شهر رمضان بين نقض الغزل ودوام الوصل

Cover Image for شهر رمضان بين نقض الغزل ودوام الوصل
نشر بتاريخ

انقضت أيام شهر رمضان، ورحل الضيف الكريم مخلفا وراءه المستضيفين له، حاملا معه الانطباعات عنهم، فمنهم مُكرم مسرور عند حلوله حزين عند رحيله، ومنهم مُهين مغرور حزين عند حلوله مسرور عند رحيله. والمسكين من فاته أجر هذا الشهر الكريم، وضاعت فرصة من بين يديه للتوبة إلى الله الغفور الرحيم، وصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم قال: “أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك رمضان فلم يُغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين” 1. يقول الله تعالى: ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا 2، إنها حكاية امرأة اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ، وصَنّارةً مثلَ أصبع، وفلكةً عظيمةً على قدرها، فكانت تغزِل الصوف هي والعاملات معها من الصباح إلى المساء، حتى يصنعن شيئا عظيما، وبعد أن يتممنه ويحسنّ نسجه؛ إذا بالمرأة تأمر العاملات فيُنقضْن ما غزَلْن، فيعود خيطا كما كان، وهكذا كانت تعمل معهنّ كل يوم، فكل الذي يعملنه طول النهار يضيّعنه آخره. لقد حكم من عاصر هذه المرأة زمانها بأنها حمقاء، وكذلك من يبني في العمل الصالح طول شهر رمضان ويرتقي في درجات الإيمان ثم عند حلول العيد يبدأ في هدم ما بناه، ويتدحرج في درجات الإيمان إلى الأسفل من أعلاه.

شهر رمضان مدرسة تربوية إيمانية بامتياز، جعله الله بابا ومدخلا للتوبة الصادقة والصلح مع الله، فإذا كانت الشهور الأخرى الإحدى عشر يكون فيها المسلم المؤمن عاجزا عن اليقظة القلبية لثقل النفس الأمارة بالسوء، فإنه في شهر رمضان يكون الاستعداد لها مناسبا مواتيا لوجود أجواء إيمانية تشجع على ذلك وتدفع إليه. فلا ينازعه فيه شيء من نوازع النفس نحو السوء والشرّ من معاص أو كذب أو غيبة أو نميمة أو غضب أو حسد أو حقد إلا وتذكر أنه صائم وأن ذلك يفسد عنه صيامه. وبهذا يعلمنا الله تعالى من خلال الشهر كيف نعيش حالة الحضور والوعي واليقظة، فلوجود الجوع والعطش والامتناع عن شهوة الفرج ما يضعف النفس وينهكها، مما يسمح للروح أن تقبل على الله وعلى ذكره وتلاوة كتابه، ذلك أن النفس من طبيعتها أن تشغلنا بالغفلة والسهو، فلا تكاد الروح ترغب في عبادة أو طاعة حتى تنبري لها النفس بمشاغل وملهيات تُنسي العبد ذلك وتُغفله عنه. هذا الحضور والوعي بالعمل هل هو صالح أم طالح، يرضي الله أم يُغضبه، فائدة تربوية عظيمة نستفيدها من هذا الشهر الكريم.

ويعلمنا الله تعالى أيضا أننا في شهر رمضان نملك من الطاقة والجهد ما بوسعنا أن نعمل الكثير من الأعمال الإيمانية، بوسعنا أن نقوم الليل كل يوم، وأن نختم القرآن أكثر من ختمة شهريا، وأن نصوم يوميا، بوسعنا أن نذكر الله تعالى، وأن نحافظ على الصلوات الخمس بنوافلها في وقتها ومع الجماعة، بوسعنا أن نتصدق ونُكرم ونصل الرحم ونتزاور ونتراحم ونتعاون على البر والتقوى. يُعلمنا أننا ما بإمكاننا أن نحياه من روحانية وربانية عالية خلال هذا الشهر الكريم بإمكاننا أيضا أن نحياه في الشهور الأخرى، فإن لم يكن بنفس الدرجة فعلى الأقل قريبا منها، فما لا يُدرك كله لا يترك جله.

يعلمنا سبحانه وتعالى في هذا الشهر العظيم كذلك أن الجهاد والتصدي له في مختلف أبوابه الدعوية والتعليمية والسياسية إنما يكون على أساس تربوي عميق أساسه الإقبال على الله في كل وقت وحين، فليس من السهل على النفس اقتحام مواطن الشدة والخوف والموت كما نقرأ في الغزوات الكبرى التي وقعت في هذا الشهر، إن لم تكن هذه النفس على استعداد كامل للثبات في الميدان وللموت والاستشهاد في سبيل الله.

بهذه اليقظة الروحية، وبهذه الطاقة الإيمانية والعمق التربوي نستقبل الشهور الأخرى لنعيش نفس الشعور الإيماني، ونفس التفكير الإيماني، ونفس السلوك الإيماني لمدة عام كامل. أما الخروج من تلك اليقظة إلى الغفلة من جديد، أما الانتقال من تلك الطاقة الإيمانية إلى حالة العجز والدّعة والكسل من جديد، فإن ذلك يعني الفشل والخسران. وذلك من جهتين:

الأولى: أن المسلم أضاع فرصة سانحة عظيمة لتغيير ما بنفسه ولكنه لم يفعل.

الثانية: أن ما زرعه من خير خلال شهر كامل أفسده، وما غزله أنقضه، وما فتله بعثره. فلو كان صادقا لأوصل الشهر بغيره من الشهور، ولو كان مخلصا لأتبع الحسنة بالحسنة والخير بالخير.

فعوض نقض الغزل علينا أن نسعى جاهدين ومجتهدين لنديم الوصل بهذا الشهر الكريم من خلال ما نستقبله من الشهور الأخرى، وذلك بتثبيت تلك الأعمال التي بدأناها فيه، بتثبيت ختمات القرآن، وصيام التطوع وقيام الليل، وأداء الفرائض في وقتها وفي الجماعة مع النوافل، وذكر الله ودعاء الرابطة، وبتثبيت جميع أعمال الخير والصلاح. قال حبيب الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الدّين ما داوم عليه صاحبُه” 3. وبهذا نكون مدرسة رمضانية متنقلة عبر الشهور.

فالله نسأل أن يديم علينا من فضله وكرمه وإحسانه بما يُذكّرنا به وفيه، ويُطمعنا في رضاه ورحمته.


[1] رواه ابن حبان واللفظ له، والطبراني عن مالك بن الحويرث الليثي رضي الله عنه.
[2] النحل: 92.
[3] أخرجه الشيخان والنسائي عن عائشة أم المومنين رضي الله عنها.