بعد عرض ماتع لأرضيات أغنت المحور الأول؛ محور الدولة والحكم من الندوة الحوارية الفكرية التي تنظمها جماعة العدل والإحسان يومي السبت والأحد 11 و12 دجنبر الجاري، حول موضوع “المغرب وسؤال المشروع المجتمعي” بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، انتقل مسير الجلسة الأستاذ عبد الرحمان خيزران بالحضور إلى أجواء الحوار وتبادل الرؤى بطرح أسئلة على المتدخلين الثلاثة في هذه الجلسة، تراوحت بين رصد واقع الدولة والحكم في المغرب، وتقديم اقتراحات وبدائل لهذا الواقع، وصولا إلى البحث عن الجسر العملي بين ذلك الواقع وتلك المقترحات.
رصد واقع الدولة والحكم بالمغرب
عبر الأستاذ عبد الله الحريف، عضو الكتابة الوطنية لحزب النهج الديمقراطي، في تعليقه على ما يبرر به البعض الاستبداد في المغرب من قبيل “الاستقرار” ووجود “ممارسة ديمقراطية ومؤسساتية منتظمة”، على أن الواقع المغربي يقول عكس ذلك؛ إذ “لا تستطيع الأرقام التعبير عن معاناة المغاربة”، مضيفا أن “هذا الاستقرار في الحقيقة هو استقرار مصطنع وليس حقيقيا، لأن الاستقرار الحقيقي يبنى على استقرار اجتماعي حقيقي”. وبالمقابل يضيف، بأن الشعب المغربي يقاطع دوريا المؤسسات المنتخبة بنسب عالية جدا، ليعقب مستخلصا أن الحديث عن الاستقرار في هذا السياق هو “حديث مغلوط”، لأن ما هو موجود بحسبه هو “العنف والقمع”.
وفي نفس السياق قالت الأستاذة أمان جرعود، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان ومسؤولة قطاعها النسائي، أن الحديث عن نموذج تنموي في ظل هذا الواقع هو بحث عن تغطية على الفشل، لأن الأصل في نظرها هو “جلسة مصارحة للجواب على لماذا فشلنا؟ بإجابات واضحة بدلا من إجابات ملتفة وتقديم نموذج تنموي جديد سيلقى نفس مصير سابقه لأنه لا يتحدث عن العطب الرئيسي وهو العطب السياسي”، لتعقب متسائلة بل مستنكرة: “هل سننتظر حتى 2035 لنقر بفشل جديد؟!”. لتحدد بعد ذلك ثلاثة شروط مفقودة لإنجاح أي نموذج تنموي في تصورها وهي:
– تنقية الأجواء السياسية، لأنه لا يمكن الحديث عن تنمية أمام الريع والزبونية.
– إيجاد ضمانات خاصة في البعد القانوني لتشجيع رأس المال والاستثمارات.
– نقاش عمومي يبحث عن النموذج التنموي الذي يناسب المغاربة، عوض نموذج منزل ومفروض.
وغياب الحديث عن العطب السياسي الذي ركزت عليه الأستاذة أمان هو ما ثمنه الصحفي المغربي والحقوقي أبو بكر الجامعي، مضيفا إليه غياب المرونة بتنميط النموذج التنموي وتجميده في شعارات مستوردة في منظومة اقتصادية متقلبة، والمرونة تقتضي في نظره “تعبئة الموارد الفكرية والابتكارية والابداعية للمغاربة للتأقلم الدائم مع التغيرات الدائمة، وتجديد الآليات المنتجة للسياسات العمومية”. ويزيد مفسرا أن تعبئة هذه القدرات لا يعني سوى الحرية، وهذا، يوضح، ما يجعلنا نفهم لمَ السلطوية عندها مشكل مع إنجاز التنمية الاقتصادية، لأن السلطوية السياسية في نظره تقتضي وجود سلطوية اقتصادية.
رؤى ومداخل للبدائل المقترحة
في تفاعله مع أسئلة منشط الندوة المتعلقة بتقديم المقترحات لتجاوز هذا الواقع، دعا الأستاذ الحريف إلى ضرورة تقوية الجبهة المجتمعية بالنظر إلى اتساع قاعدة المتضررين من سياسات النظام السياسي، حيث بات الشعب المغربي أكثر من أي وقت مضى يدفع، بكل فئاته، فاتورة باهظة لتغول الفساد والاستبداد. وقد ركز الحريف مداخل مقترحاته في ثلاث جبهات كبرى:
– الجبهة الاجتماعية: لأن المسألة الاجتماعية، في نظره، أضحت فعلا خطرا محدقا بالمغرب والمغاربة، حيث استفحل الغلاء وتأزمت أوضاع الشغل والصحة والتعليم وتدهورت الحماية الاجتماعية… داعيا إلى تجاوز المنطق الإقصائي في هذا الصدد وتوحيد الجهود ضد الفساد والاستبداد، وبناء جبهة اجتماعية حقيقية تناضل لتحقيق مطالب مشروعة ولم كل الحراكات الوطنية والفئوية والمجالية داخلها.
– الجبهة الحقوقية: لأنه يعتبر قضية الحريات والحقوق مصيرية؛ فمن خلالها ومن أجلها نناضل، ليعطي مثالا في هذا الصدد عن طريق بناء ائتلاف حقوقي يضم عددا من التنظيمات الحقوقية وتوسيعه ليضم كل الحقوقيين والمحامين وغيرهم.
– جبهة السيادة الوطنية: بهدف التحرر من المصالح الاستعمارية والمخططات الصهيونية التي تتلاعب بالمنطقة، منوها بتأسيس الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع التي يجب أن تتوسع وتستوطن في المدن وفي الأحياء الشعبية. وهذه القضية في نظر الحريف قضية مصيرية لأن التغلغل الصهيوني قد يؤدي بنا إلى مغرب مقسم.
وفي إطار هذه المقترحات، انطلقت الأستاذة جرعود من أن أزمة المغرب هي في غياب إرادة سياسية حقيقية للتغيير والإصلاح، داعية إلى تقريب وجهات النظر بين مختلف شركاء الوطن حول “العناوين الكبرى والمبادئ الكلية الجامعة التي لن تفرقنا، وأن لا نحجر على خصوصيات كل طرف باسم التوافق بل نبحث عن نقط الالتقاء فيما بيننا”، لأن الوقت مبكر في نظرها للحديث عن مشروع مجتمعي مشترك، وإذا توفرت الإرادة يمكن، تزيد بيقين، “سنصنع العجب”.
وذات الحوار هو الذي ركز عليه الأستاذ الجامعي، لأن الحوار في السياق المغربي له مزيتان بحسبه وهي:
– المزية الأولى هي أنه حوار من أجل البحث عن قواسم مشتركة، ولن تكون، يضيف، إلا الحريات والحقوق، والتي ينبغي اعتبارها من الجميع لا رجعة فيها والتي تجب دسترتها، لأنها في منظوره تمثل “القاعدة الأولية والصلبة للمجتمع”.
– وثاني هذه المزايا أنه سيلقي أثرا بليغا في نفوس المغاربة وهي ترى أطياف مختلفة تتحاور، وهذا هو، على حد تعبيره، السلم في أرقى تجلياته، لأن الديمقراطية، يضيف، هي “الانتقال من العنف المادي إلى العنف الكلامي”. وقد نبّه هنا الجامعي إلى أن المخزن يتغذى من غياب هذا الحوار ويبرر به استبداده وفساده، داعيا طليعة ونخب التيارات المعارضة إلى تجسيد هذه الإمكانية التي ستطمئن المغاربة أن هناك طريقا آخر غير الاستبداد أو الفوضى.
وهذا المقتضى يؤكده الجامعي بإقراره أن لا خير يرجي من مبادرة إصلاحية من داخل النظام، بل ذهب بعيدا عندما أكد أن نخب المخزن تورطت أكثر من أي وقت مضى في إيذاء أطياف واسعة من المغاربة، وتوقع أن تأتي القاصمة من الفشل الاقتصادي، مما يحتم على النخب المعارضة أن تكون جاهزة أكثر من أي وقت مضى لتقديم البدائل عبر مدخل الحوار لإبراز قدراتها على تمريض المرحلة الانتقالية.
موقع الدين من الدولة
وعن موقع الدين من الدولة ودوره في تأطير الشأن العام، رأت جرعود أن التأسيس الجاد لنقاش الموضوع يقتضي التحرر من أمرين، وهما للأسف تمثلان ضاغطان: الأول هو تمثل علاقة الكنيسة بالدولة في التجربة الفرنسية، والثاني هو تمثل آخر في تجربة تاريخ المسلمين حول تبرير السلطوية باسم الدين. لتضيف بأن العلاقة بين الدولة والدين يفترض أن تكون في أجواء الحرية، لأن في غيابها تنشأ بينهما علاقة مشوهة، بغض النظر عن سبب غياب الحرية، ففي بعض الأحيان لا تكون بالضرورة السلطة السياسية سببا في غياب الحرية، بل تكون السلطة الدينية سببا في غياب الحرية، وحضور الحرية هو الذي من شأنه أن يكون سببا في نشوء علاقة سليمة بين الدين والدولة.
وللخروج بخلاصات في الموضوع اقترحت المتحدثة تفصيل القول في هذا الموضوع، بالتمييز بين ثلاث دوائر، الأولى هي علاقة الدين بالدولة، ثم علاقة الدين بالفاعل السياسي، ثم علاقة الدين والمجتمع. وإن ظهرت هذه الدوائر منفصلة، تقول، ولكن من خلال تفكيكها نستطيع إيجاد خط ناظم قد يساعدنا في النهاية على بناء علاقة سلمية. واقترحت عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية في كل دائرة مجموعة من الأفكار التأسيسية، ففي دائرة علاقة الدين بالدولة فقد تم الحسم بشكل جماعي مع الدولة الدينية التي تمارس السلطة باسم الدين، ثم هناك شبه إجماع على دولة مدنية ديمقراطية في مجتمع مسلم، ويفترض أن هوية ومرجعية المجتمع تنعكس في قيم الدولة وتشريعاتها، مع ضرورة توضيح أن هذا الانعكاس ينضبط لأمرين: أولهما البعد المقاصدي للدين، باعتباره يحمل قيم كلية وكبرى لا يمكن أن نختلف معها، لأنها في عمقها قيم إنسانية. وهناك ضابط آخر هو الانتباه إلى الدين باعتباره تشريعات وما يجب الانتباه إليه هو آلية الاجتهاد التي تملك القدرة على إعطاء تشريعاتنا الدينامية المطلوبة.
وفي دائرة علاقة الدين بالفاعل السياسي، أكدت جرعود أن علينا التأكيد على أن كافة الفاعلين يحملون مرجعية خاصة، منها المرجعية الإسلامية، يحق للجميع الدفاع عن المرجعيات التي يؤمن بها لكن دون أن يفرضها على أحد، ففي مجال التدافع السياسي علينا ألا نستدعي مفاهيم من حقول أخرى ونسقطها كما هي على الحقل السياسي… والمهم في هذا الباب هو تحييد المؤسسة الدينية عن المنافسة الحزبية والصراع الحزبي، توضح. ليس بمعنى إقصاء الدين عن الشأن العام والشأن السياسي، تضيف، وذلك لأن مجموعة من قيم الدين الإسلامي الكبرى هي في عمقها قيم سياسية.
وفي الدائرة الثالثة والأخيرة، وهي علاقة الدين بالمجتمع، أوضحت جرعود بأن المجتمعات هي التي تصوغ كيف يكون شكل المجتمع وطبيعته، ومن أهم ما يصنع المجتمع هو طبيعة حضور الدين ونسبته وشكله، لأن الدين ملك المجتمع. وعندما نصل إلى هذه الخلاصة فالسؤال يصبح هو ما السبيل لافتكاك الدين من هيمنة السياسة؟ وكيف ننقذ الدين لكي لا يكون آلية من الآليات التي تستعملها الدولة في إطار الصراع السياسي.
أبو بكر الجامعي قال إن من يتحدث عن فصل الدين عن الدولة، عليه أولا أن يعلق على ما هو موجود اليوم، فحسب الدستور المغربي نحن دولة ثيوقراطية. وأضاف أننا متفقون جميعا أنه ليس على الدولة أن تفرض دينا وفي نفس الوقت ألا تكون دولة دينية، ولكنني لا أرى كيف يمكن أن يكون فصل الدين عن السياسة، موضحا السياسة هي العلاقة بين الأفراد، وفي فرنسا مثلا يوجد هوس العلمانية الذي يجعل مجرد حديث الإنسان عن دينه أو التنويه به يجعله ظلاميا، وهذا النوع من الديمقراطية يتنافى مع العلمانية، فإذا كنت أنا إنسانا بوذيا وأعطتني البوذية مزايا، وأردت أن أطلع الناس على مزاياها ستمنعني الدولة من قولها؟ أو المسلم أو اليهودي أو غير ذلك.
وبالتالي حضور الدين في السياسة حتمي، لأن طبيعة الإنسان تحمل جوانب روحانية وأخلاقية، فهناك من يعتبر أن الدين يمنح عمود فقري من الأخلاق يسعاهم على التعايش والتعامل مع الضغوطات ومشاكل الحياة، وسيصبح بالتالي نفي الاستماع إلى الحديث الفلاني أو الآية الفلانية نوعا من الاستبداد. مشيرا إلى أنه تاريخيا كانت الشريعة تلعب دور الدستور في الحياة السياسية.
وأضاف الجامعي أن نخبنا تتبع التجربة الفرنسية بشكل كبير، وهي غير منفتحة على العالم الأنجلوساكسوني في العلاقة ما بين الدولة والدين، وفعلا على الدولة أن تحمي تعددية الدين وليس القيام بالهجوم على الدين، وأن تحمي حرية المواطنين في اختيار الدين الذي يريدونه، وليس أن تلزمهم بعدم اختيار أي دين، وإذا أردنا اختيار هذا التوجه فالمجتمع سيرفض ذلك، لأن هناك تاريخا وتراكماً.
الحوار.. مدخل شرطي إلى الجسر العملي بين الواقع والمأمول
اتفق المتدخلان والمتدخلة على تثمين هذه الندوة باعتبارها تفتل في هذا التجسير العملي، وتعميمها وتنويع كل الأساليب الأخرى وتوسيعها ومأسستها وفتحها على مختلف القضايا مثل الدستور الديمقراطي، فصل السلط، قضايا الهوية، علاقة الدين بالسياسة.
وكان القسام المشترك بين كل المتدخلين في هذه المسائل هو توسيع الحوار ورفع سقفه، وتوسيع دائرة الممانعين للاستبداد والفساد ليشمل إضافة إلى التنظيمات المفكرين والمثقفين والشباب ورجال الاقتصاد…