الأستاذ ركراكي يبسط الصفات التي تفترضها جماعة العدل والإحسان في أعضائها

Cover Image for الأستاذ ركراكي يبسط الصفات التي تفترضها جماعة العدل والإحسان في أعضائها
نشر بتاريخ

أجرت بوابة العدل والإحسان، في إطار سلسلة “قضايا وتصورات.. حوارات مع قادة ‘العدل والإحسان’”، التي أطلقتها بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة لتسليط الضوء على قضايا جوهرية في فكر جماعة العدل والإحسان وتصورها، حوارا مع فضيلة الأستاذ منير ركراكي، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، حول السمات والصفات التي يفترض في أعضاء جماعة العدل والإحسان حيازتها.

فيما يلي نص الحوار كاملا:

الأستاذ منير ركراكي، ما الذي يُفترض أن يميّز شخصية عضو جماعة العدل والإحسان؟

بادئ ذي بدء نحمد الله الذي أمدّ في عمرنا حتى نشهد هذه اللحظة التاريخية التي تؤرخ لمرور أربعين سنة على تأسيس هذه الجماعة المباركة؛ جماعة العدل والإحسان، وللرّقم رمزيته الاعتبارية على مستوى الفرد والجماعة والأمّة بإذن الله، كما أحمد الله وأشكره على أن استخدمني دون أهلية منّي للإسهام في هذا التاريخ والتوثيق بما تيسّر في موضوع من الأهمّية بمكان يتعلق بما يميّز شخصية عضو جماعة العدل والإحسان. فأقول وعلى الله التكلان أنّه من المُغايِر للعدل والإحسان أن نعرض أيّة شخصية على معيار تجمُّع بشريّ أيّاً كانت مَرجعيّته وماهيته ومَقصديته، لأنّ الشخصية الإنسانية تتفاعل في نشأتها وتكوينها وبنائها عوالم عدّة، وعوامل مختلفة، ومعالم متنوّعة ومتكاملة؛ عوالم تاريخية وحضارية، وعوامل عرقية وبيئية موروثة ومكتسبة، ومعالم مادية ومعنوية.. والشخصية الإنسانية محصّلة كلّ هذه المكوّنات الموروثة والموهوبة والمكتسبة اضطرارا واختيارا. مِن هنا لَزِم أن نُعيد صياغة السؤال على الشكل التالي: ما الذي تفترضه وترجّحه جماعة العدل والإحسان في شأن العضو المنتمي إليها ضمن مكوّنات المجتمع المغربي والعربي والإسلامي والإنساني مما يُزايِل غيرها من المكونات ويميّزها عنه؟ لتكون مقاربة الجواب افتراضا وتقريبا مُنبعِثة مِن صميم شعارها العدل والإحسان؛ العدل: أي الإسهام مع مكونات المجتمع الأخرى في إرادته عدلا في الحكم، والقضاء، والقسمة، والسّعي له سعيه من أجل تحقيقه في أقصى وأحسن ما يُطلب ويُنال، خلافة على منهاج النبوة. والإحسان: عبادةً بإيقان ومعاملةً ببِرّ وعملا بإتقان.

هل يمكن اعتبار ما يتّصف به عضو الجماعة من أخلاق محدّدا للارتقاء في تشرّب معاني المنهاج؟

سيدي العزيز، ما دام منهاج الجماعة نبويا، أو فلنقل ما دامت الجماعة قد آلت على نفسها قيادة وأعضاء أن يكون منهاجها نبويا، فإن منهاجها يمتح من سنّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مَن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والمصطفى المكرم صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي أخرجه ابن حبان رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كرم المرء دينه، ومُروءته عقله، وحَسَبُه خُلقه»؛ والحَسَب كما عرّفه أهل اللّغة: «ما يعدّه المرء مِن مفاخر نفسه وآبائه، أو الشرف الحاصل بالكسب» وإذا فالحسب في بنك معاملة المرء عملة صعبة لها وجهان: وجه موروث ولا أقول موهوبا لأنّ ما يهبه الله لعباده فهو خير كلّه بدليل قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا وغيرها من الآيات البيّنات التي تفتِل في حبل هذا المعنى والمرمى.

 ثم إنّ الجماعة من صميم شروط الانتماء إليها: الاختيار ودوام الاختبار، ومِن حُسن الاختيار ما يعدّ للمرء مِن مَفاخِر نفسه وآبائه، والمغاربة يقولون في مثلهم المشهور: “اللّي غاب عنك أصله، شوف فعله” هذا عن الوجه الأول من عملة الحسب الموروث منه، وأمّا عن الشّرف المكتسب فهو الحاصل بفعل كرمه دينا، وعقله مروءة وهما رافعتان نافعتان دافعتان جامعتان لما يوحي به التديّن من عبادة وصدق وشوق ورفق وتقوى وحياء ورزق مِن الله من حيث لا يحتسب العبد مِن الأرزاق المادية والمعنوية، وأيضا ما تُحيل عليه المروءة عقلاً مِن حُسن تفكير وتقدير وتعبير وتدبير في الإصلاح والتغيير لما بالنّفس أوّلا، وما بالقوم مِن مَعاول الاستبداد والفساد والتّخريب والتّدمير، والذي يتعامل بهذه العملة الصعبة ذات الوجهين لا شكّ أنه أوتي الحُسنَيَين فلا يمكن أن يُنتظر منه إلا الإحسان في التماس سعادة الدّارَيْن. وقد عبّر عن ذلك أحد العلماء مِن مالي حضر إحياءً لذكرى وفاة الإمام المجدد رحمه الله فقال كلمة توزن بعيار الذهب وتكتب بمائه: «مُشكلتكم يا أبناء العدل والإحسان وبنات العدل والإحسان أنّ أباكم لم يترك لكم إرثا إلاّ الإحسان فلا خيار لكم إلاّ أن تكونوا محسنين».

هل يُفرّق منهاج جماعة العدل والإحسان لدى الأعضاء بين السّمات الظاهرة والباطنة؟

 سيدي ما دام مِن أسماء الله الحسنى الظاهر والباطن فقد خلق سبحانه في أبناء نبيّه آدم عليه وعلى نبيّنا أزكى صلاة وسلام ظاهرا مِنَ السّمات وباطنا، والعلاقة بين الظاهر والباطن علاقة جدلية؛ علاقة تبادلِ تأثُّر وتأثير، وتكامُلَ تَـمَلُّؤ وتملٍّ مَع تَخَلٍّ وتَحَلٍّ وتَجَلٍّ، فباطن العضو ما يتشرَّبُه قلبُه مِن نِيات وطويات، وعزائم وإرادات، ومَشاعِر وإحساسات وحساسيات، ومَواهِب وفُتوحات وما إليها مِن البواطن الكامِنات النّاقِصات أو الكامِلات، وما تَمَثّلَه عقله مِن أفكار ونظريات، وتصورات ومفاهيم وتوجهات، ومذاهب ومسارِب ومُعتقدات.. ولطالما حذّر الإمام المجدد رحمه الله أعضاء الجماعة مِن فِتَن مَفادُها العادات الجارفة، والأنانيات المستعلية المتمتّعة، والذهنيات القطيعية الرّعَوية، كما حذّر مِن حُبّ الرِّئاسة والظُّهور القاصِمات للظُّهور، ومِن المزاجية الغضبية التي تَنْسِفُ ولا تَبْني، ومِن الحِدّة العنيفة، نقيض الرّفق والرّحمة، والارتجالية والاستعجالية والابتذالية نقيض البصيرة والحكمة. وأمّا الظّاهر فهو التشكّل السّلوكي الصّادر عن ذلك التشرّب القلبي والتمثّل العقلي والمتجلّي به عملاً ومعاملة بما يوحي به العمل مِن وظائف وإنجازات، وما تحيل إليه المعاملة مِن مواقف وعلاقات..

ما الذي تحثّ عليه الجماعة أعضاءها مِن أوصاف وسمات في علاقتهم ببعضهم البعض، وعلاقتهم بالآخر عموما؟

العلائق سيدي رقائق وبوارق أو عوائق وحرائق، وحسن المعاملة إحسانا أو عدلا أو ظلما هو الفيصل بينها والميزان، لهذا ما تحثّ عليه الجماعة في معاملة أعضائها بعضهم لبعض ومعاملة الآخر هو الإحسان قولا للحسنى، ودَفعا بالتي هي أحسن، وعفوا عمّن ظلم، وصِلة لمن قطع، وإعطاء لمن حرم. فكما أنّ الإحسان لبّ العبادة وصُلب العمل هو رَحِمُ المعاملة، وقد كتب الله الإحسان على كلّ شيء، وأمر به في كلّ شيء وجعله قِمّة كلّ شأو خاصة مع الوالدَيْن وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًاۚ [البقرة: 82]، وفي ردود الفعل تُجاه مَن عامل بالشرّ وكان مِن مفاتيحه؛ قال جل وعلا: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 126 -127]، ومِن جميل ما سمِعتُ مِن الإمام في معاملة الناس قوله رحمه الله: “ما سِواك مِن الله إحسان إليك، وأنت وحدك مَن أُمِرْتَ بالإحسان، فأحسِن كما أحسن الله إليك، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!” وقوله في شأن معاملة المرأة عموما والزّوج خصوصا: “الإحسان إليهنّ عدل، والعدل ظلم، والظّلم حجاب”، وقوله في شأن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض: “أن تكون ذليلا على المؤمنين لا مجرّد متواضع معهم؛ خَفْضَ جناح مِن مودّة ورحمة لا اضطرارا أو كرها، ولا مجاملة أو بداعي المصلحة دفعاً لمضارّ أو جلباً لمنافع ومصالح”.  

وكثيرا ما كان يحثّنا على أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن نشهد لهم بالحقّ والقسط، ونشهد بهم حقّا وقسطا وعدلا، وألاّ ندعُوَ على أحد أبدا، وأن نكون في نُصرة مَن ظُلِم، وزيارة ومؤازرة مَن سُجِن، وعيادة مَن مَرِض، ومواساة مَن ابْتُلي، وأن نُعطِيَ كلّ ذي حقّ حقّه، دُعاء وسخاء ووفاء وفِداء وتهنئة وعزاء، وتجاوزاً وعفوا وصفحا ومراعاة ورعاية وَوِجاءً واتِّقاء شَرّ وإيذاء..

ما هي الوسائل التي يتشرّب بها عضو الجماعة تلكم الأوصاف ويأخذ من خلالها هذه السمات؟

تعدّدت الوسائل والقصد واحد هو الإحسان، وكلّ طرق الإحسان تؤدّي إلى ما نرومه من تلك الأوصاف والسّمات إذ الدّين المعاملة، ومَن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدّين، وقديما قال الشاعر:

أحْسِن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فلطالما استعبد الإنسان إحسان

ومِن أهمّ الوسائل تقرّبك مِن الرّقيب القريب المجيب ليقرّبك مِن كلّ بعيد ويقرّبه إليك، وتقرّ عينك به، وتقرّ عينه بك، والتقرّب يكون بالعبادة أوّلا وأساسا والدّعاء هو العبادة، والدّعاء مخّ العبادة، ولهذا سنّ الإمام هذه السنّة الحسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة؛ سنّة دعاء الرّابطة وهو حلقة في سلسلة نورانية ذهبية موصولة برسول الله اتباعا لا ينقطع لها خبر ذكرا، ولا ينمحي لها أثر عملا وشكرا، نورا وأجرا تلكم هي سلسلة يوم المؤمن وليلته ليلا ونهارا، إرادة وسعيا، بذرا وسقيا، ثمراً وجنيا؛ صلاة ورواتب ونوافل، وصياما وقياما وتلاوة وذكرا، ودعاء ودعوة، وتعلّما وتعليما، ومجالس ولقاءات ورباطات، ومواقف ومبادرات، واحتراما وانسجاما، وتراضيا وتياسرا وتسامحا، وكلّها مندرج في حديث شعب الإيمان البضع والسبعين الوارد ذكرها في حديث مسلم، والمنتظمة في الخصال العشر كما وردت في المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا.

تتحدثون عن أن “الدعوة الصامتة” لها وقع بليغ في قلوب الناس، أكبر من الدعوة الناطقة. فهل من تمييز واضح بين الدعوتين؟

القول ليس لي وإنّما هو للإمام المجدد رحمه الله، حين أكّد غير ما مرة على أنّ الدعوة الصامتة أثبت أصلا، وأسمى فرعا، وأدوم أكلا من الدعوة الناطقة، وفي كلّ منهما خيرٌ لا يُنْكَر، فإن كانت الدعوة الناطقة بلسان أو قلم كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فإن الدعوة الصامتة ابتسامة في وجه أخ الإنسان صدقة، وإماطة الأذى – أي نوع من الأذى – عن طريقه صدقة، وتودُّد له بمالك وما لَكَ مِن لُطف مَعشر، ولين جانب، وشهامة موقف، وشهادة مؤازرة لا  زور، ودماثة خُلق لا كِبْر فيه ولا غرور، ولا جفاء ولا نفور، ولا فسوق ولا فجور، ولا أذى ولا جَوْر، كُلّ ذلك ممّا تتألّف به قَلبه، وتربح قُربه، أو تفرّج كربه، أو تمتصّ غضبه، وتجلب حبّه، حتى إنّ الإمام رحمه الله عزّز قوله بقوله: “الدعوة الصامتة تخصيب، والدعوة الناطقة استقطاب، ودور المخصّب أوسع وأنفع وأرفع من دور المستقطب؛ فالأول يُلقي على الأرض سمداً ينبت الأشجار، والثاني يمدّ يداً ليقطف الثمار…”.

يقودنا هذا إلى اقتران القول بالعمل، حتى لا يقع العضو في محظور الآية الكريمة لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2]. هل ترون هذا التلازم شرطا في السلوك كما في الدعوة؟

يقول الإمام المجدد رحمه الله ونفعنا بذكره وعلمه: “كلامنا بساط سلوك أو “ثمرة سلوك” فعلى قدر البساط السوي تبسطه لتمشي عليه يمتدّ سلوكك”، والمرء مخبوء وراء لسانه وقلبه، وما اللسان إلاّ ترجمان لما في الجنان. وقد قيل: “تكلّم لأراك”.

هل كان الإمام رحمة الله عليه يركز على أوصاف محددة في اختيار الرجال الذين يسند إليهم مهمات؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي تلك الأوصاف؟

مما سمعته مشافهة من الإمام رحمه الله: “ثلاثة لا يخطئن في تمييز الرجال من أشباه الرجال؛ الإرادة ولا يعرفها إلا ذو الفراسة والنور، والضبط والإنجاز، وحسن الخُلُق”. وهذا الثالوث يلخص لنا ما ينبغي أن يكون عليه مجموع المؤمن من الخصال والشعب المؤهلة لأن يكون مؤمنا ينشد الإحسان فردا، ويسهم في الجماعة والمجتمع والأمّة في إرادة العدل والسعي له سعيه؛ الإرادة رمز لما هو قلبي باطن وقر في القلب لا نقر، وصدّقه العمل ضبطا وإنجازا؛ ضبطا للوقت، والنفس، والكلام، والسلوك على جادة الاستقامة والاستواء، وإنجاز ما عهد إليه بدقة وإتقان، هذا مع الثالثة الثابتة وهي حسن الخلق، فالمعاملة بإرادة وضبط وإنجاز مع الغلظة والجفاء والأنانية والاستعلاء لا تستقيم، وهي مع الرحمة والحلم والحكمة والتواضع وغيرها من الأخلاق الحسنة نور على نور، وزيادة بعد حسنى بها يرشد أمر المؤمن، ويخطو سويا على صراط مستقيم. 

قد تتساهل الجماعة مع أعضائها في أوصاف كثيرة قد لا تليق بهم، لكن هل هناك أوصاف لا مجال فيها للتسامح؟

لطالما حذر الإمام رحمه الله من الفترة العابرة التي قد تتحول إلى فتور مقيم بسبب من الإصرار، ولا صغيرة مع الإصرار كما لا كبيرة مع الاستغفار، والفتور المحذور خمسة أمور؛ السهو عن الصلاة في وقتها وفي المسجد جماعة بالنسبة للرجال، وهجران القرآن، والبعد عن الإخوان/الأخوات، والغفلة عن الذكر، والتثاقل عن الدعاء الذي هو مخ العبادة التي من أجلها خُلِقْنا.

وكما أن الفترة تؤول إلى فتور، فإن الفتور يؤدي لا محالة إلى قاصمات الظهور وعظائم الأمور، وهي خمس على سبيل الذكر لا الحصر؛ وعلى رأسها الشعوذة والسحر وغيرها من الشركيات البواتر، والجرائم الأخلاقية كالزنا وغيرها من الكبائر، وإذاية المؤمنين بالباطن والظاهر، وسخط الوالدين وقطع الرحم وإذاية المؤمنين والمؤمنات قولا وفعلا أو معاملة وخلقا، وخيانة الأمانة مادية كانت أو معنوية ككشف الأسرار. وفي ذلك يقول رحمه الله: “لا تساهل ولا هوادة”.

الإمام رحمه الله كان يردد مقولة “القلب مع الله واليَد في الطّين”. هل يستطيع المرء الجمع بين الأمرين، وكيف يكون ذلك؟

الجمع بين ما يبدو في ظاهر الأمر مُتناقضَيْن مُتباينَيْن هو حكمة مَن فاتته فاته خير كثير. وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ [البقرة: 268].

ومِن ذلك الجمع بين أن تكون مع الله على كلّ حال وفي كلّ حين عبادة في ما يعتبره الناس عادة؛ بِنِيّتك وهَمِّك وهِمَّتِك، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «مَن أصبح وهمّه غير الله فليس مِن الله، ومَن أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم»، وفي رواية للطبراني: «ومن أعطى الدنيّة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا». فكلّ ما مِنْك عبادة ولو كنت طينا تعامل طينا وتعمل في طين، وهل الخلْقُ إلا طينٌ أرضا وما فيها، ومن فيها من أبشار وآدميين مكرمين؛ ففي الأرض يدك طينٌ في طين عملا ومعاملة، وقلبك معلّق بالسّماء التي فيها رزقك وما توعد، وفي الأرض سعيك وبين الناس وإرادتك موصولة بربّ الدّنيا والآخرة، وليست مقصورة على الدّنيا، ولا محصورة في الآخرة، من باب قول معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته: «إنه لابد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنه سيمر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاما». وقول الإمام: “لا نريد دنيا تنسينا آخرتنا التي فيها معادنا، كما لا نريد آخرة تنسينا دنيانا التي فيها معاشنا، كما لا نريد دنيا وآخرة تنسياننا ربّنا الذي هو غايتنا، ووجهه مبتغانا ومنتهى آمالنا”.  

وكثيرا ما كان يحذر الإمام وينذر من ثلاثة مزالق وهي نقيض السلوك الجامع المتوازن؛ الإسلام الفكري، وإسلام الزهادة والدروشة، والحركية على حساب التقوى والعلم. 

كثيرا ما يعاني أعضاء الجماعة أكثر من غيرهم من الحصار والتضييق في الأرزاق، ما الذي يحملهم على تحمل ذلك الضيق والعسف؟

يَحمِلهم على تحمّل ذلك المثل القائل: “مَن عرف ما قصد هان عليه ما وجد“؛ هان عليه ما وجد من خير وبركة وأرزاق مادية ومعنوية ليست مقصودة لذاتها إذ المقصود الله في كلّ ما نُريده ونسعى إليه، كما هان عليه ما وجد مِن بلاء في الدّنيا لأنه مجرّد ابتلاء لزم أن يُدرأ بالصّبر، وإنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى، ثم يُدرأ الصّبر على البلاء بالرّضى بالقضاء، ثمّ يدرأ الرّضى بشكر الله على النّعماء المنتظر أن يُنعم عليه بها مَن ابتلاه ليطهّره وينقّيه ويزكّيه ويقوّيه ويرقيه، فيسعى إلى النجاح في الابتلاء دنيا ليظفر بالفلاح أخرى من باب: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. فصبرهم في الله وبه ومعه وهم على أمره قائمون وبه هادون مهتدون لم يكن ليكون لولا يقينهم في الله مع الصابرين المحسنين ظنّا به، أنّه لن يترهم عملهم ولن يخيّب رجاءهم، فمن كان مع الله لا عليه كما يقول سيد قطب الشهيد السعيد، فكن مع الله تر الله معك كما يقول النشيد الحميد.

تلكم السمات التي يتميز بها عضو الجماعة، وكل مؤمن، ويزايل بها غيره، قد يكون له نصيب وافر من بعضها وسهم أقل من غيرها، ولعل لهذه الأسباب عرض الإمام مفهوم “المجموع” الذي يحصّله العضو. فما دلالته وأهميته؟

سيدي الحبيب اللبيب هذا المفهوم: مجموع المؤمن من الخصال العشر؛ صحبة وجماعة، ذكرا، وصدقا، بذلا وعلما وعملا، سمتا حسنا، وتؤدة، واقتصادا، وجهادا باستحضار ما ينضوي تحت كلّ خصلة خصلة من شعب الإيمان هو مفهوم تجديدي تربوي تعليمي تكويني تأهيلي للفرد داخل الجماعة، وللجماعة داخل المجتمع والأمّة، يحمل رسالة العدل والإحسان بعدل وإحسان؛ دعاء ودعوة، لا دعاية ودعوى. والعاقبة للتقوى التي إن غابت سيطر الهوى وغلب الأقوى. فالمجموع ما يعطي للمنهاج سمة النبوة، لأنها جامعة مانعة؛ جامعة لكل خير ومفتاح له، مانعة من كل شر ومغلاق له، بما هو منهاج أصيل ثابت، فرعه في السماء، وأُكلُه دائم بإذن الله، ثم إنّه منهاج واضح متوازن متدرّج فعّال، مستقبلي في دنيا الجهاد لتحقيق وعد الله الحق، وموعود رسوله الصّدق بالخلافة على منهاج النبوة، وآخرة المعاد حيث رفقة النبيئين والصدّيقين والشّهداء والصالحين في أعلى عليين بجوار سيد الأولين والآخرين على سرر متقابلين، وجوها ناضرة إلى ربها ناظرة أبد الآبدين. وهناك من الجماعات أو الجمعيات أو التجمعات الإسلامية من لها اهتمام بشأن من شؤون هذا الدّين لكنها تذر الشؤون الأخرى مطلّقة أو معلّقة، فمَثَلُ الفرق بين مَن يشترط على العضو مجموعا من شعب الإيمان، ومن يقنع أو يكتفي أو يَعنيه أو يُغنيه منه بعض دون بعض، كالفرق بين أصحاب التخصصات في ألعاب القوى وبين مَن هو منخرط في مضمار الألعاب العشرية، قد يبزّه المتخصّص في لعبة من تلك الألعاب ويرجحه فيها لكن المنافس في الألعاب العشرية له حظ من تلك الألعاب لا يستهان به، وهو في المجموع وبه مائز فائز حائز على تقدير الجميع واحترامهم، سابق لهم بمجموعه من باب المقياس العمري رضي الله عن الفاروق وأرضاه: “المرء وحظه من الله، المرء وسابقته، المرء وغناؤه”. ومن باب قول الإمام المجدد رحمه الله: “المجموع بلا اختصاص يدعمه سلامة بلا غنيمة، والتخصّص بلا مجموع غنيمة بلا سلامة؛ فذو المجموع متوازن في سيره لكنه يحتاج إلى تخصّص يجعله قوّة اقتراحية واقتحامية راشدة، سابقة قائدة، قدوة رائدة. وذو التخصص بلا مجموع قد يغنم بتخصصه لكنه لن يسلم، وفي سلوكه ثغرة أو ثغرات يؤتى منها على حين غفلة وغرة ونقص وخصاص. ويشبّه الإمام التخصص بالإبرة النافذة وهي بلا خيط جامع حادة لا تسعف في رتق ما تفتق، وتأليف ما تشتّت. ويشبّه ذا المجموع بالخيط الذي لا تتقدمه إبرة نافذة؛ فالخيط بحاجة إلى تلك الإبرة حتى يفعل فعله المؤثّر والمغيّر وإلاّ كان نفعه ضئيلا، هزيلا، بالمراد مخلاّ.

والجامع بين المجموع والتخصص هو النافذ النافع، المقتحم الملتحم بإخوته الملتزم معهم بالسلوك الجامع، والإطار الواسع الذي يسع الفرد في منهاج نبوي كامل متكامل، كما يسع الجماعة في المجتمع والأمّة كعنصر جامع منجمع مجتمع على وحدة قيادة، وتصوّر وغاية وسلوك وقلوب. يقول سيد قطب رحمه الله في رسالته لأخته بين يدي تنفيذ الحكم عليه بالإعدام من قِبَل العبد الخاسر عبد الناصر: “أختي الحبيبة (…) نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة!.. ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه (…) ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجّهون الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق؟..

إن الرواد كانوا دائماً وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة؛ هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزودة بكل هذه الجزئيات، قوية بهذا الزاد، وهي تغذّ السير نحو الهدف السامي البعيد!..

هؤلاء الرواد هم الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في: العلم، والفن، والعقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحداً منها ولا يرفعونه فوق مستواه!

الصغار وحدهم، هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضاً بين هذه القوى المتنوعة المظاهر؛ فيحاربون العلم باسم الدين، أو الدين باسم العلم..

ويحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة!.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى، منعزلة عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد…

ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة، لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يستمدون!..» [أفراح الروح للشهيد سيد قطب رحمه الله].

مع طول الأمد، كيف يثبت المؤمن على إيمانه ويحافظ على خصاله وسماته، بل ويرقى بها في سلّم الإيمان والعبودية والإحسان؟

لقد سألتَ أخي عن عظيم، وإنّه ليسير على مَن يَسَّرَه الله عليه كما أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين قال: «يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخِلُنِي الجنة ويُبَاعِدُني عن النار… الحديث» 1.

مُبتدأ الخبر أن تجد خليلا صالحا مصلحا على سَنَن المبعوث رحمة للعالمين وسُنَنه متّبعاً له بإحسان، قائدا مقتديا قدوة في جماعة تأتمر بأمر الله الذي أمر بالعدل والإحسان، ثم تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إذا استطعت إلى ذلك سبيلا. كما دلّه على أبواب الخير: «الصومُ جُنة، والصدقة تُطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاة الرجل في جَوف الليل». الصوم بمفهومه العام الشامل؛ صوم العينين عن الخيانة، واللسان عن الحصائد، والقلب عن الحالقات، وصوم البطن والفرج عن الحرام… والصدقة تطفئ الخطيئة؛ وابتسامك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وفي بُضع أحدكم صدقة، وحتى اللقمة يضعها الرجل في فيّ زوجه صدقة، والصدقة من المال، والله يربي الصدقات، ومن العلم ومن الوقت ومن الجهد، ومن الأهل والولد، ومن كلّ ما تجد، فإن لم تجد حُضَّ مَن يجد على أن يُعطِيَ مما وجد: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة24 :].

وصلاة الرجّل في جوف اللّيل؛ هذه عون لك على الوقاية والعلاج وإسراء إلى تلك المعالي ومعراج؛ صلاة الرجل من جوف الليل حيث ينزل ربنا إلى السماء الدنيا – كما يليق بجلاله وعظم شأنه سبحانه -: «مَن ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له» 2، حينها ينبغي أن تمدّ وعاء يديك وتسأل من الله سبحانه وتعالى ما يعطيك لتنفع به عيال الله، فأحب الناس إلى الله لا الأرفع في عياله بل الأنفع لعياله. ثم دلّه على رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وقد عَدَّ الإمام المجدّد للجهاد ثلاثة عشر بابا – جهاد النفس، وجهاد المال، جهاد التعليم، جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جهاد الكلمة والحجة، جهاد التعبئة والبناء، الجهاد السياسي، جهاد التنفيذ، جهاد الكفر، جهاد النموذج الناجح، جهاد التوحيد -. ثم أخبره بملاك كل ذلك؛ حين أخذ بطرف لسانه وقال: كُفّ عليك هذا؛ فاللسان، ادعاء ودعوى وإنكارا وخنا ولعنا وطعنا وانتقادا هدّاما وما إلى ذلك من صنوف ما يأتي من اللسان من حصائد، هو سبب الهلاك وهو معول الهدم لكل بناء وما ينبئك مثل خبير. والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، والحمد لله العلي القدير، به نستجير وإياه نستخير، وأهله وخاصته نستشير، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله في الأول والأخير.


[1] عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: «قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخِلُنِي الجنة ويُبَاعِدُني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليَسير على من يَسَّره الله تعالى عليه: تعبدُ الله لا تشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتَصومُ رمضانَ، وتَحجُّ البيتَ. ثم قال: ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنة، والصدقة تُطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاة الرجل في جَوف الليل ثم تلا: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)… حتى إذا بلغ (يعملون) ثم قال ألا أُخبرك برأس الأمر وعموده وذِروة سَنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذُروة سَنامه الجهاد. ثم قال: ألا أُخبرك بمِلاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال كُفَّ عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّك، وهل يكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوههم (أو قال على مَنَاخِرِهم) إلا حَصائدُ ألسنتِهِم؟» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
[2] رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر». وهذا الحديث أخرجه الترمذي كذلك.