دولة اللامركزية من خلال الوثيقة السياسية

Cover Image for دولة اللامركزية من خلال الوثيقة السياسية
نشر بتاريخ

أصدرت الدائرة السياسية لجماعة العدل والاحسان وثيقة سياسية وجهتها لعموم المغاربة، كشفت عن تفاصيلها يوم الثلاثاء 6 فبراير 2024، تعرض تصور الجماعة في مختلف المناحي العمومية، حيث حرصت الجماعة من خلالها على مزيد من التواصل وتوضيح جوانب عديدة من تصوراتها في مختلف مجالات الشأن العام.

في المحور السياسي عبرت الجماعة عن سعيها للإسهام في بناء دولة العدل والكرامة والحرية، تقطع مع الاستبداد، وتكفل للجميع العيش تحت سقف دولة تحكم بدستور ديمقراطي، وترعى على أساس من اللامركزية والعدالة الاجتماعية.

تطرقت الوثيقة السياسية للحديث عن معالم دولة اللامركزية، وأبانت من خلال عدة مقترحات أن كل المراجعات المتتالية للامركزية بالمغرب باءت بالفشل في التأسيس لنظام لا مركزي يجعل من الجماعات الترابية إطارا جغرافيا قاعديا لإنتاج تنمية محلية مستدامة؛ قادرة على جلب الاستثمار وإنعاش التشغيل ومحاربة التهميش والإقصاء الاجتماعي والممارسة الديمقراطية وترسيخ قيم المواطنة البناءة والمشاركة الفعالة لكل مكونات المجتمع المحلي.

ظلت الممارسة المحلية بالمغرب تشتكي العديد  من الصعوبات والإشكالات، منها ما هو ذاتي على مستوى الممارسة، ومنها ما هو بنيوي/قانوني، أبرزت الوثيقة السياسية جزءا مهما منها، أحاول بسطها بأسلوب آخر فيما يلي:

1- مشاركة الجميع

التنمية لا تتحقق بمفهومها العلمي والشامل وببعدها المحلي والوطني إلا من خلال مشاركة جميع العناصر الفاعلة في المجتمع، لما تنطوي عليه هذه المشاركة من أهمية في تعديل السلوك الاجتماعي للمواطنين، وفي بناء معايير وقيم إيجابية تقوم على التضامن الاجتماعي والمشاركة الشعبية في التنمية النابعة من الاحتياجات الحقيقية للمواطنين.

فالتدبير التشاركي يهدف إلى تعبئة الطاقات والقدرات المحلية والتواصل الداخلي ومسايرة التغيير وعقلنة الوسائل، كما أنه يعيد الثقة في الفعل العمومي من قبل القوى الحية والنخب المحلية، ويساهم في فرض نوع من الشفافية والمساءلة وإتاحة المعلومة للجميع.

2- التقسيم الترابي

ظل التقسيم الترابي محكوما بهواجس أمنية ضبطية منذ الاستقلال إلى اليوم، ولم يرتكز على معايير موضوعية أو مقاربة تنموية، والخصوصية الترابية لا تنسجم مع الحقائق الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، مما خلق تباينات كبيرة بين الوحدات الإدارية.

والمطلوب هو وضع سياسة ترابية تزاوج بين المقاربة السوسيولوجية والتنموية، وتسعى إلى خلق نوع من التوازن بين مختلف الجهات والمناطق، وتهدف إلى تحقيق توزيع أفضل للسكان والأنشطة فوق مجالها من خلال سياسة قطاعية ومجالية للتخفيف من التباينات الحاصلة، والقطع مع ما خلفه الاستعمار وزكته السياسات المتبعة من مغرب نافع ومغرب غير نافع.

3- ضعف الموارد المالية

الدولة فوتت للجماعات الترابية استخلاص الرسوم والضرائب الصعبة التحصيل والعديمة الجدوى، فالجبايات المحلية مشتتة بين عدد من الرسوم التي تتسم بضيق وعدم تجانس وعائها، وبأنماط إصدار وطرق تحصيل معقدة ومتباينة، ودائما ما تبقى هذه الأخيرة مرهونة للباقي استخلاصه.

وأمام العجز الدائم الذي تعرفه هذه الوحدات، تظل بنية مواردها مرتهنة بشكل أساسي إلى الموارد المنقولة من الدولة (TVA). والحصيلة أن جل الجماعات تظل عاجزة عن تحقيق لامركزية فعلية أمام عدم كفاية الموارد المالية الذاتية.

4- توزيع الاختصاصات وتداخلاتها

إن التداخل الحاصل في الاختصاصات بين المركز والمحيط داخل الدولة، كثيرا ما كان سببا في سوء تدبير الشأن العام المحلي، وسببا مباشرا في إضاعة فرص حقيقية للاستثمار. فإذا كان مبدأ التفريع يعد الأساس المنطقي لتوزيع الاختصاصات والصلاحيات، فإن فلسفته العامة تقتضي وجود عدة شروط لا بد منها لتحققه في الممارسة، وتطبيقه على الأساس السليم، والاستفادة من وظائفه ومزاياه. كما أن تنزيله يقتضي أولا وأخيرا وجود بيئة سياسية منفتحة تسمح بهامش من الحرية أكثر، وأن يرتكز البناء السياسي على الاستقلالية والقدرة على المبادرة للمستويات الأدنى في التنظيم الإداري.

أضف إلى ذلك أيضا، أن نجاح اللامركزية الترابية لا يتوقف فقط على تخويلها اختصاصات متعددة، بل تمكينها أيضا من الوسائل المادية والبشرية اللازمة لتسييرها.

5- ثقل الرقابة/الوصاية

واقع الممارسة أثبت أنه لا جدوى من التخفيف الذي لا يمس الجوهر، فسلطات الوصاية كانت وما تزال مهيمنة ومتمركزة، وأضحت وسيلة للتحكم في الهيئات المنتخبة، مما أفرغ اختصاصات الجماعات الترابية من محتواها، فالرقابة/الوصاية كآلية للتحكم في حركية الممارسة المحلية مازالت مفروضة بقوة، ومنها مراقبة الملاءمة التي تمارس بالمصادقة أو عدم المصادقة والتي تحجر على مخططات وأعمال المجالس الجماعية وتشعرها بالدونية والتبعية للمركز.

فالمفهوم الفقهي للتدبير الحر يتجلى في كون المجالس لها كامل الصلاحية والحرية في تحديد وبلورة اختياراتها وبرامجها، في احترام تام للمقتضيات القانونية والتنظيمية ومراعاة للإمكانيات التمويلية المتاحة، والتدبير الحر معناه إلغاء كل أشكال الوصاية أو الرقابة على عمل المجالس.

خلاصة

لتجاوز العوائق التي يشهدها تدبير المجال، يستلزم تعميق مفهوم الحكامة كأداة ووسيلة ناجعة لبسط التوجهات الاستراتيجية الكبرى في التدبير الجيد للشأن العام المحلي، حيث لابد من توفير الشروط المسطرية والتنظيمية والبشرية والمالية الضرورية، وكذا تأثيث المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي، في إطار رؤية شمولية متكاملة للتخطيط والبرمجة والتنظيم المعقلن ضمن فلسفة تنموية واضحة الأهداف والمقاصد.

ونخلص بالقول إن كل هذه العوائق المادية هي نتيجة للمعيقات البنيوية، والتي هي في الأصل عوائق هيكلية تعبر عن طبيعة النظام ذاته وعن ميولاته السلطوية. فطبيعة النظام القائم لن تسمح بوجود فاعل سياسي حقيقي قادر على صناعة القرار المحلي المستقل بعيدا عن هيمنة الفاعل المركزي.