فقه الطهارة (الوضوء -1-)

Cover Image for فقه الطهارة (الوضوء -1-)
نشر بتاريخ

الإسلام دين طهرٍ ونظافةٍ، فجعل الطهارة نصف الإيمان؛ قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان). والوضوء نور للمؤمن، وهو شرط لصحة الصلاة، ودونه لا تُقبَل، فالصلاة ثاني ركن من أركان الإسلام، وأول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة، وهي الصلة بين العبد وربه، فحُقَّ لمن وقف بين يدي مولاه أن يكون طاهراً مطهراً.

تعريف الوضوء:

لغة: بضم الواو، الفعل، وبفتحها الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما أو الآلة التي يجعل فيها، وهو مشتق من الوضاءة، وهي الحسن والبهاء، يقال: رجل وضيء الوجه، والجمع وِضَاءٌ بكسر الواو. قال الشاعر:

مراجيحُ العقولِ، ذوو أناة ** مساميحٌ، وجوههم وِضاء

واصطلاحاً: هو التعبد لله بغسل أعضاء مخصوصة ومسح بعضها على صفة مخصوصة بالماء.

حكمه:

هو واجبٌ في حقِّ المُحدِث حدثا أصغر للذّي يريد الصلاة وذلك لقول الله جل وعلا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة، الآية 6).

ولحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة) (1). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) (2).

أمرنا الله به في محكم كتابه إذا قمنا إلى الصلاة، وذكر لنا أعضاءه جميعها على سبيل الإجمال، وجاءت السنة مبينة لكيفية هذا الوضوء، وبيان حده في الأعضاء، والركن منها والواجب والمسنون.

يقول أبو محمد عبد الواحد بن عاشر في متن ابن عاشر في المذهب المالكي: (فصل) فرائض الوضوء سبعٌ وهي: دلك، وفورٌ، نِيَّةٌ في بدئِهِ..

وَلْيَنوِ رفعَ حدثٍ أو مفْتَرض ** أو استِباحَةٍ لممنوع عَرضْ

وغسلُ وجهٍ، غسله اليدين ** ومسحُ رأسٍ، غسلُه الرجلين

والفرض عمَّ مجمعَ الأذنين ** والمِرفقينِ عمَّ والكعبينِ

خلل أصابع اليدين وشَعرْ ** وجْهٍ إذا من تحته الجِلْدُ ظَهَر

فرائضه:

جمع فريضة وقد مرَّ معنى الفرض في حلقة سابقة.

1- النية: لقوله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (البَيّنة، الآية 6). واستنبط بعض أهل العلم من قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) من الآية إيجاب النيّة في الوضوء، لأن التّقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لأجلها (3).

النيّة الجازمة عند أولّ مفعول، أو أن تسبقه بيسير، وعليه ينوي أحد ثلاثة أشياء، إما رفع الحدث عن الأعضاء، وإمّا أداء الوضوء الذي هو فرض عليه، وإما استباحة ما كان ممنوعاً منه.

2- الدَّلك: هو إمرار اليد على العضو مع العرك الخفيف، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم من اللّيل، فتوضّأ من شَنٍّ معلقٍ وضوءا خفيفا – يخففه عمرو ويقلله – وقام يصلّي) (4).

قال ابن المنير المالكي رحمه الله: يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة، وفيه دليل إيجاب الدلك.. (الفتح).

3- الفور: هو الموالاة، قال ابن بشير: وهي أن يفعل الوضوء كلّه في فور واحد من غير تفريق. قال ابن حاجب: والتّفريق اليسير مغتفر وكذا تفريق العاجز.

4 – غسل الوجه: لقوله الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (المائدة، الآيه 6).

غسل الوجه؛ أي إسالة الماء عليه مع الدلك الخفيف، وحَدُّ الوجه من منابت الشعر المعتاد إلى منتهى الذقن، فيدخل موضع الغمم – وهو الشّعر النازل على الجبهة – ولا يدخل الصّلع، ومن الأذن إلى الأذن (جامع الأمهات).

وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: (والفرض عَمّ مجمع الأذنين)، كما أنه يجب تخليل اللحية إذا كانت خفيفة تبدو البشرة منها، ويندب إن كانت كثيفة، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: (خلل أصابع اليدين وشعر وجه).

5- غسل اليدين إلى المرفقين: للآية المتقدمة، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثمّ قال: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ) (5).

 وإلى دخول المرفقين نبّه الناظم رحمه الله تعالى بقوله: (والمرفقين عمّ…)، ولأن الصحابي أشرع في العضد فقد بيّن الغاية من قوله تعالى: (إلى المرفقين)، مع تخليل أصابعهما، وكذلك تحويل الخاتم إن كان يمنع وصول الماء، ونقيس عليه كل ما هو ضيق أو يمنع وصول الماء.

6- مسح الرأس: فرض لآية الوضوء المتقدمة، ولحديث عبد الله بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) (6).

7- غسل الرجلين: فرض لآية الوضوء المتقدمة؛ الآية 6 من سورة المائدة “الرجلين إلى الكعبين”، وهذا هو الثابت المُتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقولِه. قال ابن عمر رضي الله عنهما: تخلّف عنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سَفرةٍ وقد أرهقْنا – أخرنا – العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتَّين أو ثلاثاً (7).

قال ابن العربي رحمه الله تعالى: “تواتَر غسل الرجلين ونُقل خلفاً عن سلف”. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، وحَدُّ غسل الرّجلين إلى الكعبين، وهو معنى قول الناظم: (والمرفقين عمّ والكعبين)، والكعبان هو العظمان النّاتئان في ملتقى السّاق بالقدم في الجنبين من كلِّ رجل.

سننه:

قال الناظم رحمه الله:

سُنَنُهُ السَّبْعُ ابْتِداً غَسْلُ الْيَدَيْنْ

  وَرَدُّ مَسْحِ اِلرَّأْسِ مَسْحُ الُاذْنَيْنْ

مَضْمَضَةٌ اسْتِنْشَاقٌ اِسْتِنْثَارُ 

تَرْتِيبُ فَرْضِهِ وَذَا الْمُخْتَارُ

ذكر الناظم رحمه الله تعالى أنّ سنن الوضوء سبعة وهي:

1- غسل اليدين إلى الكوعين: قبل إدخالهما في الإناء إن أمكن الإفراغ وإلا أدخلهما فيه، كالماء الكثير والجاري وذلك لفعل النّبي صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك، كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه وفيه: (فدعا بتَوْرٍ من ماء فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأكْفَأ على يديه من التَّوْرِ، فغسل يديه ثلاثاً، ثمّ أدخل يده في التّور) (8)، والمقصود في غسل اليدين غسلهما للكفّين لا ما زاد عليها اتفاقاً.

فائدة: الكوع: هو آخر الكف ممّا يلي الإبهام، وقيل: هو طرف الزّند في الذراع مما يلي الرّسغ.

2- المضمضة: وهي إدخال الماء من الفم، وخضخضته من شدق إلى شدق، لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: (رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم مضمض، واستنشق من كفّ واحد، فعل ذلك ثلاثاً) وقد تقدّم تخريجه، ولحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا توضّأت فمضمض)، قال الحافظ: إسناده صحيح.

3-4- الاستنشاق والاستنثار: ومعناهما؛ الاستنشاق: هو جذب الماء بالأنف، من نَشَقَ، يقال: استنشقت الرِّيحَ.

الاستنثار: من النَّثرِ وهو أن يستنشق الماء بأنفه، ثم يستخرج ما فيه من أذى ومخاط فيتناثر، وقيل من النّثرة وهي الخيشوم وما والاه، لأن المستنثر عادة يمسك بها ليستعين بذلك على إخراج ما في الأنف.

ويستحب المبالغة في الاستنشاق، إلا أن يكون صائماً، وذلك لحديث لقيط بن صَبِرَة عن أبيه – رضي الله عنهما – عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) (9).

ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثمّ لينثر) (10).

5- رد مسح الرأس: لحديث المِقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فلما بلغ مَسْحَ رأسِهِ، وضع كفّيه على مقدّم رأسه، فأمرَّ بهما  حتّى بلغ القفا، ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه) (11).

6- مسح الأذنين: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) (12).

وأما كيفية مسحهما؛ فيمسح داخلهما بالسّبابتين، ويجعلهما في صماخي أذنيه، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: (ثمّ غرف غرفة فمسح برأسه وأذنيه، داخلهما بالسّبابتين، وخالف بإبهامه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما وباطنهما).

7- ترتيب الفروض: أي ترتيب فرائض الوضوء فيما بينها فيقدِّم غسل الوجه، على اليدين إلى المرفقين، ويقدمهما على مسح الرأس، ويقدم مسح الرأس على الرجلين، هو القول المختار في المذهب، وعبّر عنه ابن الحاجب الأشهر، وقيل بوجوب الترتيب بالفرائض. ومن قال بسنّيّة التّرتيب ذهب إلى أن الواو في الآية لا تقتضي نسقاً ولا ترتيباً، وحملوا التّرتيب من أفعاله صلى الله عليه وسلم على النّدب (بداية المجتهد ابن رشد). واستدلّ من ذهب إلى وجوب الترتيب بحديث جابر رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (ابدؤوا بما بدأ الله به) (13).

ما مشى عليه الناظم هنا من جعل سنن الوضوء سبع فقط خلافاً للمشهور عند المالكية من جعلها ثمانية لكون تجديد الماء لمسح الأذنين سنة مستقلة عندهم. قال خليل (وتجديد مائهما)، والعلماء رحمهم الله يجمعون فيقولون: إذا كان الماء وافراً في يديه عند مسح الرأس فإنه يمسح الأذنين بوفرة ماء الرأس، ولا يأخذ ماء جديداً، وإذا كان الماء ليس وافراً عند مسح الرأس، وظن أن المسح على الرأس استنفد الماء الذي في الأصابع أخذ ماءً جديداً.

– يتبع –

(1) رواه النسائي في سننه، وقال حديث حسن صحيح.

(2) رواه الترمذي.

(3) فتح الباري لابن حجر.

(4) صحيح البخاري.

(5) رواه البخاري.

(6) رواه البخاري.

(7) متفق عليه.

(8) رواه البخاري.

(9) أبو داوود في سننه.

(10) رواه الشيخان.

(11) رواه أبو داوود في مسنده.

(12) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

(13) مالك في الموطأ.