نقطة نظام

Cover Image for نقطة نظام
نشر بتاريخ

يتحدثون عن الهولوكوست! ويعيدون صنعه بإجرام أكثر همجية ووحشية، دافعهم الحقد على الإسلام والعرب والإصرار على إبادة أصحاب الأرض، ولم يشف صدور فاشيتهم القتل والتهجير، وإنما عمدوا دون وازع إنساني أو قانوني إلى تدمير البنية التحتية مع استهداف الجامعات والمستشفيات وشركات الاتصال والمصارف، فضلا عن الشركات ومخازن المصانع، سعيا منهم إلى تدمير كل مقومات الصمود والانبعاث.

إبادة ممنهجة أتلفت كل وسائل الحياة الكريمة على أرض تزعم أحقية ملكيتها، اجتهدت بكل سبلها الحقيرة في شن حرب إعلامية موازية، روجت لأكاذيب وسردية خاصة، تلعب فيها دور الضحية، التي يأبى كل من يواليها تصديقها، وتكبد عناء الدفاع عنها، وإلقاء اللوم على المقاومة التي أخطأت كما يزعمون حين اقتحمت أرضها المغتصبة وهاجمت سارقها، باعتبار أن السرقة أصبحت قدرا وجب التعايش معه والرضوخ لواقعه.

شر البلية ما يضحك كما يقال، من سرق مالي وبيتي ألزم بالترحيب به والتعايش معه، وأكون مذنبا إن قاومت ودافعت عن عرضي وأرضي.

هؤلاء الذين جرموا المقاومة ومايزالون يدعون أن ما فعلته إجرام، لماذا أصابهم البكم بعدها ولم يجرموا فعل الدمار الذي سعى له المجرم الغاصب؟ لماذا لم يحركوا ساكنا أمام هذا الكم الهائل من الجثامين؟ لماذا أصابهم الخرس أمام ما يتفرجون عليه من مشاهد التقتيل والتجويع والتهجير؟ أين هم من صرخات الأطفال وهم يبكون بردا وعراء في خيام لا وظيفة لها إلا الستر من أعين الناظرين، بينما الأمطار والعواصف وشدة البرد تقاسمهم الإيواء وتؤنسهم دون استئذان.

أين هم من مسؤولية الراعي؟ تلك المسؤولية التي تلزم الانخراط التام وبكل فاعلية؛ مؤازرة لجزء من جسدهم الجريح، والبحث بكل جدارة عن موقع قدم فاعل ومؤثر، يقفز بهم من الهامش؛ موطن المفعول به المتفرج، إلى إرادة الفعل والمبادرة، على تعدد أشكالها.

أين هم من سؤال رب الأرباب عما قدموه نصرة لإخوتهم؟ أين هم من شكوى أهل غزة عندما تجتمع الخصوم؟

في مثل هذه الأحداث لا غرو أن الفعل والإرادة في صنع المواقف المشرفة، هو المحك وعنوان المروءة، كل من موقعه مسؤول، شعوبا وأنظمة. وأشكال المؤازرة لا تنحصر؛ كتابة، دعاء، مسيرات ووقفات، أفلام ومسلسلات، وبرامج.. كل ذلك يسهم في شد عضد الإخوة، ومساندتهم ولو من بعيد، بل يسهم بشكل كبير في الضغط على المجتمع الدولي الموالي للصهيونية، وكشف زيف شعاراتها.

ألا يستحقون منا أن نخط مقالات ونصدر كتبا، كما تجندنا بعد التطبيع المشؤوم، لعقد الندوات وتشجيع الباحثين على الاهتمام بالدراسات اليهودية فرحا وطربا بـ”تلاقح الثقافات”، التي بالغت في تضخيم ما يسمى بـ”التراث اليهودي” وكأنه اكتشاف جديد، أعقبته حفريات أثرية بحثا عن آثارهم، أو قبور أنبيائهم المزعومين.

واحتفاء بكل ذلك أقحمت ضمن المناهج التعليمية تلك الثقافة، وتجندت الأسرة التعليمية من أجل غرس ما يتناقض مع مبادئها في عقول أبنائها البريئة باسم التعايش، الذي في واقع الأمر جعلها في كثير من الأحيان، أضحوكة وسط استفهامات النابغين منهم، خاصة من لهم ثقافة رصينة بحكم تربيتهم السليمة.

ولم يقف الأمر عند الرقص لثقافتهم بل فرضت مجاملتهم تلك؛ السعي لتقليص حصص تدريس مادة التربية الإسلامية، وآخر إجراء ما اعتبرته يندرج في مراجعة مضامين بعض المناهج التربوية، التي تطلب حذف بعض الدروس، لكن بالطبع لم تجد ما يحذف إلا المواضيع المتعلقة بفلسطين، وتحديدا القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وهو بالتأكيد فعل ليس بالمناسب في ظرفية غير مناسبة، تؤكد أن الأمر متعمد، يروم قتل قضية فلسطين في وعي الصغار من أبناء هذا الجيل المفروض عليه معانقة الصهيونية وليست اليهودية كما يدعون.

ولم يقتصر الأمر على وزارة التعليم، بل تعداه إلى قلب الأمة النابض؛ المسجد وما أدراك ما بيت الله، الذي لم يسلم من تداعيات التطبيع المخزي فأصبح الدعاء لأهل غزة جريمة يعاقب عليها الإمام بالفصل والتوقيف.

أي مهزلة وأي مذلة أكثر من هذا الانهزام الأخلاقي واللاإنساني.

وماذا بعد، لنقل أننا قد طبعنا ولم تكن هذه المشاهد الموجعة حصلت بعد، وانطلت علينا حيلة التعايش، لكن الآن ما هو موقفنا جراء كل ما يحصل؟!

ألا يرون مشاهد التقتيل الحية، والصور أبلغ من المقال، تحكي وحدها ولا تحتاج لتعليق، أليس هؤلاء إخوتنا في الدين والعقيدة أم أخوة الوطن أبلغ من غيرها؟!

وعن أي أخوة يتحدثون؟ وأي وطن هذا الذي ما زال يجمعنا ويؤاخينا؟ لقد هاجروا إلى موطن مزعوم، موطن استولوا عليه غصبا وسرقة، وهم الآن من يذبحون أبناءه، ويعيثون في أرضه فسادا، والحاصل إن مثل هؤلاء لا يمثلوننا ونحن برآء منهم ومن أفعالهم، ومن بقي في موطني منهم وأعلن تبرؤه من أفعالهم؛ لهم حق المواطنة والتعايش، كما تفرض علي أخوة الإسلام مساندة المقاومة بغزة.

من المفيد جدا أن نعي ما حولنا ولا نخلط الأوراق، ونحاول قدر الإمكان التخلص من التبعية العمياء التي أريدت لنا، وقد مثل السابع من أكتوبر بداية الانبعاث لهذه الأمة لو قوبلت بالدعم والمؤازرة، نعم لقد قدم أبطالها فرصة لا تعوض، وقد أبانت مبادرتهم الشجاعة عن أربع حقائق؛ أولها: أن المسلمين لا يزالون قادرين على النهوض كما الصمود، ما داموا مستمسكين بحبل الله. وثانيها: أن الصهيونية مهما تجبرت فهي إلى زوال، وقد بان ضعفها وجبن جيشها، الذي قهرته أيادي المقاومة وحطمت أسطورته المزعومة، بعدتهم البسيطة وعزيمتهم القوية ويقينهم في الله. وثالثها: وهي الأكثر مرارة، أن أمتنا التي أصابها الوهن؛ هي من اختارت وضعها المتردي وما زالت تسعى لإقبار نفسها في ما يبقيها تابعة منهزمة. ورابعها: وهي المسلَّمة التي تعيها كل المجتمعات المسلمة، ولا تقبل الاعتراف بها، مفادها أن أمريكا وحلفاءها الغربيين لن يدخروا وسعا في مناهضة العنف والإجرام، إلا إن وقع على بلاد المسلمين، فكل رؤوسهم الشيطانية تتحد ضدا عليها.

حقيقة لا نقبلها خوفا وجبنا من عقدة الغرب المتغطرس، والواقع أننا نحن من نسهم في صنع جبروته، ولا أدل على ذلك ما يحدث اليوم من جرائم ومجازر ترتكب على مرأى ومسمع منه، ولم يكلف نفسه تسجيل موقف ينم عن مسؤوليته الدولية، ولطالما تغنينا ومعنا العالم ببطولاته، وحفظنا عن ظهر قلب ثقافته، باعتبارها حامية للحقوق والحريات اللامتناهية حتى فيما تنفر منه الفطرة السليمة.

حرية دأبت أن تروج لأفكارها، وتصور لها أبطالا خارقين يدافعون عن حقوق الإنسان وحرية التعبير وحق الطفل والمرأة، وغيرها من الشعارات الكاذبة، أجهز عليها طوفان الأقصى وعراها من وهم البطولة والهالة التي صنعت لها.

أعجب والعالم أضحى في قبضة اليد بين جهاز صغير يحمل حجم كل تلك البشاعة، نطل على مشاهدها الموجعة، ولا تحرك فينا ساكنا يعبر عن رفضنا لكل تلك الهمجية، أما آن لهذه الأمة أن تصحو وقد صحت شعوب العالم الحر، من استنكرت كل تلك الممارسات الوحشية للصهيونية، وخرجت بمسيرات كبيرة منددة، ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا في تنديدها ومناهضتها، بل وثار الكثير منها في وجه رؤسائهم، يعيبون عليهم دعمهم لما تسمى بـ”إسرائيل”، بأشكال إبداعية، رفعت فيها العلم الفلسطيني، ودعت بالحرية لبلاده ودعت بكل قوة لوقف إطلاق النار.

أين نحن من كل هذا؟ هل تنديد الآخر يسقط عني المسؤولية؟! هل أصبحت بشاعة المشاهد مألوفة لدينا؟! ألا يستحق الحدث أن أصنع وأسجل موقفا يشرف انتمائي كمسلم يضيرني ما يضير إخوة لي في العقيدة والدين؟ ألا أستطيع أن أكون أكثر مروءة من الشعوب الغربية وأعبر عن قضية هي أقرب إلي منهم؟ ولو في أبسط تعبير؛ كأن أدحرج الكرسي في مقهاي، وأقهر متكئي في بيتي، وأنتصر على جلسات المنتزهات لأشارك في وقفات أغلبها قد لا تبعد عني قدر أقدام.

إن قضية غزة وكل فلسطين قضية أمة تهمنا جميعا، وصمتنا هذا إنما يذكرني بقصة الثيران الثلاثة والغنم التي لم تعبأ لأكل أخيها، وفلسطين ليست المرمى الوحيد، وما التطبيع إلا نقطة في بحر يموج بأشكال وصور من الطمع الغادر، الذي تندفع موجاته عبر دفعات ممنهجة، تأكل الثور بعد الثور والشاة بعد الشاة.

وإن قامت حماس ورفعت راية الجهاد، فطوبى لها أن صمدت، وتقوت بيقينها في موعود الله تعالى مقبلة غير مدبرة، وفيها خيرة شباب غزة فرحين بما آتاهم ربهم من فضله، عاشوا لله وجمعوا بين خيري الدنيا والآخرة، ووعوا جيدا أن الإسلام هو كل لا يتجزأ؛ جامع للشتات الذي تسعى الصهيونية وأعداء الله أن تفرقه في عقولنا، وتوهمنا بأن دوره ينتهي عند عتبة المسجد، فأين نحن من كل هذا؟

حماس هذه القطعة من جسم الأمة، تاقت إلى الحرية والعزة، ولأن أعضاءها كذلك فهم أبناؤنا بغض النظر عن الانتماء، ذلك البعبع “الإخوان” الاسم الذي ترسخ في ذهننا عنه الكثير من التمثلات المرسومة والمقصودة. أمة تراكمت عليها الفتن والابتلاءات، وجعلت الشماعة التي تعلق عليها محنتها وانحدارها؛ الإسلام ولا شيء غيره ومعه أصحاب اللحى أو “الإخوانجية” كما يسمون في لساننا الدارج، ولم تتمكن الهزيمة التي ألحقوها بقوى شر العالم أن تزحزح شيئا مما راكمه الزمن في أذهاننا، لم نستوعب أو ببساطة لا نريد أن نتصالح مع ذواتنا ونعترف أن حماس ومثيلها من الحركات، لها خلفية إسلامية لا تخرج عن جلد أمتها وثوابتها، نعم إسلامية بالإسلام الحق الذي يستوعب الإنسانية برمتها، ولعل في كل ما تابعناه من خلال هذه الحرب غير المتكافئة، دليل بيّن على معدن أخلاقها وتربية إسلامها، الذي يسمونه إرهابا.

وإن صنعت المقاومة بغزة نصرا حين نصرت الله ودينها وأرضها، فكيف بنا نحن إن كتب لنا أن نصحو متأخرين وقد غادرنا ركب التغيير والتحرير، هل نستطيع أن ننجو بأنفسنا من فعل النكوص، إلى فعل مشرف يسطره التاريخ بمداد الفخر وقد تكالبت علينا الأمم، وإني لأسمع وأنا أخط هذه الحسرات، هجوم أمريكا على العراق وسوريا واليمن؛ انتقاما لجنودها ومصالحها، فهل بقي لدينا نحن شيء من المروءة ننتقم بها لكرامتنا؟