الكواكبي استفسارا ملحا عمن يفترض فيه أن يقود عملية التغيير الحقيقي. ويربط هذا الاستفسار جسورا مباشرة بالمدخل الحقيقي لإحداث التحول السياسي، هل يتم من داخل دائرة السلطة الحاكمة ومربعها أم من خارجهما؟

 نظام الحكم بالمغرب هو من جنس الأنظمة الحربائية المتلونة، كما تلون في أثوابها الغول، أو من نوع “الديمقراطيات الخفيفة التي تساهم في تشريع عدم المساواة القائم، والقضاء على السياسات الثورية بفاعلية أكبر من الأنظمة الاستبدادية، فقد أصبحت معروفة بليونتها المؤسساتية للسماح بدرجة محدودة من التغيير، بدلا من قدرتها على إحداث التحولات” 5.

لقد تمت كل محاولات التحول السياسي في المغرب من داخل دائرة السلطة المهيمنة، واتسمت بعدم الجدية، حتى إنها بدت في كثير من الأحيان مساعي لتحسين صورة نظام الحكم القائم، ومنحه نفـَسا جديدا، أكثر منها عملية انتقال حقيقية إلى الحرية والعدل والكرامة.

وبدون الحديث عن الانقلابات العسكرية الفاشلة التي هددت سلبا استقرار المجتمع، ومن دون التفصيل في الانتفاضات القطاعية والفئوية، والاضطرابات الاجتماعية التي بددت إيجابا تماسك السلطة، لم يكن التحول السياسي ممكنا في تاريخ المغرب السياسي المعاصر إلا في مناسبتين هامتين، واللتين كان بالإمكان اعتبارهما منعطفين حاسمين ونقطتي تحول أساسيتين. لكن ومع الأسف، كان الإخفاق قرينا لهما، وكان الفشل حليفهما.

– مرحلة “استقلال السلطة”: وهي الفترة التي تلت إعلان استقلال البلاد. اتسمت بالانتقال من سيادة سلطة الحماية الفرنسية إلى سيادة سلطة الدولة المغربية. كانت كل مقتضيات التحول السياسي ممكنة خلال هذه المرحلة التاريخية، لكن “الإرادة الاستعمارية” وبغرض كسب رهان الاستقلال الصوري، وبتوافق مع القوة الثالثة والسلطة المخزنية، رعت عملية اغتيال هذا الانتقال.

يقول الأستاذ محمد عابد الجابري: “لقد وضع أحمد رضا كديرة نفسه في الطرف المقابل والمواجه للقوات التي تشكلت منها حركة التحرير الوطني في المغرب، فتزعَّم “القوة الثالثة” بعد إعادة تشكيلها في أواخر الخمسينات. كان هذا الرجل معروفا لدى الخاص والعام بميوله الفرنسية وارتباطه الشديد بكل ما هو فرنسي، والإعراض عن كل ما هو عربي أو إسلامي أو تحرري. وكان ذلك منه موقفا صريحا وعلنيا. إن الدور الذي لعبه هذا الرجل -الذي كان مديرا لديوان ولي العهد- في قيام “التناوب” لأول مرة في المغرب، والذي كان يعني في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات إقصاء الحركة الوطنية من الحكومة ومراكز السلطة وتخصيصها للأحزاب التي شكلت لتكون البديل” 6.

مهد الاحتلال الأجنبي لجني ثمار هذه المرحلة باصطناع كل المقومات التي تضمن له التبعية باستعمال آلية التفاوض التنازلي مع قوة دخيلة على الحركة الوطنية ورجالاتها وقادتها. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “تفاوض الوطنيون المغاربة مع فرنسا في إكس لبان جنبا إلى جنب مع رجال اختارتهم فرنسا من “المعتدلين” الحزبيين، ومن شخصيات وقدماء عساكر كانوا مذبذبين بين الرفض والقبول لما فعلته فرنسا . شخصيات وعساكر قالوا كلمة ورفضوا تعاونا مع الاستعمار لحظة من لحظات التاريخ، فزج بهم جنبا إلى جنب على مائدة المفاوضات مع من صنعوا التاريخ… “المعتدلون” والشخصيات وقدماء العساكر هم “القوة الثالثة” التي خففت لهجة التفاوض، ونطقت على المائدة المستديرة ما أوحي إليها به من تنازلات في الدوائر الفرنسية” 7.

– مرحلة “انتقال السلطة”: وهي المدة التي سبقت وفاة الملك الراحل الحسن الثاني. تميزت هذه الفترة التاريخية برعاية “الإرادة المخزنية”  لكل مراحل التحول السياسي التي تمت على مستوى أعلى هرم السلطة، وذلك عبر الإشراف المباشر على المفاوضات التي كان يرعاها الملك الحسن الثاني مع مكونات الكتلة التاريخية، حيث لجأت فيها السلطة المخزنية إلى التوسل بآلية التناوب التوافقي  لكسب رهان الانتقال الوهمي.

يقول محمد الأشعري: “ظهرت بوادر انفراج للقطع مع أساليب الماضي وتجاربه، ممثلة في تجربة التناوب التوافقي، لكن بعد فترة رجعنا للأسف من جديد إلى عدد من الممارسات السياسية التي تنتمي بنيويا إلى الماضي. لذلك، نحن اليوم، وبعد سنوات، وصلنا إلى هذا الاضطراب الذي يعشيه المغرب، والمتمثل في الهوة السحيقة التي تفصل المجتمع عن المجال السياسي والذي يؤكد أن البلاد لم تنجح حتى الآن في تحقيق انتقالها الديمقراطي الموعود” 8.

الطريق إلى التغيير الحقيقي

الرعاية الاستعمارية والمخزنية، من داخل دائرة السلطة، لأهم لحظات التحول السياسي بالمغرب أخفقت إخفاقا مهولا في  استثمار هذه الفرص التاريخية للانتقال إلى مصاف أنظمة الحكم الديمقراطية. ومع هذا الفشل الذريع يقتضي التساؤل عن الأساس الذي ينبغي أن يستند إليه التحول الحقيقي والتغيير الجذري؟ لم يبق من خيار سوى الرهان على التحويل من خارج دائرة السلطة تحت رعاية “الإرادة الشعبية”. يقول نيكولاس بولانتزاس: “بقدر ما تكون النضالات والحركات التي تهدف إلى تغيير موازين القوى ذات صبغة سياسية، فإنها لا تقف مطلقا خارج الدولة، حتى وإن تكونت خارج مجالها الفيزيائي. على كل حال فإنها تنضوي دوما في حقل الدولة الاستراتيجي. هنا يقع الخيار الحقيقي” 9.

لقد غدا من وجب مكونات “الإرادة الشعبية” التي بمقدورها أن ترعى عملية التحويل الحقيقي والتغيير الجذري أن تتماسك أكثر وتزداد صلابة سواء على مستوى كتلتها الطليعية أو على صعيد حركتها الشعبية.

– تكثيف منسوب النضال الشعبي:

الحركة النضالية الشعبية الواسعة لها دور كبير في تغيير ميزان القوى، وعلى عاتقها يقع الرهان الحقيقي في معادلة التحول السياسي. غير أنه يحول دون رعاية اليقظة الشعبية وبعث حركيتها النضالية مانعان اثنان. أولهما: الآثار المدمرة للتجارب الفاشلة في التحول السياسي على نفسية الإنسان المغربي وعلى الذاكرة الجماعية. إن “الشعور بالفشل يلون عقلية الأمة بلون قاتم يائس، وتوالي الهزائم عليها وتوالي كذب القادة في وعودها، وانغلاق المنافذ يزيد الشعور بالفشل تعمقا، ويزيد الهمم اتضاعا. وفي هذا ينشغل كل بخويصة نفسه” 10.

وثانيهما: استعصاء النظام السياسي المغربي العابر للقرون والأزمان على “عملية التحويل”، حيث تتمترس “الإرادة الشعبية” وراء أسوار استحالة تحقيق التحول السياسي المرجو، وتتسلل ظلال هذه الأوهام لتصيب عزيمة القوى الحية بالشلل والجمود.

يكسر نيكولاس بولانتزاس هذه الترهات والأباطيل، حين يأتي على بيان أحد الأبعاد الدقيقة في تكوين سلطة الدولة، معتبرا إياها تكثيفا ماديا ونوعيا لميزان القوى بين مكونات الكتلة الحاكمة، ومقرا في ذات الوقت بأن هذا التكثيف كفيل بإبراز التناقضات إلى حيز الوجود. يقول: “ليست الدولة على كل حال إلا اتحادا بسيطا لجزئيات قابلة للفصل… إنه توحيد أو وحدة تنصب على سلطة الدولة… تنشأ سلطة الدولة عن تكثيف ميزان القوى، أي عن الموقع الحاسم الذي تحتله بداخلها الطبقة المهيمنة أو القسم المهيمن حيال غيرها من الطبقات أو الأقسام المكونة للكتلة الحاكمة” 11.

– تجميع مجهود القوى الحية:

الكتلة الطليعية الصادقة والمسؤولة هي صاحبة الكلمة الفصل في رسو سفينة التحول السياسي في بر الأمان. وكما أن التأسيس لسلطة الدولة العادلة ولكيانها المادي والمعنوي لا يتم إلا على أساس التعاقد والاتفاق والتراضي بين أفراد المجتمع، فإن الخطوة الهامة على درب التحرر والانعتاق من ربقة  الاستبداد المخزني، هي التأسيس، على قاعدة التعاقد والاتفاق والتراضي، لجبهة واسعة وتكتل عريض وصف قوي، يلم شعث الفضلاء وذوي المروءة والقوى السياسية الحرة والصادقة والنزيهة.

يقول تشالز تيللي: “المغرب بحكمه الفاشي على أراضيه ينتمي إلى خانة “النظام غير الديمقراطي ذو القدرة العالية” وهو نظام من مواصفاته التضييق على حق الكلام إلا ما تطلبه الدولة، وتدخل واسع لقوى أمن الدولة في السياسة العامة، وتغيير النظام إما من خلال صراع على مستوى القمة أو عصيان جماعي على مستوى القاعدة” 12.

وما ينبغي للقوى الحية أن تسعى إليه هو اكتساب هذه القدرة في اتجاهها الإيجابي. القدرة العالية على التوافق بين مختلف القوى الصادقة والتيارات السياسية النزيهة، وهو أمر ضروري يدعم التحول. ودون تجذير هذه القابلية العملية في التعاون والتساند والتعاضد تحديان اثنان. الأول: حصول الوعي المرحلي بضرورة التحالف على أساس المطلب السياسي الجامع لا على أساس الموقف الإيديولوجي المفرق. لأن “وضع المسألة الإيديولوجية قبل الحلف السياسي يعني وضع مسألة التوعية والصراع الفكري قبل مسألة السلطة، ويعني كذلك وضع مسألة نقد الشعب ومحاسبته قبل نقد النظام، ويعني أيضا تقسيم القوى لا توحيدها، وتأجيج تناقضاتها لا حلها” 13. والثاني: الوصول عبر الثقة المتبادلة إلى مستوى تبديد المخاوف لدى كل الأطراف كسبيل لتجاوز التشتت والتمزق والأحادية والشمولية.

يعرض الأستاذ عبد السلام ياسين جانبا من تخوفات الإسلاميين فيقول: “يعترف الفضلاء المثقفون بافتقار حاملي الفكر المغرب إلى الشعبية التي يتمتع بها الإسلاميون… فهم يمدون إلينا بدعوة لتكوين جبهة ديمقراطية لا يخفون المقصود منها. المقصود منها المعلن أن يركبوا الموجة الإسلامية. لا أقل ولا أكثر” 14.

كما يعرض جانبا من تخوفات الديمقراطيين فيقول: “نتق كما يثق معشر الديمقراطيين بأن الاستبداد الفردي هو داء الأمة. نلتقي معكم في كراهية الاستبداد، ونثق أن ما لم يؤسس على رضى الشعب واختياره ودعمه بناء من ورق… ما نحن بحمد الله قناصون ولا غدارون… والغبي من يظن أن الإسلاميين يريدون الحكم ليغتالوا الديمقراطية. ما نفعل باستبداد! ما نفعل بأمة في الأغلال!” 15.

ثم يخلص في آخر المطاف إلى أن الصبر هو عملة المرحلة وكنزها الثمين. يقول رحمه الله: “يلزم الأمة الواثقة بقيادتها أن تنفق أيام التحول من مراتع الظلم إلى غد العدل من كنوز الصبر” 16.


[1] كارل بولانيي، كتاب “التحول الكبير” ص 114.
[2] حنة أرندت، كتاب “في الثورة” ص 13
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” ص 109.
[4] عبد الرحمان الكواكبي، كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” ص 133.
[5] جون فوران، كتاب “مستقبل الثورات” ص 45.
[6] محمد عابد الجابري، محاضرة “المغرب.. إلى أين؟ مستقبل التجربة الديمقراطية في المغرب”.
[7] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “حوار الماضي والمستقبل” ص 188.
[8] محمد الأشعري، مقتطف من حوار مع جريدة تيل كيل يوم الخميس 02 نوفمبر 2017.
[9] نيكولاس بولانتزاس، كتاب “نظرية الدولة” ص 261.
[10] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام غدا” ص 662.
[11] نيكولاس بولانتزاس، كتاب “نظرية الدولة” ص 137.
[12] تشالز تيللي، كتاب “الديمقراطية” ص 43.
[13] برهان غليون، كتاب “بيان من أجل الديمقراطية” ص 122.
[14] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” ص 530.
[15] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” ص 586.
[16] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية” ص 204.