مساءلة الحداثة: قراءة في النسق الفكري للإمام ياسين (1)

Cover Image for مساءلة الحداثة: قراءة في النسق الفكري للإمام ياسين (1)
نشر بتاريخ

مقدمات:

يولي الإمام عبدالسلام ياسين رحمه الله أهمية بالغة للمفاهيم الموظفة في جل كتاباته وإنتاجاته الفكرية، فلا يورد المفهوم، كيفما كانت طبيعته، وخصوصا المستوردة من الأنساق الغربية، في سياق معرفي معين إلا بعد تمحيصه بحصافة ومساءلة منطلقاته الفكرية وقراءة علمية دقيقة في البيئة الثقافية التي آوته. إن المفهوم براديغم أو أنموذج نظري للتفسير والتحليل، لذلك يحوي في بنيته أفكارا وتصورات تعبر أساسا عن قناعات المفكر المنظر أو العالم المتخصص، والمفهوم هو محمل المعاني ومأوى الرؤى، يلخص الكثير ويعبر عن العميق في الفكر ويقلص المسافة بين الدال والمدلول، عله يصب في المقصود، إذ يكفي أن يستخدم الباحث مفهوما معينا من صناعته الفكرية ليحقق مبتغاه في التحليل والنظر.

المفهوم ليس بريئا، لذلك يلزم التعامل معه بحذر إبستيمي ويقظة فكرية لازمة.

جل المفاهيم التي وظفها الإمام في كتبه سواء منها المؤلفات التأطيرية المؤسسة لنظرية العمران الأخوي، أو الحوارية المسائلة لقضايا فكرية كثيرة، أو الشارحة الموضحة للنسق الفكري المنهاجي، هي مفاهيم إما أصيلة قرآنية شاملة تعبر عن العمق التاريخي والفكري والتربوي لنظرية المنهاج، كمفهوم المنهاج النبوي، والشورى، والقومة، والخلافة، والتربية… أو مفاهيم غربية ترعرعت في بيئة ثقافية مختلفة، متحت معانيها من حقل العقلانية الأنوارية أو المجتمع السياسي أو المدنية المؤطرة بعقد اجتماعي، وهو حقل فكري غربي مغرب غريب عن ملتنا وهويتنا، ونذكر أمثلة على ذلك مفاهيم: الديمقراطية، الثورة، العولمة، الحداثة، العقلانية، الرأسمالية، الاختبارية، النزعة العلمية…

فمشروع الإمام الفكري هو مشروع إنساني كوني يهدف إلى بناء الإنسان والذود عن كرامته وقيمته الوجودية في عالم زائل فانٍ، لذلك تجده رحمه الله منفتحا على مختلف الثقافات واللغات والنظريات العلمية والأنساق الثقافية، للتعرف على فلسفاتها وفهم منطلقاتها قبل مساءلتها وسبرها بمعيار الحكمة الجامعة الشاملة، ومحاورتها لتسخير بعضها لتخدم إنسانية الإنسان وعمقه التربوي وجوهره الإتيقي (الأخلاقي). فلا يتعامل مع اللغة المفهومية (المفاهيم) تعامل المستأصل الْـمُقصي، بل تعامل المحاور الباني، لتبيان أبعادها الخفية المخفية والعميقة المضمرة، والاستفادة من إمكانياتها التواصلية، بما هي لغة القوم (النخبة المغربة) وثقافة العصر، لكن بيقظة فكرية تامة.

تفاعُل الإمام مع اللغة المفهومية المستوردة (المفاهيم) يتم عبر أربع مراحل ابستيمية أساسية: مرحلة التعرف على المفهوم، وهي مرحلة ربط الصلة بالمفهوم وإدراكه ومعانيه واستخداماته النظرية فضلا عن أبعاده الفكرية، ومرحلة الحوار والتفاعل معه على أرضية فكرية معينة لتعميق المعرفة وتأطيرها من مختلف أبعادها، ومرحلة المساءلة والنقد، من خلال دحض مبناها ومعناها ورصد تناقضاتها البنيوية، ومكامن ضعفها وأشكال خورها، وفي الأخير يقدم نظريته في المفهوم، مزاياه المفيدة وكيفية توظيفه ليخدم الإنسان، من حيث هو إنسان، وحدةً كلية غير قابلة للتبعيض والتقسيم، إنه جسد وروح، مادة وفكر، عاطفة ونظر، دنيا وآخرة…

يعتبر مفهوم الحداثة من بين المفاهيم التي تناولها الإمام كثيرا في بعض كتبه، كمؤلف “حوار مع الفضلاء الديموقراطيين” و”الشورى والديموقراطية” و”العدل – الإسلاميون والحكم” و”تنوير المؤمنات”… وأفرد لهذا المفهوم الموضوع حيزا كبيرا في مساحة كتاب “الإسلام والحداثة”، حيث ألم به من كل جوانبه، وأثار بعض قضاياه وإشكالاته في علاقته مع الهوية الإسلامية.

من معاني الحداثة وأبعادها الفلسفية:

توحي الحداثة بشكل عام بالتجديد والعصرنة ومسايرة المستجدات والتفاعل مع العصر، في ثقافته وفكره وسياسته، وهي نقيض التقليد والتخلف والرجعية والنزعة التراثية… وتعني في السياق الغربي، الأوروبي تحديدا التطورات التي عرفتها الحضارة الأوروبية في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، واستجمعت في مفهوم “عصر النهضة” حيث تخلصت الذهنية الغربية من وطيس القروسطوية وشراك الاضطهاد الكنسي والتبعية الفكرية السالبة لهوية الإنسان الوجودية والمعرفية والأخلاقية.

وفي سياق فكري آخر تعني الحداثة إيديولوجيا كونية في التغيير 1، أو بمعنى آخر ذلك النمط الحضاري أو تلك الوصفة الحضارية الكونية التي اكتسحت كل الحضارات العالمية، إنها إذن نسق قيمي وإيديولوجيا ثقافية كاسحة، تقف وراءها دعامات تاريخية ومؤسساتية قوية اخترقت حدود الفكر وتجاوزت الهويات المحلية المظروفة. لقد حاولت الحداثة أن تنتصر للإنسان وتؤكد مركزيته في الكون، بفرض السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالحه، والاعتراف بمقدراته العقلية وإمكانياته الفكرية، لقد ألهت الحداثة الإنسان واعتبرته مقياس كل شيء، ومناط كل تقدم وتغيير، ولكن وَفْقَ أي أساس؟

يعرفها السوسيولوجي الفرنسي المعاصر آلان تورين بكونها ثورة الإنسان المستنير على التقاليد، تقديس للمجتمع، خضوع للعقل الطبيعي، الحداثة حسب نظرته الغربية “إنجاز للعقل، للعلم خاصة، للثقافة والتربية. لذلك يجب أن تنحصر أهداف السياسات الاجتماعية التحديثية في تعبيد الطريق التي يسلكها العقل بإلغاء التقنينات والموانع الحِرَفية والحواجز الجمركية” 2.

الحداثة فلسفة وفكر، ثقافة ونظر، دروس في الإيديولوجيا وعبر، لذلك يتوجب التعامل معها بحصافة، ويقظة فكرية لازمة، لاختبار جدواها على أرضية سوسيولوجية وثقافية وفكرية ترسم معالم الهوية الوجودية للإنسان.

مساءلة الحداثة: وقفة عامة:

يقول الإمام ياسين في كتابه “الإسلام والحداثة” محاورا مفهوم “الحداثة”: “لنلق السمع بأناة إلى الحداثة وهي تخبر عن نفسها، وهي تعرف ذاتها، دون أن يمنعنا ذلك من أن نسمح بين الفينة والأخرى للنظرة الخارجية أن تدلي بدلوها” 3. حاور الإمام مفهوم الحداثة وأنصت لفلسفتها بعمق، بلا أحكام مسبقة تحد الفهم الكامل، وتخلط الحابل بالنابل، لكن بروية وتأنٍّ، فاستخلص أنها صناعة ثقافية وفكرية وتقنية سلبت وجود الإنسان، وأشكلت وضعه، وبررت السياسات الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، الرمزية والمادية. يقول الإمام المجدد: “كانت الحداثة، بما هي إنجازات علمية وتقنية دليلا قاهرا على الضحالة الثقافية للآخر، بل عصا غليظة تبرر الاستعمار العسكري والاقتصادي لعالم الجنوب الذي أضحى سوقاً ومزبلة تستقبل منتجات الحداثة” 4.

انتقد منظر المشروع الأخوي ياسين الحداثة بكونها كذلك إيديولوجيا ودين جديد يهدف إلى التخلص من التقاليد اللاعقلانية البالية، وهي الدين والوحي في زعم المستنيرين من بني جلدتنا المغربين وآبائهم في الفكر وأساتذتهم في الفلسفة والعقلانية المتطورة، فما توصلت إليه الحداثة من تطور فكري وعلمي وتقني تعده حجة دامغة معقولة لتبديد كل تخلف ديني وثيولوجي، ويلزم إخلاء الطريق لزمن “العقل المبدع الخلاق”، ولا مكان لأمر بالٍ يجلب العار على أهله. إن القبول بهذا المنطق الحداثي هو خنوع وخضوع للعقل الطبيعي المقدس، مما يستلزم معه التمرد ضد المقدس الإلهي والكفر به. إنها محاكمة عنيفة لغير العقلي من قبل العقلانية كما عبر ياسين 5.

محقت الحداثة مختلف أشكال التضامن والتعاون، ومكننت الوجود الإنساني، وسلبته بالتقنية كما قال مارتن هايدغر في الوجود والزمن، وطمست الخصوصيات الثقافية، حيث اخترقت الهويات والحرمات، وزرعت فتن معولمة فتكت بقيم الإنسان وبسمو مكانته ورفعة شأنه، جعلته أسيرا للمادية الفاحشة والعقلانية المتطورة المضللة، والتطورية العبثية المؤدلجة. حدثت الإنسان عن كل شيء إلا عن معاده وحقيقة وجوده وخبر آخرته والسؤال المؤرق السرمدي المنبه للغافلين التائهين. ما مصيري بعد موتي؟

بعد موجة حر الحداثة الحارقة تيبست المودة الإنسانية، فاضطر الفلاح المسكين أن يغادر حضن أرضه الدافئ الموسوم بالبساطة الجميلة والبيئة النقية البريئة قاصدا المدينة حيث الرأسمالية الفاحشة والعلاقات المادية البحتة، إلا من رحم الرحيم، وتعمقت الهوة بين الطبقات الاجتماعية، فارتفع منسوب التبعية والاضطهاد الممنهج القاصد، فغدا الإنسان عبدا طائعا بوعيه أو بغيره، لا حرية له ولا قرار، عدا الخضوع والاستسلام أمام ماكينة الحداثة.

أما العنف بمختلف أشكاله فهو الابن البار للحداثة، وشنشنة مظاهرها السوسيولوجية، وأول تجليات هذا العنف النقد الإيديولوجي السافر الذي تمارسه الحداثة، وهو أفتك سلاح يلزم التنبيه له كما قال ياسين 6، فهو يهاجم كل قديم بدعوى لاعقلانيته وتعاليه على البشر وكونه خادع ماكر يلزم لفظه، ويرمي أساسا إلى زرع الشكوك في عقول المسلمين، وحثهم على تبني “الأليكة المنهجية” في النظر وإخلاء الطريق للعقل المنطقي ليقول كلمته. وأية كلمة بلا موجه أخلاقي!!


[1] فريد لمريني، صراع الحداثة والتقليد: معيقات التحول الليبرالي في المغرب، دفاتر وجهة نظر.
[2] A.Touraine, Critique de la modernite, éditions Fayard, Paris.
[3] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص44.
[4] عبد السلام ياسين، نفس المرجع، ص45.
[5] نفس المرجع ص46.
[6] نفس المرجع، ص52.