من فقه الدعاء الموسَوي

Cover Image for من فقه الدعاء الموسَوي
نشر بتاريخ

قال ربِّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلُلْ عقدةً من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اُشدُدْ به أَزْري، وأشرِكْهُ في أمري، كي نسبّحَك كثيرا ونذكرَك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا

أول علامات النُّجْحِ والتوفيق أن يُلهِمَك المولى سبحانه صدق التوجُّه إليه والاستعانة به وطرق بابه، إذا أطلق لسانَك بالدعاء فاعلم أنه يريد أن يعطيك..

إن أول شيء سأَلَه سيدُنا موسى عليه السلام ربَّه، بعد بعثته وتكليفه بالمهمة الخطيرة: الذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله، هو شَرْح الصّدر، والشرح الاطمئنان والميل الواضح، وغالبا ما يكون بعد تردّد أو تلكُّؤ، أو حَيْرة وصعوبة اختيار، أو بعد استصعاب وتهيُّب، فالأمر كان في غاية الخطورة.

شرح الصدر علامة ثانية على مدد الله ومعيَّته ورضاه في الإقبال على المهمات، لكن يحتاج الاطمئنان القلبي والتوفيق في الاختيار، إلى توفيق آخر يصاحبُ القائمَ المقتحمَ ويسدِّدُ خطاه، وذلك هو توفيق التدبير، ولذلك ثَنَّى عليه السلام بقوله: ويسِّر لي أمري، إِذِ التيسيرُ تسهيلٌ وتليينٌ وبركة، يُقتصدُ فيه الجُهد والوقت، مع حصول النتائج المرجوّة أو أكبر من تلك المتوقعة.

فمن توفيق الاختيار الذي يُستدلُّ عليه بانشراح القلب واطمئنانه وإقباله، إلى توفيق التدبير الذي تحفُّه البركة ويصاحبه التيسير، إلى توفيق الوسيلة فتوفيق الأثر، والوسيلة كانت بلاغة النبوة المستندة إلى الوحي ابتداءً، ثم إلى حكمةٍ وطلاقةٍ وإحكامِ خطاب، هو من ضرورات الوقت ولوازم المدافعة، وهي الوسيلة التي أعطاها سيدنا موسى عليه السلام حقَّها، ولم يبخسها قدرها، فجرّاءَ عقدة اللسان التي كان يعاني منها سأل مولاه أن يحلّها، وأضاف طلب الاستعانة بفصاحة أخيه هارون، زيادة إحكام، وطلب عون وإسناد لا حَرَج فيه: وأخي هارون هو أفصحُ منّي رِدًا يُصدِّقْني.

أما توفيق حصول الأثر، فهو إصابةُ الوسيلة هدفَها وتحقيقُ نتائجها: يفقهوا قولي، هذا هدف نجاعة الوسيلة وصلاحيتها وفعاليتها، لكن هدف المهمة أسمى وأعلى من مجرد الفقه والفهم؛ الهدف الاستجابة لله ولرسوله والكف عن الظلم والجبروت واستعباد خلق الله تعالى.

لكن المهمات الجليلة، تتجاوز، في كثير من الأحيان، هِمَمَ الأفراد وعزائمهم، مهما ارتقت وقوِيَت، إذ لا بد من عمل جماعيٍّ مُنظّم، تتكامل فيه المواهب والاستعدادات، وتتظافر فيه الجهود لتصب في حركة واحدة منسجمة قائمة باضطراد قاصد على محجة لاحبة.

ألم ترَ كيف أفصح سيدنا موسى عليه السلام عن حاجته إلى من يعينه ويسنده، ويسترشد به ويستشيره في أمره!

ألم تَرَ إلى وضوح الرؤية عند نبي الله من وراء دعائه: اُشْدُدْ به أزري، وأَشْرِكْهُ في أمْري!

الهدف الواضح بحثٌ عن الإسناد وزيادة تيقُّظٍ وحزمٍ: اُشْدُدْ به أَزْرِي، الأمر بحثٌ عمّن يعضِّدُ حركةَ الدعوة في اقتحامها، وما تتوقعه من صعوبات وما تستشرفه من متطلّبات، الهدف كان فقها كبيرا اسمه فقه الإشراك، يبدأ من اختيار الكفاءات المناسبة بعد معرفتها جيدا وحسن توظيفها ورعايتها (كان سيدنا موسى أكثر الناس معرفة بأخيه وقدراته واستعداده لقربه منه)، وإنه لفقه تنظيمي عظيم إذا افتقدته حركةُ الدعوة كادت تطيش لكثرة الأخطاء والخيبات.

فهل نسي سيدُنا موسى عليه السلام بعد كل هذا غايةَ حركته ودعائه، وهل شَغَلَتْهُ المهمّةُ ومتطلّباتُها عن القصد الأسمى والوظيفة الجُلَّى؟

أبدا. فما زاغت رؤيتُه ولا حادَتْ عن المغزى الأكبر نظرتُه: كي نسبّحَك كثيرا ونذكرك كثيرا، إنك كنت بصيرا.

ذكر الله تعالى والتعاون عليه وعلى الإكثار منه، هو الهدف الأسمى والموئل والمعاد من وراء كل حركة دعوة وجهاد، ذكر الله تعالى واستشعار العبودية له والخضوع لجلاله وسلطانه: إنك كنتَ بنا بصيرا، هو غاية الغايات والمقصد الأسمى من وراء كل سعي وحركة، ولذلك، يُعَدُّ أيضا أقوى مرتكز، وأمضى باعث، وأجدى وسيلة، وأبلغ زاد، يتسلَّحُ به المؤمنون في تصدِّيهم لواجبات الدعوة ومُهِمّات الجهاد.

نفعنا الله بدعاء الأنبياء والصالحين، وألحقنا بهم في مقاعد القرب والرضى، آمين.