فقه الطهارة (الوضوء -2-)

Cover Image for فقه الطهارة (الوضوء -2-)
نشر بتاريخ

“مستحبات الوضوء” أو ما يعبّرُ عنه بالفضائل

للوضوء واجبات؛ وهو الإتيان  بِالفرائض، وسنن؛ وهو الإتيان بِالسنن مع الفرائض ليزيد وضوء المؤمن توكيداً، وَفضائل أو مستحبات، ليزيد وضوءهُ كمالاً، وهو المطلوب لأنه استعدادٌ لمناجاة الله عز وجل، فينبغي أن يكون على الوجه الأكمل، ويحرص على ألا يقع في أحد مكروهاته.

تتمة لموضوعنا “الوضوء” وبعدما بينا فرائضه وسنَنه، نقف اليوم على فضائلِه ومكروهاته.

فضائل الوضوء أو مستحباته

قال ابن عاشر رحمه الله :

وَأَحَدَ عْشَرَ الْفَضَائِلُ أَتَتْ 

تَسْمِيَةٌ وَبُقْعَةٌ قَدْ طَهُرَتْ

تَقْلِيلُ مَاءٍ وَتَيَامُنُ الْإِنَا

وَالشَّفْعُ وَالتَّثْلِيثُ فِي مَغْسُولِنَا

بَدْءُ الْمَيَامِنِ سِوَاكٌ وَنُدِبْ 

تَرْتِيبُ مَسْنُونِهِ أَوْ مَعْ مَا يَجِبْ

وَبَدْءُ مَسْحِ اِلرَّأْسِ مِنْ مُقَدَّمِهْ 

تَخْلِيلُهُ أَصَابِعاً بِقَدَمِهْ  

1- التسمية في أوله، أي قول: بسم الله عند غسل اليدين إلى الكوعين، ودليل الاستحباب حديث أنس رضي الله عنه، قال: طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا.. فقال صلى الله عليه وسلم: «هل مع أحد منكم ماء؟» فأتي بماء فوضع يده الشريفة في الإناء الذي فيه الماء ثم قال: «توضأوا بسم الله»، أي قائلين ذلك، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه حتى توضأ نحو سبعين رجلا. سنن النسائي.

2- البقعة الطاهرة؛ وهي التوضؤ في مكان طاهر لئلا يتطاير شيء على ثوبه أو بدنه إن كان المكان متنجسا.

وقد عد ابن رشد وابن يونس في الدرّ الثمين من الفضائل أن لا يتوضأ في الخلاء، وذلك لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولنَّ أحدكم في مستحمه ثمّ يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه). قال الأرناؤط: هو حديث حسن.

3- تقليل الماء؛ من غير تحديد، ومجانبة الإسراف ولو كان المتوضئ يتوضأ من نهر أو بحر: لقوله تعالى: وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) الأعراف.

ولحديث أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمُد) رواه البخاري. أي مقدار ما يملأ مده الشريف ماء، وغسله بمقدار ملء الصاع، والصاع أربعة أمداد.

4- تيامن الإناء؛ وهو جعل المتوضئ الإناء عن يمينه، لأنه أمكن له في تناوله، هذا إذا كان الإناء مفتوحا كالقصعة والطست، وأما إذا ضاق عن إدخال اليد فيه كالإبريق، فأهل العلم يختارون وضعه عن اليسار، وينعكس ذلك في حق الأعسر، ودليل استحباب جعل الإناء عن اليمين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التَيَامن، في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كلِّه) رواه البخاري.

5- الغسلة الثانية، والثالثة؛ تكرار غسل الأعضاء المغسولة مرتين وثلاثا، لحديث حُمْران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. البخاري.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة ومرتين مرتين .. قال ابن رشد في البداية: اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الإثنين والثلاث مندوب إليهما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة…” (البخاري)، ولحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين” (البخاري وغيره).

6- البدء بالميامين قبل المياسر من اليدين والرجلين لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في تنعله وترجله و طهوره و في شأنه كله)، ولحديث أبي هريرة  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم)، وفي رواية (بميامنكم). رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده.

7- الاستياك؛ وهو استعمال السواك لتنظيف الفم، والأفضل أن يكون من عود الأراك، ففي مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان: (يستاك فيتوضأ).

8- ترتيب سنن الوضوء فيما بينها؛ يندب ترتيب السنن فيما بينها، فيقدم غسل اليدين إلى الكوعين على المضمضة، وتقدم المضمضة على الاستنشاق وهكذا.

9- ترتيب سنن الوضوء مع فرائضه؛ بحيث يقدم غسل اليدين والمضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ويقدم مسح الرأس على مسح الأذنين ويقدم مسح الأذنين على مسح الرجلين.

10- بدء مسح الرأس من مقدمه؛ وهو البدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو المغسول أو الممسوح، فيبدأ المتوضئ عند غسل الوجه بمقدمه؛ وهو منابت شعر الرأس المعتاد، ويبدأ عند غسل اليدين من أطراف الأصابع، ويبدأ عند مسح الرأس من مقدمه؛ و هو منابت شعر الرأس المعتاد. لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر: بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه) رواه الشيخان.

 11- تخليل أصابع الرجلين، لحديث المستورد بن شداد قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره). سنن الترمذي.

مكروهات الوضوء

ذكر الناظم رحمه الله فيه:

وَكُرِهَ الزَّيْدُ عَلىَ الْفَرْضِ لَدىَ ** مَسْحٍ وفي الْغَسْلِ على ما حُدِّدَا

وكره الزيد؛ أي الزيادة على الفرض لدى المسح، وفي الغسل على ما حدد، فأعضاء الوضوء إما ممسوح كالرأس، و إما مغسول كالوجه واليدين. فيقول رحمه الله أن الزيادة على الفرض في المسح مكروهة، و يدخل في ذلك أمور؛ منها الزيادة على القدر المحدد، كالذي إذا أراد أن يمسح رأسه مسح معه رقبته، فهذا مكروه، ومثاله أيضا الزيادة على العدد؛ بأن يمسح رأسه أكثر من مرة واحدة، وعند المالكية فإن هذه الزيادة مكروهة، كغسل الساق مع الرجل، وهذه زيادة في الموضع، والزيادة في العدد كغسل الوجه مثلا أكثر من ثلاث مرات، أو غسل اليدين أربع أو خمس مرات…

فالذين قالوا بالكراهة، قالوا أن هذا مكروه لأن فيه إسرافا وتعديا في الماء، والإسراف مكروه.

وَعاجزُ الفَوْرِ بَنى مـا لمْ يَطُلْ ** بِيُبْسِ الأعْضا في زمانٍ مُعْتَدِلْ

ذكرنا في فرائض الوضوء أن الفور، أي الموالاة، من الفرائض، إلا أن الذي عجز عن هذه الموالاة، مثلا بدأ وضوءه ثم عجز عن إيقاعه في فور واحد حتى طال الزمان، يقول وعاجز الفور بنى ما لم يطل بيبس الأعضاء في زمان معتدل، هذا يفيد أمرين:

– تعريف الطول: عند المالكية هو مقدر بيُبس الأعضاء في زمان معتدل، أي في زمان غير حار و لا بارد، أي الوقت الذي يحصل فيه يبس الأعضاء، فما زاد عليه فهو وقت طويل، وما نقص عنه فهو وقت قليل.

– أن الذي يعجز عن الفور فله حالات: إما أن يكون قد طال الزمان بالضابط الذي ذكرنا، فحينئذ عليه أن يعيد الوضوء من أوله، لأن هذا الوضوء قد فقد فرضا من فرائضه وهو الفور. وأما إن كان بحيث لم يطل الزمان، ووجد الماء الذي ينقصه أو نحو ذلك، فإنه يبني، ومعنى يبني أنه يعتد بما فعله من وضوئه ويكمل عليه، وهذا شرح عبارته.

ثم انتقل إلى مسالة أخرى وهي في نسيان الفرض، فقال:

ذَاكِرُ فَرْضِهِ بطُــولٍ يَفْعَلُه فَقَطْ ** وَفي الْقُرْبِ الْمُوالي يُكْمِلُهْ

إنْ كانَ صَلَّى بَطَلَتْ وَمَنْ ذَكَرْ ** سُنَّتَهُ يَفْعَلُهَـا لِمــا حَضَـرْ

معنى البيتين، أن ناسي الفرض له أحوال، يعني شخص أدى وضوءه ولكنه نسي أن يغسل وجهه مثلا، وغسل الوجه فرض من فرائض الوضوء كما تقرر، هذا الذي نسي من وضوئه فرضا، وسيأتينا حالة أخرى وهي من نسي من وضوئه سنة.

1. من نسي من وضوئه فرضا:

إن تذكر عن قرب، فإنه يعيد ذلك الفرض ويعيد ما بعده لأجل تحصيل سنة الترتيب.

* مثلا شخص نسي غسل وجهه وتذكر ذلك عن قرب، يعني بوقت يسير جدا حينئذ نقول له: اغسل وجهك أي أدِّ الفرض المنسي، وأدِّ ما بعده من الوضوء، لأنك إذا لم تؤدي ما بعده واكتفيت بأن غسلت وجهك فإنك لم تُحصل سنة الترتيب، وإذا لم تفعل ذلك لا شيء عليك، لأن الترتيب عند المالكية سنة، وليس فرضا، ولكن لأجل تحصيلها فإنك تؤدي الفرض المنسي وتزيد ما بعده لتحصيل سنة الترتيب، هذه الحالة الأولى…

* شخص نسي غسل وجهه، ولم يتذكر إلا بعد ساعة مثلا، أي بعد طول وقت، نقول له أعد ذلك الفرض وحده، لأن القاعدة عند المالكية أن الفور إنما يجب مع الذكر والقدرة ويسقط مع العجز والنسيان، فهذا شخص نسي، فإن الفور يسقط عنه، فهنا يعيد الفرض فقط. وقولهم أن الفور واجب مع الذكر والقدرة لا مع العجز والنسيان، للأدلة المتعددة الدالة على أن المؤاخذة تسقط مع النسيان، كقول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله “وضع عن أمتي الخطأ والنسيان و ما استكرهوا عليه”.

فهذه هي حالة نسيان الفرض. يقول ابن عاشر:

الحالة الأولى: ذَاكِرُ فَرْضِهِ بطُــولٍ يَفْعَلُه فَقَطْ.

الحالة الثانية: وَفي الْقُرْبِ الْمُوالي يُكْمِلُهْ، أي يؤدي الفرض ويؤدي ما بعده.

لكن هذا كله إنما يصح إذا كان لم يؤدي الصلاة بعد، أما إذا أدى صلاته بذلك الوضوء الذي نسي فرضا منه فإن صلاته تكون باطلة، لأن وضوءه باطل، والوضوء شرط في الصلاة، فإذا بطل الشرط بطل المشروط. “إنْ كانَ صَلَّى بَطَلَتْ”.

هذه أحوال ذاكر الفرض، فما حالة ذاكر السنة؟

2. من نسي من وضوئه سنة:

يقول ابن عاشر رحمه الله:

وَمَنْ ذَكَرْ * سُنَّتَهُ يَفْعَلُهَـا لِمــا حَضَـرْ

بمعنى إذا كان المتروك سنة، فالصلاة صحيحة، ويمكنه أن يؤدي تلك السنة متى ذكرها، ولا يعيد ما بعدها، وإذا صلى بوضوء قد نسي سنته، فصلاته صحيحة، لأن وضوءه صحيح، إذ الوضوء الذي سقطت منه سنة لا يكون وضوءا باطلا، فالصلاة لا تبطل بترك سنن الوضوء، ولو ترك سنن الوضوء كلها، لكن قالوا: تستحب إعادة الصلاة في الوقت، أي إن لم يخرج وقت تلك الصلاة، وهذا الاستحباب محل نظر..

قوله من ذكر سنته يفعلها لما حضر، معنى (لما حضر) أي يستقبل بها فرضا آخر، يعني هذا الشخص الذي أدى الصلاة مع كونه تاركا لهذه السنة، فإنه بعد هذه الصلاة يأتي بهذه السنة التي نسي، ويستقبل بها فرضا آخر، يعني صلاة أخرى، أما الصلاة التي سبقت فهي صلاه صحيحة، ولا يعيدها.