فقه الطهارة (الغسل -2-)

Cover Image for فقه الطهارة (الغسل -2-)
نشر بتاريخ

شرَّع الإسلام الغسل وجعله استباحةً للعديد من العبادات بعد الحدث الأكبر، وبيَّن كيفيَّته، ودواعي وجوبه، وفرائضه، وسننه، ومندوباته، وكيفية حفظ خصوصيّة كل من الذكر والأنثى… فما هي صفة الغسل؟ وما هي موجباته، وموانعه؟؟؟

1- صفة الغسل

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:

تَبْدَأُ فِي الْغُسْلِ بِفَرْجٍ ثُمَّ كُفّْ * عَنْ مَسِّهِ بِبَطْنِ أَوْ جَنْبِ الْأَكُفّْ

أَوُ اُصْبُعٍ ثُمَّ إِذَا مَسِسْتَهْ  * أَعِدْ مِنَ الْوُضُوءِ مَا فَعَلْتَهْ

يقوم المغتسل بما يلي:

أن يغسل يديه الغسل المشروع قبل إدخالهما في الإناء.

أن يتطهر طهارة الخبث، بأن يبدأ بغسل فرجه بنية الدخول في ذلك الاغتسال، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن خالته ميمونه رضي الله عنها قالت: “وضعت للنبيء صلى الله عليه وسلم غسلاً يغتسل به من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى، فغسلها مرتين أو ثلاثاً، ثم صبّ على فرجه فغسل فرجه بشماله، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها…” (رواه البخاري).

ثم يكف بعد وضوئه عن مسِّه لفرجه سواء ببطن الكف أو جنبه، أو ببطن الأصبع أو جنبه، فإذا مسه أثناء الغسل تعيّن عليه إعادة الوضوء بعد الغسل، وكذلك كل ناقض من نواقض الوضوء، وذلك لحديث سالم بن عبد الله بن عمر  رضي الله عنهم أنه قال: رأيت أبي عبد الله بن عمر يغتسل ثم يتوضأ فقلت له: يا أبت أما يجزئك الغسل من الوضوء؟ قال: “بلى! ولكنِّي أحيانا أمس ذكري فأتوضأ” (رواه مالك في الموطأ). وإنما اقتصر الناظم على مس الفرج لعلة الانتباه لذلك.

واغتسال المرأة كاغتسال الرجل، غير أنها لا تنقض ضفائر شعر رأسها، وإنما تفرغ عليه ثلاث حفنات وتعالج شعر الرأس من أجل أن يصل الماء إلى البشرة، يدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها: “لِتَحْفِنْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِنْ الْمَاءِ وَلْتَضْغَثْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا”.

2- موجبات الغسل

قال الناظم:

مُوجِبُهُ حَيْضٌ نِفَاسٌ اِنْزَالْ * مَغِيبُ كَمْرَةٍ بِفَرْجٍ إِسْجَالْ

تكلم الناظم في هذه الأبيات عن الأسباب الموجبة للغسل فذكر أنها أربعة.

أ – ب- الحيض والنفاس: إذا انقطع دم الحيض والنفاس وطهرت وجب الغسل، وذلك لقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ (البقرة، 222)، ولحديث عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ رضي الله عنها إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: “لاَ، إِنَّمَا ذلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي” (رواه مالك في الموطأ).

وأما النفاس؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر، بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهلّ (رواه مالك في الموطأ).

وأكثر النفاس أربعون يوما لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: “كانت النُّفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً”. وقال الترمذي عقب هذا الحديث: قد أجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتّابعين ومن بعدهم، على أن النُّفساء تدع الصلاة أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي.

ت- إنزال المنّي: وهو خروج المنّي الدافق للذة في النوم أو اليقظة من رجل أو امرأة؛ لقول الله تبارك وتعالى: إِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (المائدة، 6)، ولحديث علي كرم الله وجهه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: “من المذي الوضوء، ومن المني الغسل” (رواه الترمذي في سننه وقال: هذا حديث حسن صحيح).

ث- مغيب الحشفة: وهي رأس الذّكر،  فمغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل سواء أنزل أم لم ينزل، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جاوز الخِتانُ الخِتانَ، وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا” (رواه مالك في الموطأ).

3- موانع الجنابة والحيض والنفاس

قال الناظم:

وَالَاوَّلَانِ مَنَعَا الْوَطْءَ إِلَى * غُسْلٍ وَالآخِرَانِ قُرْآناً حَلاَ

وَالكُلّ مَسْجِداً وَسَهْوُ الِاغْتِسَالْ * مِثْلُ وُضُوئِكَ وَلَمْ تُعِدْ مُوَالْ

والأولان من موجبات الغسل هما الحيض والنّفاس، منعا وطء الزّوج لزوجته إلى أن تطهر منهما وتتطهَّر، وذلك لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة، 222).

ولحديث أنس رضي الله عنه قال: “إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهنّ في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل تعالى “ويسألونك عن المحيض…” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح” (رواه مسلم في صحيحه).

قوله: “والآخران قرآنا حلا” أي أن المذكورين آخراً، وهما مغيب الحشفة وإنزال المنّيّ، يمنعان تلاوة القرآن لحديث علي كرم الله وجهه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة” (رواه النسائي في سننه).

ثم أشار الناظم رحمه الله إلى أن كلاًّ من الحيض، والنّفاس، والإنزال، ومغيب الحشفة، يمنع دخول المسجد، وهو الذي عبّر به بقوله “والكلّ مسجداً”، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: “وجّهوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب” (رواه أبو داوود في سننه، وابن خزيمه وصححه)، وغيره من الأحاديث. والصحيح أن هذه الموجبات تمنع المكث لا الدخول لقوله تعالى: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا.

وأما قوله: “.. وسهو الاغتسال * مثل وضوئك، ولم تعد موال”؛ أي أن السهو في الاغتسال كالسّهو في الوضوء، وهي أن من ترك لمعة من غسله ثمّ ذكرها بالقرب فإنه يغسلها ولا يعيد ما بعدها، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يغسل ذلك المكان ثمّ يصلّي” (رواه الطبراني في الكبير وقال رجاله موثّقون).

المراجع:

– متن ابن عاشر في الفقه المالكي.

–  العرف الناشر في شرح وأدلة فقه متن ابن عاشر.