رابطة الجوار.. حقوق وتدابير

Cover Image for رابطة الجوار.. حقوق وتدابير
نشر بتاريخ

مقدمة

انخراطا في الحملة التحسيسية التي نادت بها نساء العدل والإحسان تحت شعار “جاري قبل داري”، وإسهاما في هذه الحملة الطيبة أكتب هذا الموضوع.

يتميز المجتمع الإسلامي عن باقي المجتمعات الأخرى بروابط اجتماعية وإنسانية مهمة، يحاول الإسلام من خلال جملة من الحقوق الواجبة توثيقَها وتمتينها وتعميقها حتى يبقى نسيج المجتمع متماسكا وقويا. وفي الوقت نفسه يؤكد على مجموعة من التدابير الوقائية للحفاظ عليها حتى لا تتفكك فيضعف هذا النسيج المجتمعي ويترهل. ومن هذه الروابط الاجتماعية رابطة الجوار. فقد أوصى بها الإسلام أفراد المجتمع أيّما توصية، وحثّهم عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواضع عدّة. كما حذّرهم أيضا من أيّ أذى أو اعتداء أو ظلم يطال هذه الرابطة من قريب أو من بعيد.

ولمقاربة هذا الموضوع سأركز على نقطتين أراهما مهمّتين: الأولى: تتعلق بالخط العام الذي تندرج فيه رابطة الجوار. والثانية: تتعلق بالخطوط التفصيلية الخاصة بها.

الخط العام

تندرج رابطة الجوار في خط عام ذكره القرآن الكريم في آية كريمة من سورة النساء إلى جانب روابط أخرى، منها: الرحم، القرابة، الصحبة، العلاقة بالخدم، العلاقة بابن السبيل وغيرها. يقول الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا[النساء: 3].

إذا تدبرنا هذه الآية الكريمة سنجد أنها توحي لنا بمجموعة من الإشارات القوية، أذكر منها:

الأولى: أن هذه الروابط الاجتماعية كلما انتظمت جميعها في عقد الرابطة الإيمانية بين العبد وربه القائمة على العبودية الخالصة لله عز وجل كلما تقوّت وتوثقت وتعمّقت، باعتبارها تصدر عنها وتتفرع منها. أما إذا انفصلت هذه الروابط عن تلك الرابطة الإيمانية العظمى فبدون شك ستتعرض للتفكك والضياع.

الثانية: أن رابطة الجوار حسب الآية الكريمة نوعان: الجار القريب، والجار البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة. وجاء في بعض التفاسير غير ذلك، فمثلا يقول القرطبي رحمه الله: “والجار ذي القربى”، أي القريب، “والجار الجنب”، أي الغريب… إلى أن قال: وقال: نوف الشامي: “والجار ذي القربى”، المسلم، “والجار الجنب”، اليهودي والنصراني 1.  وعلى ضوء هذا التقسيم والترتيب يكون الأولى منهما بالإحسان والاهتمام والإهداء وغيره. فعن أبي عمران الجوني قال: سمعت طلحة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: “إلى أقربهما منك بابا” 2.

الثالثة: أن هذه الروابط الاجتماعية المذكورة في الآية تمثل بمجموعها في حق أفراد المجتمع نظاما للسلوك الاجتماعي، فمن خضع لهذا النظام وعمل بمقتضياته، ثم اجتهد في الدعوة إليه في المجتمع، فهذا يعني أن هذا الفرد يتميّز بسلوك اجتماعي جيّد ويعتبر من خير الناس. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “خيرُ الأصحابِ عندَ اللهِ خيرُهم لصاحبِه، وخيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُهم لجارِهِ” 3.

الخطوط التفصيلية

تحدثنا عن الخط العام الذي تندرج فيه رابطة الجوار، أما النقطة الثانية سنتحدث فيها عن الخطوط التفصيلية لهذه الرابطة الطيبة، والتي يمكن تقسيمها إلى حقوق واجبة وتدابير وقائية.

أولا: الحقوق الواجبة

وقد جاء ذكر هذه الحقوق في مجموعة من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن الجار. حاول بعض العلماء تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: الأول: جار له ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم القريب (الرحم). والثاني: جار له حقان، وهو الجار المسلم غير القريب. والثالث: جار له حق واحد، وهو الجار غير المسلم.

جاء ذكر بعض هذه الحقوق مجملة في الحديث النبوي الذي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

“حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ”.

وجاء ذكر بعضها الآخر في أحاديث نبوية أخرى مفصلة منها:

الإحسان إلى الجار: عن أبي شريح العدوي خويلد بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيَسْكُتْ”.

إكرام الجار: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ”.

الاهتمام البالغ بالجار: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ” 4.

إشراكه في الطعام والشراب: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: “إنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ أَوْصَانِي: إذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فأكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِن جِيرَانِكَ، فأصِبْهُمْ منها بمَعروفٍ”. وفي رواية مسلم عنه رضي الله عنه: “يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك”.

الإهداء: عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: “يَا نِسَاءَ المُسلِمَاتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لجارتِهَا وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ” 5. أي لا تحقرنّ أن تهدي جارةٌ إلى جارتها شيئا ولو كان قليلا جدا، تعبيرا على حسن الجوار والمحبة.

يتبين من خلال هذه الأحاديث النبوية أن حقوق الجار على جاره تقتضي تعاملا خاصا، وأن يُعطى لها اهتمام كبير حتى تتوثق هذه الرابطة وتتقوى.

ثانيا: التدابير الوقائية

وهي مجموعة من الإجراءات العملية وجهنا إليها رسول الله صلى الله وسلم حتى نحافظ على هذه الرابطة من الانفصال والتفكك، وقد صاغها صلى الله عليه وسلم في أسلوب يحمل نوعا من الوعيد والتهديد والتحذير لمن لم يلتزم بها، لأن ذلك سيُفسد رابطة الجوار وبالتالي المجتمع.

ومن هذه الإجراءات العملية:

عدم إذايته بحال من الأحوال: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ” 6. وعنه رضي الله عنه أيضا قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: “هي في النار” 7.

عدم ظلمه وغُشمه: عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أَن النَّبيَّ ﷺ قَالَ: “واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ” 8. وزاد أحمد، قالوا: يا رسول الله وما بوائقه؟ قال: “شره”. وفي روايةٍ لمسلمٍ: “لا يَدْخُلُ الجنَّة مَنْ لا يأْمَنُ جارُهُ بوَائِقَهُ”.

عدم التقصير في حقه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم” 9.

وهناك أحاديث أخرى كثيرة في الباب، لكن ما ذكرناه منها تكفي معانيها لتعظم لدينا حرمة الجار فنخشى أن نقصر في حقه وبالأحرى أن نؤذيه.

والظاهر من الأحاديث المذكورة أن خطاب أكثرها، إن لم نقل جميعها موجه إلى المؤمن خاصة. بمعنى أن هذه الروابط الاجتماعية الواردة في الآية أعلاه، والتي تمثل السلوك الاجتماعي للمؤمن، لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس إيماني. معناه، أنه لا يكفي خطاب المجتمع بهذه المعاني فقط، ولا بد من تربية أفراده تربية إيمانية واجتماعية في نفس الوقت، والتي ستكون الحافز والدافع والباعث على تحقيقها في الواقع.

خاتمة

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن مما يفسد هذه الروابط الاجتماعية عامة ورابطة الجوار خاصة ما بتنا نعيشه اليوم من استفحال الماديات وطغيان الأنانيات. فكلنا يتذكر الماضي القريب كيف كان حسن الجوار يُضرب به المثل في القرى والبوادي قبل أن تتحول إلى مدن. يومئذ رغم الحاجة التي كانت سائدة، كانت معاني المحبة والإيثار والإكرام والمواساة والتعاون والتزاور والتكافل، كلها معان سارية ومنتشرة.

اليوم، مع الدُّور المنفصلة عن بعضها، والأبواب الموصدة في وجه جيرانها، اختفت هذه المعاني أو كادت ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. هذا مما يوجب علينا الاجتهاد في إحيائها من جديد عبر كل الوسائل لإعادة هذه المكانة اللائقة للجار في الإسلام، سواء عبر هذه الحملات التحسيسية الطيبة أو عبر الخطب والمواعظ للتنبيه إليها، أو عبر أعمال ميدانية مباشرة.


[1] تفسير القرطبي، ج5، ص:153.
[2] رواه البخاري.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[5] متفق عليه.
[6] متفق عليه.
[7] رواه الإمام أحمد رحمه الله.
[8] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
[9] رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن.