صناعة الحرية (27).. يا لها من دولة تعاقب العقول!

Cover Image for صناعة الحرية (27).. يا لها من دولة تعاقب العقول!
نشر بتاريخ

يا لها من دولة تعاقب العقول!

لا تكتفي الأنظمة الظالمة بحصار الأبدان ومنع الوظائف وقطع الأرزاق المادية، ومعاقبة الأبناء بجريرة الآباء 1، بل تتجاوز ذلك إلى معاقبة العقل على التعقل، وأداء مهمته في التفكير الحر والنظر المستقيم، فتمنع الرأي المخالف وتجرمِّ نشره بين الناس، وتمنع طبع المخطوط الذي يدونه، والمكتبة التي تبيعه إذا طُبع، والشخص الذي يقتنع بمضامينه، بل تتلصص على بحوث الطلبة في الجامعات كيلا تتضمن قولا من أقواله أو مرجعا من مؤلفاته، فيضطر الباحثون تحت الإكراه إلى إثبات قوله دون عزوه إلى صاحبه. وتتنصت على الخطباء والفقهاء كيلا يستدلوا بقولة من مؤلفاته، فيضطر هؤلاء إلى إخفاء اسم الأستاذ أو نسبة قوله إلى غيره حتى لا يطالهم العقاب والطرد من وظائفهم.

بدعة الذل…

قال الشاعر السوري الشهيد سليمان الأحمد (ت1981م):

بدعة الذلّ أن يصاغ من الـ.. ـفرد إلهٌ مهيمن ديّان

أيّها الحاكمون ما ضاعت الحجّة.. منكم ولا انطوى البرهان

حقّ هذي النفوس أن ترفع.. الأصنام فيها وتعبد الأوثان

يا لها دولة تعاقب فيها.. كالجناة العقول والأذهان
أين حرّيتي فلم يبق حرّا.. من جهير النّداء إلاّ الأذان
سبّة الدّهر أن يحاسب فكر.. في هواه وأن يغلّ لسان
ألضحى والشجاع حلفا كفاح.. ما احتمى بالظّلام إلاّ جبان
حرنوا والشعوب في موكب السّبق.. ومن شيمة الهجين الحران
يعثر الدّهر والشعوب وتشقى.. بالمناكير أمّة وزمان
قبروا في المهود ما سلّ سيف.. في رداهم ولا تعرّى سنان
لم تنلهم يد المنيّة ظلما.. ولدوا قبل أن يحين الأوان
سائلوا زحمة العواصف لمّا.. رجّت الأرض أين كنّا وكانوا
وسلوا ظلمة السّجون فلن.. ينبئ عنهم سجن ولا سجّان
كتب المجد ما اشتهت غرز المجد.. ونحن الكتاب والعنوان
نحن تاريخ هذه الأمّة الفخم.. ونحن المكان والسكّان 2.

قبل السجن وأثناءه وبعده، ظل الرجل يمشي سويا لا يلتفت إلى أحكام الناس، قويا بإيمانه لا تزعزعه تشكيكات الخراصين، ومستبشرا بحُسن ظنه لا تقطع تفاؤله ترددات المرتابين، وبهذا التعالي والنظر من الأعالي استوى عنده السجن وعدمه، إذ “العارفون في شكر فهم غائبون عن السجن” 3. كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني. استمر وفيا لحرفته “التربية” بمعناها الشامل والمتوازن، من أول كتبه إلى آخرها، حيث يقول: “حرفتنا التربية، هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنـزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية” 4.

من جان بول إلى سليمان نفيس

وحدث في السجن أيضا أن التقى بالأستاذ رجل أعمال فرنسي يسمى “جان بول” وهو مسيحي بروتستانتي، تعرف إليه عن قرب وعاشره شهورا، وبعد مُدة وجيزة توصلت مجلة المجتمع الكويتية برسالة باللغة الفرنسية من الرجل المسيحي يعلن فيها إسلامه على يد صديقه في السجن الأستاذ عبد السلام ياسين، ويغير اسمه إلى “سليمان نفيس”، وقد ترجمت المجلة الرسالة كاملة ونشرتها تحت عنوان “رسالة من السجن المدني في الرباط”، يتحدث فيها عن لقائه بالأستاذ وعن تأثره بنورانيته وتوجيهاته، مما قاده إلى الاقتناع بدين الإسلام وإعلانه الدخول فيه، حيث جاء على لسانه: “إن القدرة الإلهية جعلتني ألتقي في طريقي مع رجل عرف كيف يوجه خطواتي الأولى في هذا الاتجاه الجديد، فعلمني يوما بعد يوم مبادئ الدين، وأيقظ في قلبي الروحانية التي كانت في سبات عميق. فالحمد لله الذي جعل ممكنا ما كنتُ أراه مستحيلا، الذي هيأ لي مرشدا ودليلا في مستوى السيد عبد السلام ياسين. أرافقه طوال هذه الأيام، بل هذه الشهور التي قضيناها معا، وإني لواعٍ بهذه المنحة الربانية التي اختصني بها سبحانه وتعالى” 5.

رجل عرف كيف يوجه خطوات رجل… يوما بعد يوم.

وهكذا كان الأستاذ صاحب بصيرة وخبرة، يؤثر في أصحابه ورفاقه بروحانيته العالية وأخلاقه الفاضلة قبل تأثير قوله وإقناع دليله، ولربما أقنع حال المرء أفضل من مقاله، فكيف إذا اجتمعا؟ حُسن الخلق وحسن القول. ولو لم يكن كذلك ما كان ليكون له هذا الشأن. ولو لم يكن كذلك فهل كان سيحارَب؟ إنها القدوة والثقة والقدرة على المقاومة باختصار. وذلك هو جُرمه، يقول المهدي المنجرة رحمه الله (ت2014م): “أنا متأكد بأن الجرم الخفي الذي ارتكبه عبد السلام ياسين في أعين الذين أدانوه، هو كونه لم يستسلم ويخضع، إذ إن المقاومين والمؤمنين لا يستسلمون إلا أمام معتقداتهم ومن أجلها. هذه مسألة كرامة تحرج الكثيرين” 6المنجرة، المهدي. قيمة القيم، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط2، 2007م، ص 120..

رسالة رجل الأعمال الفرنسي جان بول إلى مجلة المجتمع الكويتية

ولكون هذه الرسالة/الوثيقة خرجت من السجن المدني بالرباط، ومن شخص أجنبي وقريب عهد بالإسلام فهي ذات أهمية في موضوعنا.

ليست لدي تفاصيل حياة هذا الرجل رحمه الله ولا أدري شخصيا، ما إذا كان اتصل بالأستاذ من بعد خروجه من السجن أم لا؟ الله أعلم به. ولا أدري ما فعل الله به منذ ذلك الحين، إلا كونه كان يسكن بحي الوفاق بالرباط، ولا أعرف عنه سوى تلك الرسالة، ولم أتوصل إلى معلومات أخرى لحد الآن، وكنت أشك في أنه هو الرجل الذي ورد اسمه في كتاب أحمد المرزوقي “تزممارت الزنزانة رقم 10” 7، حيث تحدث الصحفي الفرنسي إنياس دال (وكالة الأنباء الفرنسية) في تقديمه للكتاب عن لقاء المرزوقي بجان بول كوفمان في الرباط وتبادلهما الحديث عن تجربتهما في الاعتقال وعن ظروف السجن ومعاناته. خاصة وأن جان بول هذا كان معتقلا سنة 1985م، ولكن فيما بعد تبين أنه شخص غيره، لأن كوفمان هذا كان معتقلا في لبنان وليس في المغرب، ولم يذكر قصة إسلامه في كتبه وحواراته. والله أعلم.

كما ظننتُ أيضا أنه هو الرجل (مسلم فرنسي) الذي اعتُقل عندما كان يُهم بزيارة الأستاذ في سكنه بحي السلام يوم 9 يناير 1990م بحسب ما ذكره الأستاذ فتح الله أرسلان، بعد عشرة أيام من فرض الحصار 8، حيث كانت السلطة تمنع الجميع -مغاربة وأجانب- من زيارته، وقد اعتُقل في اليوم نفسه أيضا صحافي ألماني يمثل اتحاد الإذاعات الألمانية 9.. كما مُنع عشرات الصحافيين الأجانب والعلماء والمفكرين والأصدقاء والباحثين من الزيارة…


[1] انظر: أوفقير، رؤوف. الضيوف، ترجمة حسن عمر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2008م.
[2] بدوي الجبل، أحمد سليمان الأحمد. قصيدة بدعة الذل، بوابة المعرفة (knowledge-savoir.com)، منشورة بتاريخ 29 يونيو 2018م، وشوهدت في 9 يونيو 2020م.
[3] الجيلاني، عبد القادر. الفتح الرباني والفيض الرحماني، مرجع سابق، ص 161
[4] ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة، دار الآفاق، المغرب، ط1، 1421ه/2000م، ص 293.
[5] رسالة من السجن المدني بالرباط، مجلة المجتمع، الكويت، عدد 686، السنة 1984م، ص 48، وتوجد المجلة في الأرشيف على الموقع: (mugtama.com/archive-pdf).
[7] المرزوقي، أحمد. تزممارت الزنزانة رقم 10، مرجع سابق، ص 10.
[8] أرسلان، فتح الله. حصار رجل أم حصار دعوة، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996م، ص 91.
[9] المرجع نفسه، ص 92