محورية العلم في التأسيس لمجتمعات العمران الأخوي

Cover Image for محورية العلم في التأسيس لمجتمعات العمران الأخوي
نشر بتاريخ

قامت دعوة الله تعالى على إخراج الناس من ظلمات الجهالة والتظالم والبعد عن الله تعالى، إلى أنوار الإيمان وإقامة العدل وتأمين المكلفين على حقوقهم والدعوة إلى العلم الذي يتصدر العلم بالله أول مراقيه، وأية دعوة تقصد انبعاث الأمة وإحياءها تتصدر هذه المعاني أولوياتها. ولم تشذ دعوة الإمام عبد السلام ياسين التجديدية، جدد الله عليه الرحمات، عن هذه المطالب.

ولما كان العلم أساسا لكل حركة فاعلة داخل الأمة، سأخصه بالمناولة ضمن هذه الكلمات التي تقصد بعد مرضاة الله تعالى، إماطة اللثام عن معلم من معالم فكر رجل قضى نحبه وهو يدعو ويؤسس بالأقوال والفعال لإنقاذ الإنسان من التردي المعنوي طلبا للإحسان، والتراجع الحقوقي إقامة للعدل.

تحديدات مفاهمية

العلم:

العلم “الاعتقاد الجازم المطابق للواقع”، و”صفة راسخة تدرك بها الكليات والجزئيات، وهو وصول النّفس إلى معنى الشّيء” 1، والعلم “بصيغة الإفراد هو العلم الكامل، وهو العلم بالله وبالإنسان ومصيره” 2.

يتبين أن العلم نشاط إنساني متقن يعتمد على إعمال الوحي والعقل والحسّ والتّجربة لبلوغ المعاني، فضلا عن التّطلّع لإدراك تراكم معرفي غايته العمل، به يتميّز الإنسان عن غيره، ويؤثّر في محيطه، ويصحّح سلوكياته حتّى توافق مراد الله من خلقه.

إن العلم الذي يورّث الخشية والتقوى والمعرفة بالله تعالى، هو أشرف العلم وأزكاه وأكرمه، “هو العلم الحق بالحق. هو العلم بالله عز وجل وبكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو العلم بما فرض الله وسنّ رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو العلم المفروض طلبه فرضا بنصّ الحديث. فهذا هو العلم الواجب، لا يسع التائب الاستغناء عنه من مصادره بتواضع وحرص، ولا يسع النّاشئ في حضن الإيمان أن يكتفي منه بالقطرات” 3، وتأتي العلوم الكونية باختراعاتها ونتاجاتها المتفوّقة من أجل أن تخدم مقاصده وغاياته؛ علم لا يقتصر على أمور الدنيا أو الآخرة، بل هما معا في انسياب وانسجام، إذ الأوّل بشروطه يُنجح لنا الدّنيا التي هي دارنا، ويسدّد جهود الاستخلاف والإعمار بما يحقّق الإصلاح وعدم الإفساد، ويجعل لأمّتنا مقاما بين الأمم، تنافسها في دنياها ولا تظل في الذّيل تابعة لها ذليلة منكسرة، تنتظر صدقاتها المغلّفة بأغطية التّدجين والاستيلاب والاستصغار والاستعمار، أمّا الثاني ففيه صلاح معادنا الذي هو عاقبة أمرنا، به نتعلّم الوقوف المتذلّل بين أعتاب شريعة الله تعالى وعند حدوده وأحكامه لا نخالفها، به نتمكّن من معرفة ربّنا خالقنا وعبادته على النّحو الذي يريد، به نتعلّم تزكية نفوسنا وتطبيب أدوائها لتخلص لربّها وتستجيب لنداء العبودية له سبحانه، به نفقه خطاب الله لخلقه، ونحسن تدبّر كتابيه المسطور والمنظور، به نتعلّم محبّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحابّهما، به نتعلّم الاقتداء والاتّباع للحضرة الشّريفة ولمن تربّى في حجرها من الصّحابة والصّحابيات رضي الله عنهم منارات الهدى والصّلاح، به نتعلّم اليقين والخشية، يقول الحق سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (سورة فاطر، الآية 28).

يشمل العلم النافع المقصود المرغوب العلم بالله تعالى، والعلم بشرعه سبحانه، والعلوم الكونية، نبحث عنها بصبر ونتعلّمها ونغرسها في أرضنا، تعلّمها قضية وجود أو عدم، قضية حياة أو موت لأمّتنا التي حملت لواءها ووضعت أسسها منذ دهور ثمّ تراجعت لتترك المجال للحضارة الغربية لتستفيد ممّا أثّله العقل المسلم، ولتتغوّل وتستبدّ وتمتلك مفاتيح تسخير مقدّرات الكون لتحقيق طموحها الجشع المنبثّ عن العلم الغائي، عن معرفة الله، البعيد عن الإحسان الإتقاني الذي “يريد علوما كونية مستندة إلى العلم بالله والعلم بشريعة الله، وإلاّ كان كبعض أعمال البشر الكافرين، الدنيا مولِده ومقبرته” 4.

وغني عن البيان أنّ العلم المنهاجي الكلي الجامع المستلهم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحده بإمكانه أن يجمع شتات العلوم المفرّقة اليوم في واقع المسلمين بتجزّئ سلطانهم ودويلاتهم التي أثّر على وحدتها سلبا انكسار عروة الحكم ثم استبداد الاستعمار وتغوّله، الاستعمار الذي وإن فارق الدّيار بقوّة المقاومة، ترك فينا أذنابه يعيثون فينا فسادا، خلّف من تربّوا في حجره  ليركّزوا في أرضنا دعائم استيلاب بائس، مظاهر انبهار بثقافة معزولة عن الله واليوم الآخر، أصول استعمار ثقافي مقيت، بعدما كان العلم واحدا زمن النبوّة الشريف يجمع علم الكتاب الكريم والسّنّة المشرّفة كما يجمع سائر العلوم المتعلّقة بطب القلوب، فتجزّأ مزعا وأشلاء متفرّقة، وكان من آثار ذلك انتشار المذهبية وظهور التّخصّص وجمود الفقه بعدما سدّ باب الاجتهاد، ولم يعد كما كان “فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيّده بالإرادة الجهادية 5.

العمران الأخوي:

إذا كان لفظ الحضارة الشائع في الدّلالة على وضعية التّمدّن والتّفوّق في مجالات العلوم والفنون والصّناعات والأخلاق وغيرها، فإن كثيرين يستعيضون عنه بألفاظ مجاورة مثل التّنمية، إلا أن المقاربة المنهاجية التي أثّل لها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وعلى عادتها في التأصيل، تسِمه بالعمران الأخوي تأصيلا من قول الله تعالى: هُوَ أَنْشَأكُمْ مِنَ الارْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثـُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إنَّ رَبِّي قريبٌ مُجِيبٌ (سورة هود، الآية 61).

مشروع عمران أخوي، يتلاءم مع التصوّر الإسلامي للوجود الإنساني، ذلك الإنسان المشرف المكلف الذي خلقه الله تعالى لغاية سامية، خلقه ليعمر الكون بما يحقّق فلاحه الأخروي، وسعادته الدّنيوية الموصولة بالله تعالى حينما ينهض، مقتحما كلّ العقبات، ليحقّق مهمّته الاستخلافية تحت لواء التّوحيد وعلى قواعد الحرّية  والكرامة والحب والعدل والإحسان والتكافل والمواساة والسلام والأخوة الإنسانية، تغمره، وتسدّد رميه وتظلله روح المسجد، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسـٰـجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأقَامَ الصّلوٰة وآتَى الزَّكوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُوْنُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (سورة التوبة، الآية 18).

إن مفهوم العمران الأخوي أساس المشروع المجتمعي الذي يمزج في تناغم بين حركية الفرد وحركية الأمّة، وهو رسم لسبل تحقيق سعادة الإنسان من خلال حثه على التعلق بالسماء لتطويع الأرض، وتحريره من سلطان النفس والهوى ليخضع لسلطان الله تعالى، وتوجيهه الوجهة القاصدة إلى تلمس سبل سعادة الدنيا وفلاح الآخرة مصداقا لقوله عز من قائل: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمران، الآية 104). وللبشرية مثال الاحتذاء من النّموذج الإنساني الكامل زمن النّبوّة الشريفة والخلافة الراشدة الذي أدى بتوازن وتناغم مهامه، فملأ الأرض عدلا بعد جور، وسعة بعد ضيق، وضمن كرامة الإنسان وحقوقه التي يأتي في مقدمتها حقه في معرفة ربه سبحانه، وحرره من استعباد القرون واستغلال قوى الشر إلى المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمـين التي تعتبر “أم الخصائص في العمران الأخوي، سِمَتُها النفسية السلوكية الإقلاع عن حب الدنيا والتّحرر من العبودية للهوى. وبهذا الإقلاع والتّحرر ينقلب موقف المسلم رأسا على عقب من المِلكية الأنانية لمتاع الدنيا، وتنقلب ذهنيته، وينسلخ من عادات المنكر، ومن الشرك بالآلهة التي يعبدُها الإنسان المشرك والغافل من دون الله: الشحِّ والمصلحةِ الخاصةِ والربحِ واللذةِ والمالِ والجاهِ” 6.

توصيف الواقع

بعيدا عن نظرة التيئيس، ويقينا أن خير هذه الأمة لا ينقطع، فإن توصيف حالها حاضرا بمنظار النبوة يجعلنا نجزم أنها تصدق فيها نبوءة المصطفي المختار صلى الله عليه وسلم الذي روى عنه ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟  قال: حبّ الدّنيا وكراهية الموت” 7، وهن وضعف على مستويات عدة، وافتقاد للكثير من مقومات الفاعلية وأبعاد التكليف، وضعف في التّبصّر بحركة التّاريخ في تداول العمران، وتباطؤ عن مستوى الفاعلية والتّأثير، وتراجع عام عن حمل مسؤولية الأمة التّاريخية في الشّهادة والقيادة، مع انتكاسة العلوم والبحث العلمي والابتكار في أوطاننا، وكأننا بالاستبداد لا يتوافق مع انتشار العلوم وتقدمها وما يرافق ذلك من بث للوعي، وارتفاع سقف المطالب الشعبية.

حتمية العناية بالعلم

ولما كانت إمكانية النهوض يقينا نستشرفه، فإن من مؤسساته حتما العناية بالعلم طلبا وبذلا، إذ لا مجد يرجى لأمة تكالبت عليها الأمم، إن لم تشجع الحركة العلمية فيها، وتفعل مختبرات البحث العلمي، وتولي العناية للتربية بمفهومها الشامل التي لا تقف عند تزكية الروح بل تتجاوزها لتنور العقل بالعلم النافع للفرد في ارتقائه الفردي وللأمة في سيرورتها التاريخية، لا انبعاث لأمتنا إن لم تسمع صوتها في عالم تحضّر ماديا في غفلة عن الرّوح والقيم، إلى مرقى القيادة ينبغي أن تتشوّف أمّتنا، ولا صوت سيسمع لها ويستجاب إلاّ إذا رسمت بقوّة السّاعد المنتج كينونتها وانتزعت حقوقها، وجمّلت بأصالتها المستمدة من عقيدتها الواقع، واسترجعت عزتها، وأثّلت لمجدها، وأثّرت بعمق روحانيتها على مجرى التّاريخ، وصارت مأوى الفارّين من تسلّط العالم المادّي البارد الغُلف من القيم.

ولعل من مداخل تحقيق هذا المطلب النفيس العناية بالتّعليم، والتجديد في مناهجه.

العناية بالتّعليم، والتجديد في مناهجه حتم لازم

إن العناية بالتعليم، والتجديد في مناهجه، وإصلاح مناهج التّربية أساس لإعداد أجيال قوية، مقتنعة بالتغيير  وضرورة بعث الأمة من ركام التخلف والتبعية، جديرة بحمل لواء الاسلام والنّهوض من جديد، مع القضاء على الأمية وتعميم التّعليم للاستفادة من كل طاقات الأمّة الراكدة، ورصد الميزانيات الحقيقية للبحث العلمي وللتعليم، وجعله في كنف الشعب بأن يدخل، لضمان نجاعته، “في الرعاية الصالحة لكافة المؤمنين والمؤمنات” 8، بذلا ورعاية وتطوعا، وإعادة صياغة العقل المسلم لينشط في مجالات الابتكار والإبداع، محصّنا بالقيم، من تدفّقات الحضارة المادّية، مستفيدا من إنتاجاتها بما يتلاءم مع خصوصية أمتنا وهويتها، وبما يسهم في تحقيق المشروع الحضاري الإسلامي.

كما لا بدّ من إعادة النّظر في مناهج التّعليم حتّى ينمي في الفرد قيم المواطنة، ويربطه بالأخلاق المجتمعية الرّاقية، ويغرس فيه هوية الانتماء لهذا الدّين والاعتزاز بلغة القرآن، ويقوي طاقاته الفكرية والعلمية والعملية، فضلا عن ضرورة إعادة النّظر في المناهج التّعليمية وطرائق التّدريس؛ لتكون قادرة على توجيه المتعلم سلوكيا وتربويا وتعليميا وقيميا، وقادرة على تخريج أجيال تستطيع بكفاءة وفاعلية أن تنخرط في سوق الشّغل والإنتاج، وفي جهود التّعبئة والبناء والإعمار.

التركيز على الكم دون الكيف، وتضخيم المناهج على حساب جودة المحتويات، فضلا عن ضعف الوسائل والاكتظاظ المخل بالفاعلية من الإشكالات العميقة التي تواجه واقعنا التعليمي.

التّشجيع على الابتكار والبحث العلمي

إن من شأن التّشجيع على الابتكار والبحث العلمي وتخصيص أعلى الميزانيات له، تحويل الأمّة من حالة التلقي للعلوم والتقنيات، إلى حالة الاختراع والابتكار والإنتاج لكل مستلزمات التطوّر العلميِّ والصناعي، وكل ذلك يفتل في التأسيس المتين لمجتمعات العمران الأخوي، ولا يخفى على ذي لبّ أنّ “أوائل المسلمين رجالا ونساء، من رياضيين وفلكيين وكيميائيين وأطبّاء ومعماريين ومهندسين واقتصاديين وعلماء اجتماع وفنّانين وحرفيين ومربّين، عبّروا عن تديّنهم من خلال المثابرة في تقديم إسهامات نافعة للمجتمع وللإنسانية جمعاء، وهم فعلوا ذلك بعقول منفتحة” 9.

إن من شأن تشجيعنا للبحث العلمي وتوجيهه وجهة إسلامية أن نخدم “أهداف الإسلام وغاية السّلام في الأرض والإحسان إلى الإنسانية جميعا، نحمل إليها رسالة النّبوءة ومعها عطاء كريم” 10.

ربط العلم بروح المسجد

من الضروري ربط العلم بروح المسجد وبأنوار كتاب الله تعالى لتخريج أجيال من الرجال والنساء على سليم الفطرة؛ المسجد الذي تخلف واقعا عن أدواره التي كان عليها زمن النبوة باعتباره مكانا للتعبّد، وبرلمانا للتشاور، ومنطلقا للبعوث، ومؤسسة للتّعلم، ومركزا إشعاعيا مهمّا للتّربية والتّثقيف والتّهذيب. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حُجراته فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما أفرادها يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويُعلمون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلّ على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون، وإنما بعثت معلما، فجلس معهم” 11.

أسلمة العلوم

لا مناص من أسلمة العلوم بإبعادها عن معترك الإلحاد والتصوّرات التي اعتبرت الإنسان قردا، لابدّ من تحرير العلوم “بردها إلى مغزاها ومولدها وما تعنيه في النظام الكوني ووجود الإنسان وقابلية عقله لتلقيها (…) وتسخير نتائجها وقوّتها وإمكانياتها لتزويد التّكافل البشري والتّراحم الإنساني بدل العلوّ في الأرض” 12.

ولا يتنافى هذا المطلب مع التّفاعل مع إنتاجات الأمم، والاستفادة مما وصلت إليه من حيث هو مشترك إنساني مفيد لتحقيق التّقدّم العلمي والمعرفي والتّكنولوجي، دون أن نسمح للحداثة بأن تكون سببا في قطيعتنا مع مقوّمات نهوضنا التي نستقيها من معطياتنا الفكرية ومن تراثنا الأصيل وهويّتنا وعقيدتنا. وإنه لمن العبث إعلان القطيعة مع الموروث الحضاري الأممي تحت أيّ مبرر قد يقول به من لا يميز بين حدّي الاعتراف بالآخر واتباعه.

حتمية المشاركة النسائية في التشييد لصرح العمران عبر بوابة العلم

وليس ذلك بالأمر الدخيل عن أمتنا، أو من مستلزمات المتابعة للمشهد العام السياسوي أو الاجتماعي الحالي، بل هو تعبير عن عمق الانتماء لديننا الذي استحث الرجال والنساء على إتقان الطلب؛ فقد اعتبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة، وكان أول ما نزل من الذّكر الحكيم قول الله تعالى: اقرأ (سورة العلق، الآية 1)، فبادر المجتمع المسلم الفتيّ إلى التّعلّم والتّفقّه في الدّين، ولم يكن حظّ المؤمنة أقلّ من حظّ المؤمن في ذلك، تربّوا جميعا في حجر النّبي صلى الله عليه وسلم المنيف، وكانت النّساء تطالبنه عليه السلام بحصة مستقلّة يتفقّهن فيها فيما يخصّهنّ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يشجّعهن على ارتياد المساجد وينهى عن منع إماء الله مساجدَ الله، حيث كنّ يحضرن الجمع والجماعة ويتابعن أمور المسلمين، وكانت الواحدة تتعلّم دينها وكتاب ربّها وتنصت إلى حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم فتعيه وتفقهه وتعمل به وتبلّغه، فعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: “أمرنا أن نُخرج الحُيَّض يوم العيدين، وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيّض عن مصلاّهن، قالت امرأة: يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب، قال: “لتلبسها صاحبتها من جلبابها” 13.

جاء النّداء واضحا محفّزا من المشرّع الحكيم، وافقته استجابة قلوب حرصت على ما عند الله بأوفى مكيال، فهمّت بالانخراط الصّادق في عزمة تعليم أمّة أمّية لتصير خير أمّة أخرجت للنّاس بما معها من العلم الدّال على الله تعالى، المحفّز على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، المرسّخ للإيمان، واستمر الركب مشعا بأنوار العلم، وظهرت على مر التاريخ عالمات في مجالات متنوعة.

وإذا كانت المرأة بفطرتها السّليمة مؤهّلة لأداء أدوارها إن على المستوى الأسري أو على المستوى المجتمعي، فإنّ من أولى الأولويات تمكّنها من علوم عصرها وفقه واقعها، باعتبار ذلك يجلّي معالم مهامها ويقوّي لديها عزيمة الانخراط في الفعل الأسري والحضور المجتمعي مزوّدة بسلاح العلم المعضّد لفطرتها السليمة، تحفظ ما أمرها الله بحفظه تمثلا لوظيفة الحافظية التي خصّها الله تعالى بها، إذ “من برجها الاستراتيجي الجهادي تبعث المؤمنة بُعوثا في طليعتها البنات والأبناء، حفاظا عليهن وعليهم على الأقل، إن لم يكن الاستعدادُ ليسبِق الفارِسُ مُجَلِّياً، جيل يتقدّم بالدّعوة قُدُماً بعد جيل، راسخا علمُه بما هي المهمّة، ثابتة أقدامه، متوكلا على ربّه. ويَكون برج المؤمنة مشتلاً لتربية الشّجر الطّيّب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجَّردَ ملاذٍ في الأحضان، ومَرْفإٍ للمراكب المنكسرة، ومطعمٍ ومضجع” 14.

من الثّابت، أن المعوّل على المرأة في التّأسيس للبنة الأسرة الصّالحة القويّة، الدّاعمة لقوّة المجتمع وصلاحه، فالأم الفاضلة تدفع بما أوتيت من أسلحة الرّفق والحكمة والمحبّة الغامرة والعلم، لتحفظ النّوع البشري، وتسهم في تكثير السّواد النّوعي الذي يباهي به نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم الأمم، تربّي أجيالا عليها المعوّل في إحداث التّغيير والدّفع بعجلة التّنمية والتأسيس لمجتمع العمران الأخوي، وتحريك آلة الإنتاج وهدم الباطل، والانخراط في جهاد الدّفاع والتّدافع.

وإجمالا فـ”الأمّ المريدة وجه ربّها، الخائفة منه، المتشوّقة إلى لقائه، الواثقة بوعده، المتعلّمة العالمة بما لها وما عليها مما رسمته لها شريعته، العاملة على ذلك، هي الأسّ ومنها البناء” 15، لأن بمشاركتها أخيها الرجل في تحمل أعباء العمارة والاستخلاف، تستفيد المجتمعات من شقيها في التخليق والتنمية والتطوير، فقد بينت نتائج بحوث “أن مشاركة المرأة في الاقتصاد بنسبةٍ تماثل نسبة مشاركة الرجل تزيد النّاتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2025 بمقدار 28 تريليون دولار أي 26 في المائة” 16.

قطعا لا نقصد بالتّنمية أن تبقى المرأة رقيقا للآلة الإنتاجية المتضخّمة التي لا تنظر إلى التّنمية إلاّ بمعيار زيادة الأرباح والمكتسبات المادّية، ولا نريد أيضا أن ننزل إلى درك الحديث عن مبدإ الاستثمار في المرأة الذي يروّج له الكثير من دعاة تحريرها، بقدر ما نروم التّأكيد على محورية إنسانية المرأة التي خاطبها الشّرع بما خاطب به أخاها الرّجل؛ حينما أمرهما معا بأداء أدوار العمارة والاستخلاف.

الآن، وقد ضربت الأمية أطنابها في واقع الأمة ولاعتبارات عدة وتراجعت وظيفة المرأة العلمية، صار رفع بعبع الأمية مع صنويه الفقر والظلم من أولى مطالب التأسيس لمجتمعات العمران الأخوي، وللمرأة العالمة مع أخيها الرجل العالم شرف التّوقيع للإنجازات العلمية المتفوّقة، ومجابهة العوائق والتّحدّيات التي تواجه الأمّة؛ “عريانة أمّة ليس لها قدم تزاحم الأقدام في هذه المَوَاطن، جوعانة، عَزلاء، نكِرة، بلهاء، غثاء” 17.

خاتمة

لا حياة لأمّة بدون علم بشروطه ومقاصده وحدوده، ولا قدم لها راسخة بين الأمم والجهل والأمية يطبقان عليها، ولا قيام لمجتمعات العمران الأخوي والأمية تشل حركة البناء.

لابدّ أن نسير بخطى ثابتة لامتلاك علم الحقّ ومعه العلوم الكونية الأرضية التي تنفع؛ “إن استعملت لإبطال الباطل وإحقاق الحقّ. كما أنّ علم الحقّ يبقى في عين غيرنا نظريات وأساطير إن لم نتسلّح بالعلوم الأرضية وحكمة الأمم كي نجسّد ما نؤمن به من الحقّ على أرض الواقع” 18.

دون ذلك عقبات يجب أن تقتحم منها شح الإنفاق على التعليم تحت مبرر أنه من القطاعات غير المنتجة، وضعف العناية بالمدرّس ومناهج التّعليم والتّكوين المستمرّ والبحث العلمي، ومن هنا تأتي ضرورة حسم المشروع المجتمعي، وضبط السّياسة التّعليمية التي لا تزال في بلادنا تحت سندان الوصاية الاستعمارية وضغط صندوق النقد الدولي، وجعل التعليم في خدمة التنمية لا مجرّد تعليم نظري لا يسهم إلاّ في زيادة طوابير العاطلين.

والحاصل أنّنا عن موقع قدم في التّفوّق الأممي نبحث، وإلى نماذج الكمال نتشوّف، ومن الأمثلة الحيّة نتلمّس السبيل ونأخذ العبرة، ما دامت الحكمة ضالّة المؤمن؛ وواقع الحال يظهر أنّ مجتمعات صدق عزمها فتحوّلت في وقت قياسي إلى مصافّ الدّول المتقدّمة باهتمامها بالعلم وتشجيعها للبحث العلمي، ومن خلال إشراك رجالاتها ونسائها في مسلسل الإقلاع، ومنها التّنانين الأربعة 19.


[1] علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، التّعريفات، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ/ 1983م، بيروت، ص 155.
[2] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، مؤسسة التّغليف والطباعة والتوزيع للشمال، ط1، 1994م، الرباط، ص92.
[3] عبد السلام، ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين مطبوعات الأفق، ط1، 1994م. صص 142،143 بتصرّف.
[4] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، ط 1، 1996، الدار البيضاء، ص218.
[5] عبد السّلام ياسين، المنهاج النّبوي، ط2، 1410هـ، 1989م، الرباط، ص 216.
[6] عبد السلام ياسين، كتاب العدل، الإسلاميون والحكم، سلا، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص 198.
[7] أبو داود، سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدّين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، 4/111/4297، وأحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد وآخرون، مؤسّسة الرّسالة، ط1، 1421هـ /2001 م، تتمة مسند الأنصار، ومن حديث ثوبان، 37/82/22397، وغيرهما.
[8] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م س، ص 138.
[9] مجموعة من المؤلّفين، ألف اختراع واختراع، التراث الإسلامي في عالمنا، تحرير سليم الحسني، ترجمة إبراهيم يحيى شهابي، مؤسّسة العلوم والتّكنولوجيا والحضارة، 2016م، ص11.
[10] عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، ط2، 1426هـ/2005م، تطوان، صص286/287.
[11] ابن ماجة، السنن، فضل العلماء والحث على طلب العلم، طبعة مكتبة المعارف، ط1، الرياض، ص57.
[12] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م س، ص146.
[13] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الصّلاة، باب وجوب الصّلاة في الثّياب، 1/80/351.
[14] عبد السّلام ياسين، تنوير المؤمنات، م س، 2/240.
[15] المرجع نفسه، 1/229.
[16] شونا أولني، (رئيسة قسم النوع الاجتماعي والمساواة والتنوع في منظمة العمل الدولية)، مستقبل العمل رهن بمستقبل المرأة في العمل، موقع منظّمة العمل الدّولية، https://www.ilo.org/، أكتوبر، 2015م.
[17] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م س، 2/ 66.
[18] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م س، ص 214.
[19] أو النّمور الآسيوية الأربعة، والمقصود بها اقتصادات كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، التي تطوّرت في وقت قياسي إلى أن تحوّلت من دول نامية إلى دول متقدّمة باقتصادات عالية الدّخل، واستلهمت دول أخرى من تجربتهم ما يعرف بدول أشبال النّمور، وهي إندونيسيا وماليزيا والفلبّين وتايلاند.