فاصل اليقين بين الانكسار والانبعاث

Cover Image for فاصل اليقين بين الانكسار والانبعاث
نشر بتاريخ

الموت هنا وهناك، أنين دماء أشلاء ودمار، مشاهد يندى لها الجبين، أجول بناظري بينها، وغبار ما أحدثه القصف الهمجي يحجب عني الرؤية، لكن أذني بدورها تسمع لتكمل بياض ما استعصى على العين وعيه وفهمه.

هو مزيج بين الأمل والألم، مزيج بين الأنين والفرح بكرم الله، هو اليقين قد نسج ذلك التناغم بين الألم والرضا، فرسم الابتسامة على الوجوه، بل وضحكات اختلست في هنيهات الانفراجات؛ وزعت بين من انكسرت قلوبهم، بين من سرقت آمالهم، بين من اغتصبت أحلامهم. وزعت، وما تزال توزع في أطباق خاصة، أبدع اليقين في الله ونصره في تشكيلها.

نعم؛ ذاك ما ظل يطرق مسمعي في جولتي تلك، هو اليقين في الله وفي موعوده عاشت له ولأجله أجيالهم، نشأت وتربت عليه وما زالت تفدي الأرواح لنيله وما استكانت وما ملت.

نبرات تلمح منها الانتصار في قلب مشاهد موجعة، يذكرون بسمو قضيتهم وإن هدمت الجدران، وإن فقدوا الأحباب. يذكرون بحقهم الذي لا يضاهيه حق أو ثمن، ترسخ ذلك في ضمائر صغارهم قبل شيبهم.

هي الأرض وقدسيتها، هي الأرض وشرعيتها، هو الوطن ونفحات الإسراء ومسرى الحبيب المرسل. يحدثنا عنه الحجر والشجر، يحدثنا عنه باسل الصغير، وصفد اليافعة، وتامر الشاب، ومريم الأم، والشيخ صالح… الكل يزرع الأمل من بين صور الجثامين والجرحى بصوت واحد؛ وكأنهم في عالم غير ذلك الذي أجول بين خراب بنيانه.

أتراني في حلم؟! ألا يرون ما أرى ونرى نحن البعيدون عنهم؟! ألا يسمعون ما نسمع؟!

كلا إنهم يعيشون كل ذلك، لكن بيقينهم يغالبون آلام ما يحسه الموجوع، لذلك تسمع منهم عبارات تنازع ما تحكيه مشاهد الدمار من حولهم: هذه أرضنا… هذا أقصانا… هذه مقدسات أمتنا… هذا عرضنا… نحن باقون وإن بقي الألم… نحن باقون وإن مات الولد… نحن باقون وإن ضاع المأوى وانهار السقف واقتلع الوتد.

بين هؤلاء الأبطال تجول عيناي، وأخالني أنا التي قصفت وقصف كل من معي… إن بقي لنا ضمير يألم ونألم به لما يألم هذا الجسم المداس من عدو مجرم جار وتجبر، ومن أخ قريب خذل وتكبر.

أنا ومن معي قصفنا ولا نملك من أمرنا إلا الدعاء والتبتل لكاسر الجبابرة وقاهرهم؛ أن يجعل لهذا الليل صبحا قريبا يفرح له أصحاب الحق والأرض. أجول بين كل تلك المشاهد، بعين يملؤها الأسى قبل الدمع، لتستجر ذهني مشاهد ومواقف حصلت بالأمس، وهي اليوم تعيد ذاتها… لا سمح الله.

مواقف أضاعت تاريخ أمة سادت، وأجهزت على عروش فتآكلت كما تأكل النار الهشيم.

هو الضمير النائم، هو ذا الضمير الذي ثمل سكرا بالسبات وانتهى به المآل إلى الموت السحيق، ضمير أمة بقي منها الجسد المترنح على كراسي اهترأت من شدة الالتصاق خشية ضياعها. فلم تبق العروش ولا استفاق الضمير، ولم تعد الفردوس فردوسنا ولا عادت الحياة لأمتنا…

ضاعت الأندلس والكل يراقب، ولم يهمه أنين جسده ولا صراخ النساء وهي تستغيث. ضاعت الأندلس في نوم ضمير الرجال. ضاعت الأندلس في صمت أولي الأمر وإعراضهم.

بدأ الجسد يتآكل ولا مغيث، انتشر المرض الخبيث فجأة وتوغل في أطراف من كان يراقب ويهادن، ولم تنج منه الأطراف المتواطئة، التي خانت ظنا منها أن ما قدمت من قرابين قد ينجيها ويجعلها في منأى عن التآكل والعدوى. لكن هيهات هيهات، فجسم الأمة واحد، إذا عصفت الخطوب ببعض أطرافه، تداعى له ما بقي، والسيل يجر إلى الهاوية.

ذاك ما لم يعره اهتماما قادة الطوائف، بدأ الجسم يشتكي ولم يعره الكبار اهتماما. نزفت الأرض دما، وصارت دمارا، صرخت النساء والأطفال، واستغاث العلماء وقادة الفكر والثقافة وأصحاب الأرض؛ من بنوا وشيدوا حضارة لم يعرف الزمان مثيلها، قام أهل النخوة والغيرة منهم، وقاوموا ضدا على الاضطهاد الصليبي وأعداء الدين والعروبة، لكن الخيانة قضت عليهم، ذلك المرض العضال الذي سرى في الجسم ولا زال يسري إلى يومنا هذا في عروق من تبرأ من أصله.

الخيانة وما أدراك ما الخيانة؛ مرض أمتنا التي بيعت عبر صفقات مهينة في كواليس مظلمة، قضت على ما بقي من مروءة حاولت القيام والانتصار لكرامتها، فأنهتها في عجالة مقيتة، لتصبح في خبر كان.

 أندلس الحضارة والأمجاد والانتصارات؛ سقطت في ملهى من حكامها وهم يتصارعون حول مصالحهم الشخصية. ضاعت الأندلس ولم تجد من يناصرها لأن حكام الجيران والإخوة بدورهم قد أصابتهم العدوى، وفتك بهم مرض الوهن والمصالح، فتم التهجير ولا غيور يثور، وتم التنصير ولا رشيد ينتصر لدينه، وانقلبت الأرض من واقع جميل إلى غيره مرير؛ لا يوجد فيه مسلم ولا عربي، ولم يحرك الساسة ساكنا سوى البكاء على الأطلال والمجد الذي أصبح تاريخا من الماضي.

كل ذلك مر في ذاكرتي في لحظة خاطفة، والقلب يعتصر لمشاهد اليوم والأمس، أين هم رجالنا؟ أين هي الشهامة العربية والإسلامية أمام هاته المجازر الوحشية؟ ألا نعتبر من أحداث تاريخنا ومآسيه؟ ألم نتعلم من انكساراته ومواقف أشباه رجاله الانهزاميين؟ ماذا ينتظر رجال أمتنا؟ هل ينتظرون إبادة أهلهم في غزة ليستيقظوا بعدها من أجل إقامة حفل العزاء، ويكملوا صفقة البيع؟

لا وألف لا، لن تتكرر المأساة مع شعب يقينه في الله، لن يفنى شعب باع نفسه لله، لن يفنى شعب قام واثقا في النصر لأنه انتصر لله، ومن بين الركام ستنمو شتائل الخير، لأن بذور الإيمان راسخة في عمق التراب الطاهر.

ستزهر الأرض من جديد، وستلد النساء، ويرمم ما هدمه المحتل الجبان.

ستستمر الحياة بخلف الرجال الأشاوس، من صنعوا المجد بدمائهم وسواعدهم المباركة.