فاعلية الإنسان من خلال غزوة بدر

Cover Image for فاعلية الإنسان من خلال غزوة بدر
نشر بتاريخ

بقلم: إبراهيم أخساي

     إن قراءة متأنية في غزوة بدر، التي جرت أحداثها في اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية هجرية، تدفعنا إلى التعمق في هذا الحدث التاريخي، ومساءلة هذه التجربة الانسانية عن أسباب هذا النصر العظيم، الذي حققه قلة من المسلمين لا يتجاوز عددهم 314 رجلا في مواجهة جيش يفوقهم بثلاثة أضعاف ويزيد.

     ومما يجعل هذه الغزوة جديرة بالتأمل، بالإضافة إلى التفاوت العددي والمادي بين الفريقين، هو عنصر المفاجأة بعد تحول مجرى الأحداث من استهداف قافلة قريش المحملة بالأموال إلى مواجهة عسكرية ميدانية لم تكن في الحسبان، وهي المفاجأة التي لم تزد الإنسان البدري إلا ثباتا وإصرارا وإيمانا بيد الله تعالى التي تعمل في الخفاء من خلال قدره ومشيئته.

     وقفة التأمل هاته ستركز على الإنسان “البدري” في محاولة لملامسة جوانب القوة والفاعلية والقدرة على التأثير والإنجاز التي تميز بها هذا الجيش الإسلامي، وذلك بذكر مجموعة من الصحابة الذين شهدوا هذه الواقعة وما تجسد في سلوكهم من القيم البانية، لعلها تكون حافزا للمسلم المعاصر ليعاود تحقيق الانتصارات والخروج من واقع التردي والغثائية والهزيمة التي تعيشها الأمة الإسلامية.

     إن سر الانتصار في غزوة بدر يكمن في فاعلية “الإنسان البدري” بالدرجة الأولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم ربى جماعة المؤمنين على الإيمان والصدق والإخلاص والتضحية والبذل، تربية حولت أمثال بلال، العبد الحبشي، إلى إنسان حر ذو إرادة حرة، وجعلت أمثال أبي بكر وعمر يبذلون مهجهم وأموالهم في سبيل الفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد والمحبة الجياشة لله ولرسول الله.

        وكان من ثمار هذه التربية النبوية أنها زادت من منسوب الفاعلية لدى المؤمنين ودفعتهم إلى فراق الأهل والوطن والمال، والهجرة إلى المدينة، البلد الجديد، وهي التربية نفسها التي جعلت أصحاب الأرض، في المدينة، يفتحون قلوبهم وبيوتهم لإخوانهم المهاجرين، فحملوا، بذلك الاستقبال الأخوي الباهر، اسم الأنصار عن جدارة واستحقاق.

         المهاجري والأنصاري، نموذجان للإنسان الرسالي، الحامل للدعوة، المتوثب لخوض البحر في سبيل الفكرة التي يؤمن بها. رغم ما يعتريه من عوامل الضعف البشري والخوف على النفس من مفارقة الحياة والأهل والأموال. لكن التربية النبوية جعلتهم ينتصرون على عوامل الضعف البشري وهم وسط جماعة المؤمنين الصادقين.

          في غزوة بدر تجلت الفاعلية الإنسانية في أبهى صورها في سلوك وحركة مؤمنين، اختلفت مشاربهم وطبقاتهم وأعراقهم وقبائلهم لكن الإيمان بالله تعالى وحبهم لرسول الله تعالى صهرهم في ذات واحدة، قوامها الحب في الله والنصيحة والشورى والطاعة في المعروف.

          فأساس التربية التي ربّت هذا “الجيل الفريد” يرجع سرها إلى صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ربى ورعى وتعهّد المشاتل الصغيرة حتى اشتد عودها، وتجذر يقينها بالله تعالى، وعانقت همتها الفراقد تطلعا لموعود الله تعالى بالتمكين للمؤمنين في الأرض وبالجنة عند لقاء الله تعالى.

        فهذا المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وهو من المهاجرين، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون..”.

       قال المقداد رضي الله عنه كلمته هاته في المجلس الاستشاري الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم قبيل المعركة، ملخصا به موقف المهاجرين في هذه اللحظة الحاسمة والعصيبة من لحظات المواجهة بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك.

        ودائما في نفس الاجتماع ظل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أشيروا علي أيها الناس” حتى فطن قائد الأنصار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، يريد سماع رأيهم، فتدخل سعد بن معاذ قائلا: “فقد آمنا بك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك..”.

    أعلن سعد بن معاذ عن السمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتخاذل والتراجع في هذا الموقف الجهادي والمفصلي في مسيرة المسلمين، طاعة واعية للقيادة الميدانية المتمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الطاعة جاءت ثمرة ونتيجة للعلاقة التي تربط المؤمنين بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، والتي قوامها الحب والاتباع، ثم نتيجة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين القائمة على التشاور وتقبل النصيحة والمحبة.

      لقد كانت محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، طاقة معنوية لا تحدها حدود، ولا تحصرها موانع الزمان والمكان، ولا تكدر صفوها هواجس النفس وشهواتها، فهذا سواد بن غزية رضي الله عنه يضرب أروع مثال على حب المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في تنظيم صفوف أصحابه يوم بدر، و“في يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله في بطنه بالقدح وقال: “استوِ يا سوادُ بن غزية”. قال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق، فأقدني. قال: فكشف رسول الله عن بطنه، ثم قال: “استقد”. قال: فاعتنقه وقبَّل بطنه. فقال: “ما حملك على هذا يا سواد؟” فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله بخير، وقال له خيرا”.

  ومع المحبة، هناك عامل آخر يجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن العامل الذاتي، أو الفاعلية الإنسانية المتمثلة في “البدريين” الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لعل الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم»، وهذا العامل هو ذلك الإيمان الصادق بموعود الله تعالى لهم بالنصر والتمكين، أو الشهادة ودخول الجنة.

      إيمان بالنصر لم يداخله شك، رغم اختلال الموازين المادية ورجحان كفتها لصالح المشركين. فمباشرة بعد استماع النبي صلى الله عليه وسلم لكلمة سعد بن معاذ قال صلى الله عليه وسلم: “سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم”.

       وقال تعالى مبشرا نبيه ومن معه من المؤمنين بالنصر والتمكين: وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَٰفِرِينَ.

       استقبل المؤمنون هذه البشارة النبوية، وهذا الوعد الإلاهي بالتصديق واليقين، وتُرجم هذا التصديق على مستوى الفعل البشري، بإعداد العدة، وحسن التخطيط، ورص الصفوف، ومحاربة عوامل اليأس والإحباط. فهذا الحباب بن المنذر رضي الله عنه يشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير المكان الذي نزل به جيش المسلمين قائلا: “يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ونغور (نخرب) ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد أشرت بالرأي”.

      المحبة والتشاور والنصيحة ترجمت على أرض الواقع إلى فعل بشري يستشرف الوعد ويتهيأ لاستقبال النصر على شكل حركة دؤوبة، وتفكير، وعاطفة جياشة ومبادرة بالاقتراح، وسرعة في التنفيذ والإنجاز، وهذه كلها كانت من أهم سمات الإنسان “البدري” الذي شارك في هذه المواجهة. فهذا العمير بن الحمام رضي الله عنه “أخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل” رواه مسلم.

       إن الله تعالى وعد نبيه والمؤمنين بالنصر والتمكين، والتقى الوعد الرباني بمؤمنين صادقين، صدقوا بموعود الله، واجتهدوا في عالم الأسباب ما وسعهم الجهد، واستسلموا لما يريده الله بهم، بقلوب خاشعة وبإرادة صادقة، وبعزيمة لا تعرف الكلل أو الشك. فاستحقوا بذلك أن ينصرهم الله تعالى، وينزل عليهم الملائكة تقاتل معهم، قال تعالى: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍۢ مِّنَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدِفِينَ”.

     استحقاق البدريين للنصر والتأييد، بإنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، كان نتيجة إيمانهم وصدقهم وحبهم لبعضهم البعض، وكان ثمرة من ثمار العلاقات التي تربط بعضهم ببعض كالنصيحة التي تقوم بوادر الخطأ، والشورى التي تشرك الجميع ليتحمل مسؤوليته، انتهاء بالطاعة وهي الترجمة التنفيذية للقرارات والأوامر الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

  خاتمة وفائدة:

     إن غزوة بدر شاهدة على أن النصر من الله تعالى، وأنه قريب من المؤمنين إذا توفرت فيهم شروطه الذاتية والموضوعية، من الإيمان الصادق والأخوة والمحبة في الله والهمة العالية واليقين في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وكذلك بإعداد الأسباب الأرضية وإتقانها وتقوية الصف الداخلي بالتناصح والتشاور وقوة التنفيذ والإنجاز.

    فالتشبع بهذه المعاني والقيم التربوية والسلوكية والحركية ستزيد من فاعلية الإنسان المعاصر، وستساهم في تقوية العامل الذاتي الذي هو شرط أساس في معادلة التدافع بين الحق والباطل، وذلك في أفق تحقيق النصر والفوز على الأعداء والاستجابة للتحديات، فأي حركة مجتمعية تروم التغيير، ومواجهة الواقع المتردي والمأزوم، لا بد أن تركز على إحداث التغيير على مستوى الإنسان. فالله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغير الإنسان ما بنفسه.