تلازم النداء والاستجابة: سلوك الصحابيات نموذجا

Cover Image for تلازم النداء والاستجابة: سلوك الصحابيات نموذجا
نشر بتاريخ

تقديم

جاء القرآن الكريم بمفاهيم جامعة تمثل قيما مركزية وموجهات أخلاقية تقوّم سلوك المسلم والمسلمة ترقى بهما في مدارج الإيمان، فتحدّث عن خلق الصدق وعن فضيلة الأمانة وأهمية الاستجابة وقيمة الوفاء بالعهد، ونحو ذلك كثير…

أقف مع قيمة الاستجابة من خلال موضوع “تلازم النداء والاستجابة: سلوك الصحابيات نموذجا”، لأحدد أولا طبيعة النداء في القرآن الكريم، ثم أبرز ثانيا دلالات مفهوم الاستجابة، وأستعرض في الأخير صورا من تفاعل الصحابيات مع النداء الرباني وطبيعة استجابتهن لنستخلص العبر والدروس.

أولا: النداء في القرآن الكريم

يخاطبنا المولى عز وجل في القرآن الكريم بـ”يا أيها الذين آمنوا”، جاءت في تسعة وثمانين موضعا، فصيغة النداء استعمل فيها الياء، وهو حرف لنداء القريب، فالمؤمن قريب من ربه تعالى وهو في كنف رحمته وحرزه، نداء “يا أيها الذين آمنوا” فيه تذكير لنا بعهد الإيمان وبلزوم الوفاء به، نداء يهيب بنا أن نُقبل على الله تعالى وألا نعرض.. فمن أقام معاني الإيمان في قلبه لا يغفل عن ذكر ربِّه تعالى ولا عن ندائه.

المقصد الأساس من أسلوب النداء في القرآن الكريم: التنبيه والاهتمام بمضمون الخطاب، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه “إذا ما سمعتَ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأَرْعِهَا سمعك فإنَّ ما بعده خيرٌ يَأمر به، أوْ شرٌّ يَنهى عنه” (1)، أي فانتبه أيها المؤمن وأيتها المؤمنة لما يراد منكما واستمعا..

فهذا النداء من الله تعالى موجه لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمة الاستجابة كما يسميها بعض العلماء، لهذا تتبع الاستجابة النداء، ويتلازمان في كتاب الله تعالى، نداء رباني تقابله استجابة المؤمن والمؤمنة فردا وجماعة.

فما المقصود بالاستجابة؟ وما مضمونها؟

ثانيا: مفهوم الاستجابة ودلالاته في القرآن الكريم

الاستجابة مفهوم قرآني يقصد به: تلبية نداء الله تعالى والانقياد للأمر الإلهي وتنفيذ مضمونه، وطاعة الله تعالى والتقرب إليه مع المبادرة إلى ذلك قلبا وقالبا، علما وعملا… فمضمونها يتجلى في المعاني الخمسة الآتية:

1- هي استجابة صادقة مخلصة: مبتدؤها التوبة، قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِي يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّهِ﴾ (الشورى، 47)، يستجيب المؤمن وتستجيب المؤمنة دون تسويف، يقتلع جذور ذاته من أرض الخمول بالإقبال على الله واستدراك الفائت بالتوبة الصادقة المتجددة والإنابة واليقظة بعد لهَو وغفلة وفراغ، كل ذلك قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله تعالى.

2- هي استجابة هدى ورشاد: قال تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة، 186)، يسمع المؤمن النداء فيهب للاستجابة شوقا لله تعالى وسعيا إليه، فتحقق فيه الهداية إلى الخير والصلاح إصابة الصواب، وتتمثل فيه الاستقامة على الحق والهدى وحسن التدبير.. وتلك هي معاني الرشد في القرآن الكريم.

3- هي استجابة باعثة للحياة ومنهضة للهمم: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال، 24)، فهذا القرآن الكريم خطاب الله للأحياء، يدعوهم لما يحييهم ويبث فيهم الروح، يقول الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله: “والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمالُ من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخُلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع” (2)، بمعنى: القرآن يرسم لهم منهاج الحياة؛ إنها دعوةٌ إلى الحياة الفردية السعيدة الطيبة، ودعوة أيضا للحياة الجماعية الحرة الكريمة.

4- هي استجابة كلية وشاملة: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ (الشورى، 38-39)، استجابة تجمع أمر الدين والدنيا معا، يصفها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بالاستجابة الكاملة المتوكلة، يقول: “استجابوا لربهم -أي المؤمنون- استجابة كاملة متوكلة. فهم يعبدونه في الصلاة والزكاة فرضا، وفي فعل المعروف والأمر به واجتناب المنكر والنهي عنه ومنعه شرطا، وفي التطوُّع الإحساني وبذل الخير فضيلة ونفْلا. ما هم بالقاعدين الـمُخَلّفين السلبيين المتفرجين على ما يجري… لهم قضية مع الله، لهم حاجة إلى الله، فهم يرعون قضيتهم الأخروية بالجهاد الدائم، والاستجابة الكلية، والسعي الدائب لتكون كلمة الله هي العليا” (3).

5- هي استجابة صادقة ثمرتها ومنتهاها الحسنى وزيادة: قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ﴾ (الرعد، 18)، والحسنى في كتاب الله معناها الجنة ووعد الله بالمثوبة وحسن الجزاء، فالحسنى لمن أيقن وعمل لله تعالى، الحسنى للمستجيب لله الذي يجد معناه ومغناه ومجال إثبات قيمته في علاقته بربه، عبد سمع النداء فاستجاب، تُليت عليه آيات الله فسمع، بيَّن له رسول الله كيف يعبد ربه فاتبع. وبالمقابل يتحسر ويخسأ من أعرض عن النداء، قال تعالى ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ (إبراهيم، 44).

خلاصة القول: إن الاستجابة المطلوبة لله وللرسول تعني أخذ هذا القرآن بقوة، وتنفيذ ما فيه بهمة وصدق. الاستجابة المطلوبة لله ورسوله هي كُلٌّ لا يتجزأ في قلب المؤمن وعقله وحركته، تكتسي حياته كلها معاني الاستجابة لله، يستجيب قلبه فيشع صدقا وإيمانا، ثم يستقيم فكره على الحق، وتكون كل علاقة له بالكون فرعا عن علاقته بربه، وبالتالي تكتمل استجابته له فإذا هو حي القلب، ويكون التقرب إلى الله عز وجل دافعه الدائم، فإذا هو على معراج الإحسان.

• هذه الاستجابة يختزلها الإمام عبد السلام ياسين في قوله “هي الاستجابة المنجية، الـمُعزة، الـمُحِقَّة للحق، المبطلة للباطل” (4).

وهنا نتساءل: ما حظ الصحابيات من هذه الاستجابة الكاملة المتوكلة المنجية المعزة؟

ثالثا: صور استجابة الصحابيات للنداء الرباني

مع الجيل الباني والمؤسس لحضارة الإسلام أقف، لنستلهم من الصحابيات – النموذج الأمثل في الإيمان – الحياة الطيبة، نقرأ سيرهن على أنها دروسا تربوية تطبيقية من هدى الله وهدي رسوله، دروس تتحدانا وتعلمنا كيف نسلك إلى الله…

ترى كيف تفاعلت الصحابيات مع نداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ نقرأ ذلك في ثلاثة مشاهد:

المشهد الأول من الجهر بالدعوة: جمع رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقرباءه، وكانوا نحو أربعين شخصا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ قال: يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله” (5).

أعرض القرشيون وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعنت الرجال أصحاب العقول الراجحة، فكانت حصيلة ذلك المجلس إسلام امرأة، فقيل أول من أسلم عند الجهر بالدعوة صفية بنت عبد المطلب، وتبعتها فاطمة بنت أسد الأم الثانية للرسول صلى الله عليه وسلم.

استجابت سيدتنا صفية العمة الشريفة لنداء الإيمان وهجرت الكفر.. درس تربوي في الاستجابة الصادقة وإرادة الله والآخرة.

المشهد الثاني من حجرات النبي صلى الله عليه وسلم: روى الإمام مسلم “عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنت أَسمع النَّاس يَذْكرون الحوض، ولم أَسمع ذلكَ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كانَ يَوْمًا مِن ذلكَ، والجارية تَمْشُطُنِي، فَسَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، فَقُلتُ للجارية: اسْتَأْخري عني، قالَتْ: إنَّما دعا الرجال ولم يدع النِّسَاءَ، فَقُلتُ: إنِّي مِنَ النَّاسِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إنِّي لَكُمْ فَرَطٌ علَى الحَوْضِ…” (6).

خرجت أم المؤمنين أم سلمة مستجيبة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسارعة غير متباطئة، لا يؤخرها شغل ولا يحبسها حابس، خرجت راغبة في طلب العلم وموقنة بحق المرأة في الكمال العلمي، لتسمع من رسول الله مباشرة، لم تنتظر أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأل وهي زوج رسول الله، خرجت لإيمانها بدور النساء وبمسؤوليتهن في المشاركة في تعبئة الأمة ودعم البناء، لم يكنّ أبدا كماً مهملا على الهامش… درس تربوي لصانعات المستقبل.

المشهد الثالث من يوم العيد: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفِطر فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساءَ ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خُرصها وتلقي سِخابَها” (7)، والخُرْص حَلَقَةٌ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الفِضَّة، والسِّخابُ قلادة تُتّخَذُ من قرنفل وسُكٍّ وهو ضرب من الطيب، ومن محْلَب وهو نبات من فصيلة الورديات ويسمى الكرز الجبلي.

من شدة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالنساء والرفق بهن وهو ذو القلب الرحيم، يمر أولا على مصلى النساء ويتفقدهن ليعلم النساء أنهن ركيزة أساسية في التغيير وفي بناء حاضر ومستقبل الأمة، ومن شدة حبهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرن للاستجابة، بذلت كل منهن أغلى ما تملك وما كانت تتزين به يوم العيد؛ يوم الفرح والحبور، اقتحمن عقبة الشح والتعلق بزينة الدنيا وبادرن بالاستجابة لله ولرسوله دون تردد أو حتى استشارة الأزواج.. درس تربوي في المسارعة للخيرات والبذل في سبيل الله.

بعد هذه الجولة ماذا نستنتج؟

إن التحول القلبي والإرادي والسلوكي الذي حصل للصحابيات كان بفعل التربية النبوية وبفضل صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غرس في النساء كما الرجال علو الهمة وروح الاقتحام، فصارت إرادتهن جامعة بانية فاعلة مؤثرة، أحيت موات القلوب وهذبت الأخلاق، فاستقبلن نداء الله تعالى، كن رضي الله عنهن مسارعات مبادرات لاغتنام الخيرات، فبالاستجابة تعرفن الإسلام، وتعرفن الإيمان، وتعرفن الإحسان. ما الإسلام شيء بل حركة. ما الإيمان خفايا بل علاقة حية بين العبد وربه رحمة، وبينه وبين الكون حكمة. ما الإحسان سبح في عالم الروح، بل تحسين مستمر متصاعد للعمل الصالح.
ختاما أقول: إن حكمة التنزيل تنير الطريق أمام عملية التجديد، فما حظ النساء اليوم من إجابة النداء في بيئة هي أشد تعقيدا وأعظم ابتلاء من بيئة الصحابيات؟ وكيف تتدرب الإرادة وتتقوى لنغالب الهوى ونستجيب لله ورسوله استجابة كاملة متوكلة؟
والحمد لله رب العالمين.


(1) تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، دار ابن حزم، 1/374.
(2) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون، 10/313.
(3) الشورى والديمقراطية، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ص 16.
(4) الشورى والديمقراطية، مرجع سابق، ص 135.
(5) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، رقم الحديث 2602.
(6) صحيح مسلم، كِتَاب الْفَضَائِلِ، بَاب إِثْبَاتِ حَوْضِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، رقم الحديث 2295.
(7) صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب القَلائِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ، رقم الحديث 5881.