سحرتني آية (14).. “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم”

Cover Image for سحرتني آية (14).. “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم”
نشر بتاريخ

لطالما استوقفتني هذه الآية الكريمة ووجدت فيها الجواب الشافي والحل الكافي لبلوغ المراد والوصول للهدف المنشود؛ قرب الله ورضاه.

يقول عز و جل في الآية 28 من سورة الكهف: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فرطا. يأمر الله تعالى سيد الذاكرين وسيد الصابرين وسيد الأولين والآخرين بأن يصبر نفسه الطيبة الطاهرة مع الذين يدعون ربهم ويذكرونه بالصباح والمساء، إرادتهم وهمتهم عالية؛ يطلبون أغلى وأعظم مطلوب: وجه الله تعالى، يبتذلون الدنيا ويزهدون حتى في الآخرة وجنانها، لا يملأ أعينهم إلا النظر إلى وجه الكريم.

آية سحرتني لدرجة أنني أكاد أستشهد بها وأذكرها في كل موعظة ودرس، تبدأ برابع أنواع الصبر والمفتاح للتحلي بباقي الأنواع الأخرى، فالصبر مع الصحبة والجماعة المؤمنة الصالحة يعيننا وبشكل ملحوظ على الصبر على الطاعات وعن المعاصي وحتى على الابتلاء. ويمكن القول إن هذه الآية العظيمة ضمت أربعة أوامر: الصبر وصحبة الجماعة الصالحة وذكر الله عز وجل وإرادة وجهه الكريم، وبالمقابل حذر تعالى فيها من ثلاثة مزالق: البعد عن الصالحين وطلب الدنيا وصحبة الغافلين المضيعين لأوقاتهم و حياتهم فيما لا ينفع عند الله.

وقبل الوقوف مع هذه المعاني أذكر بسبب نزول هذه الآية المفتاح: فقد طلب أسياد قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد جلساءه من فقراء وضعفاء المسلمين، أو يقوم عنهم إن رفض طردهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “دخل عُيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلمان، فقال عُيينة: “إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وأدخلنا”، فنزلت الآية” 1.

وفي الآية استنهاض لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لنهج نفس الطريق التي أرادها الله وأمر بها حبيبه وصفيه من خلقه صلوات الله وسلامه عليه.

والمفاتيح الأربعة التي تتضمنها هذه الآية الكريمة هي:

الصبر:

وهو حمل النفس على الثبات في ظل ظروف ليست بالسهلة، مع المثابرة في مواجهة العقبات وتحمل العناء للوصل إلى الهدف. وهو أيضا الصمود المستمر على الأشياء المؤلمة والثقيلة على النفس دون إظهار ملامح الاستياء. والمقصود هنا؛ حبس النفس وحملها بقوة على مجالسة ومصاحبة المؤمنين والحضور معهم في حلق الذكر، والتعلم منهم والارتقاء معهم والاقتداء بهم في المسارعة لنيل رضى الله.

المعية:

“مع الذين”؛ هم الصحبة الصالحة: الذاكرون العابدون الصادقون، الذين يتشوفون للإحسان ويطلبون وجه الله تعالى ولا يبغون عنه سبيلا. والواجب لزومهم وحبهم في الله والتعلم منهم والاقتداء بهم.

الذكر:

قوت القلوب وغذاء الروح وعلاج القلق والضيق والقنوط والوحشة، يقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: 28).

فالذكر شرط أساسي للتربية الإيمانية الإحسانية، وهو منشور الولاية، رفيق السالكين المحبين، والإكثار منه ولزومه ترياق مجرب.

الصدق:

وهو عامل شخصي داخلي، فيه إجابة عن سؤال جوهري: ماذا أريد؟ والصادق الذي يسعى ويطلب وجه الله مطالب بإعطاء البراهين العملية الفعلية قبل القولية؛ بالبذل من ماله ووقته وجهده في سبيل الله، وبالاستماتة والصمود والاستمرار والاجتهاد حتى آخر رمق في حياته، مستعينا بالله تعالى، مستمدا للطاقة والقوة من الكينونة مع أهل الله الصادقين، الموصولة حبالهم بالسلسلة النورانية التي شربت من المعين؛ من قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله وصفيه من خلقه.

وبالمقابل يجب علينا، ويجدر بمن همه الفوز بالله، الابتعاد عن الغافلين من أهل الدنيا الذين يصدون عن الحق ويفسدون في الأرض ويحولون دون قربنا من الهدف المنشود في الدنيا: الشوق إلى لقاء الله عز وجل، و في الآخرة: لذة النظر إلى وجهه الكريم.

كانت تلكم وقفة مع آية جامعة مانعة، ينور الله بها العقول والقلوب، ويستنهض بها الهمم لطرق بابه والدخول عليه من أوسع الأبواب، تضمنت شروط التربية الثلاثة: تربية ترتقي بنا في مدارج الدين، فخير العطاء صحبة ربانية وتوفيق لذكر الله بالقلب واللسان وقلب صادق نقي تقي لا يرضى عن حب الله بديلا.

جعلني الله وإياكم من أحباب الله وأحباب حبيبه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم.


[1] أسباب النزول للسيوطي: 177، وانظر تفسير ابن كثير 3: 81,8.