تعديل مدونة الأسرة في منظور جماعة العدل والإحسان.. محددات ومنطلقات ومرتكزات

Cover Image for تعديل مدونة الأسرة في منظور جماعة العدل والإحسان.. محددات ومنطلقات ومرتكزات
نشر بتاريخ

تهدف هذه المقالة إلى تقديم قراءة في رؤية جماعة العدل والإحسان لتعديل مدونة الأسرة بناء على الوثيقة التي أصدرتها الجماعة يوم الثلاثاء 21 نونبر 2023، تحت عنوان مدونة الأسرة منطلقات مؤسسة. وهي إذ تسعى إلى أن تضع القارئ في صلب الأفكار العامة التي تتقدم بها الجماعة في نظرتها لموضوع التعديل سياقات وتصورات ومآلات وتحليلات، فإنها تحاول من منظور تركيبي أن تعرض نظرة الجماعة تلك إلى هذا الموضوع المهم من زاوية المحددات الموجهة، والمنطلقات المؤسسة، والمرتكزات البانية، لنسجل في الأخير بعض الملاحظات حول الخصائص المميزة لطروحات الجماعة في المجال وخلاصاتها العامة لمنظورها لأي إصلاح ناجع لمدونة الأسرة.

أولا: المحددات الموجهة

تقوم هذه المحددات على أهمية الوعي بـ:

  1. معنى الأسرة كما تشكل في التاريخ البشري منذ النشأة الأولى، وتعدد الوظائف التي قامت بها في المجتمعات البشرية.
  2. البنية المعقدة للأسرة بفعل التطور الاجتماعي والقانوني والتداخل بين مختلف الأبعاد الاقتصادية والسياسية والمجتمعية.
  3. البعد القيمي في الصراع الدائر عالميا ومحليا حول الأسرة مما يفترض استحضار الوظائف الوجودية والأخلاقية والإنسانية للأسرة.
  4. المسؤولية التاريخية والاجتماعية الملقاة على عاتق المتصدين لمقاربة موضوع الإصلاح الأسري من حيث زاوية النظر، ومنهج التحليل، ومآلات الاقتراح.
  5. أهمية موقعة وموضعة الإصلاح الحقيقي لمدونة الأسرة ضمن رؤية جامعة، ومقاربة شاملة، ومنهج متكامل لإصلاح النسق العام للمجتمع المغربي بمختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتشريعية.
  6. السيرورة التاريخية لنشأة مدونة الأسرة في المغرب، ومسار التعديلات المتعددة والمختلفة التي طرأت عليها على المستوى الدولي والخلفيات الموجهة، وعلى المستوى الوطني ونوع التعديلات المحدثة، وعلى مستوى طبيعة تدخلات ومنهج التناول من جانب السلطة السياسية الحاكمة.
  7. بضرورة نقد التفاعلات المتشابهة والمتداخلة بين ضغط الديناميات الدولية في السياقات العالمية، وبين تحولات السياقات الوطنية التي فرضت لدواع سياسية واجتماعية وقانونية المطالبة بتعديل مدونة الأسرة.
  8. حتمية استحضار مبدأ المواءمة بين ما تفرضه تحولات الواقع الذي لا يرتفع ومقاصد الشريعة في حفظ الهوية الجامعة للحمة المجتمع المغربي.

ثانيا: المنطلقات المؤسسة

تعتمد هذه المنطلقات على رؤية تصورية تحليلية تؤمن بالاختلاف الكوني والبعد الرسالي في التدافع، وبضرورة التجسير والتحاور بين الفرقاء، وتعي التمايزات بين لغة الوحي ولغة المعرفة البشرية، وتتمسك بالإسلام مرجعية ومصدرا للتفكير. وباعتماد مطالب الوضوح والجرأة والمسؤولية مع تجاوز لمنطق الانغلاق والتعصب والإقصاء، تؤسس جماعة العدل والإحسان رؤيتها لأي إصلاح لمدونة الأسرة على ثلاثة منطلقات:

1. المرجعية الاسلامية: باعتبارها القاسم المشترك والمصدرية المرجعية وثابت المتغيرات ومعيار الأحكام عند اختلاف الآراء، من هنا التأكيد على سمو المرجعية الإسلامية على غيرها كما ينص على ذلك الدستور المغربي، لكن بفهم يعتمد:

  • بعد الهداية لرسالة الإسلام في بناء الإنسان والعمران.
  • الالتزام بقطعيات الدين والاجتهاد في تحقيق الأبعاد المقاصدية والمصلحية للشرع الإسلامي.
  • ضرورة استكمل الشروط المختلفة للاجتهاد، وتحديد الجهة المخول لها الاجتهاد، وضبط منهجية وقواعده الاجتهاد.
  • تجاوز زاوية التقنين التشريعي الجنائي إلى رؤية أوسع تفهم الإسلام منظومة حياة إنسانية مجتمعية شاملة ومتكاملة كما ترجمتها التجربة النبوية والخلافة الراشدية. وهي الرؤية التي تقوم ويجب أن تقوم على الكرامة الإنسانية، والشورى في الحكم، والعدالة الاجتماعية، والنزاهة والاستقلالية في القضاء العادل، وعلى التربية المجتمعية، وكذا على الاستهداء بالتجربة الإنسانية والانفتاح على الحكمة البشرية من دون ارتهان لاستبداد تاريخي أو إملاء أجنبي أو احتباس فقهي أو انحسار اجتهادي.

2. نقد مفهوم الحداثة بصفة عامة بما هو مفهوم مستعص على التحديد، متعدد الدلالات بتعدد الحقول المعرفية والتوجهات الفكرية، وبصفة خاصة نقد التوجه الحداثي القائم على الإقصاء التام للدين، والهدم الكلي للتراث، والانصهار في التغريب، واعتماد العقل مرجعا وحيدا لكل معرفة وتحليل. بينما الرؤية السليمة تفرض:

  • تجاوز معيار الزمن في تحديد البعد الفكري والقيمي والإجرائي التحليلي لمعنى الحداثة وتطبيقاتها المتعددة في مختلف المجالات.
  • اعتماد مقتضيات الموضوعية والحيادية العلمية في تناول الإشكالات المعروضة بعيدا عن مسبقات الأحكام، وعثرات استخلاص النتائج، واختلالات بناء الخلاصات والمواقف.
  • القطع مع النظرة الإسقاطية الواردة من قراءة تاريخية غير واعية، واستنساخ منحرف لتجربة الدين في الغرب وتنزيلها على موقع الدين في المجتمعات المسلمة، وما يتولد عن ذلك من اعتماد نزعة صدامية مع الدين لبلوغ الحداثة، وتبني نهج هدمي للبنى والأنظمة القائمة، وفرض رؤية لائكية علمانية فاصلة بين الدين والحياة العامة في مجتمع مسلم، وتغييب للغاية الدينية والبعد الأخلاقي في التنظيم البشري.
  • التمييز بين التصور اللائكي المعلمن الصادر عن العقلانية باعتبارها مذهبية وعقيدة فلسفية وبين العقلانية التدبيرية المنهجية التنظيمية التي تتميز بها الحداثة باعتبارها تطورا وتحديثا وحكمة بشرية.

3. نقد مفهوم المساواة كما تراه المنظمات الدولية، والتي تبنيه على معنى الجندرية، والمساواة الكلية التي تعني التماثل في كل شيء، وهو المعنى الذي تتخذه الحركات النسوية في المغرب وعليه بنت طروحاتها في الدعوة إلى تجاوز المرجعية الإسلامية في الأحوال الشخصية باعتبارها تشريعات ظالمة حاطة من مكانة المرأة ومتجاوزة في الزمن والمكان. ومع نقد هذا المفهوم نقد التوجه الفكري والحراك السياسي الذي يتمترس خلف وضعية المرأة وتحقيق كرامتها فيضرب الدين ويهدم الدين من دون القدرة على مجابهة حقيقة المسؤول عن وضع المرأة كما للرجل، ويرفع مطالب شاذة ومتطرفة عن الطبيعة البشرية والعرف الإنساني والحقائق العقلية، ويركز على بناء العلاقة بين الرجل والمرأة على الندية والصراع، ويدعو إلى رفض الزواج والأسرة والأمومة والإنجاب وإباحة الإجهاض والعلاقات المسماة رضائية والشذوذ والحرية الجنسية.

وعوض هذا تدعو جماعة العدل والإحسان إلى إعمال مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة اعتمادا على أن الإسلام دين الفطرة؛ يفرض التساوي التشريعي بين المسلمين حيث تشهد الفطرة بالتساوي، ويفرض المساواة المناسبة والمتناسبة مع طبيعة كل نوع وخصائصه ووظائفه، من دون خلط في الوظائف، ولا انتهاج لرد فعل متعسف ومتطرف بسبب وضعية الظلم العامة النازلة بالمرأة في المجتمعات المسلمة والتي لم يكن الإسلام مسؤولا عنها على أية حال.

ثالثا: المرتكزات البانية

تنقلنا هذه المرتكزات البانية إلى الحديث عن الشروط اللازمة للتأسيس لتعديل ناجح لمدونة الأسرة، وهي تنطلق من تجاوز المقاربة التقنينية، وتغييب الجوانب الثقافية والقيمية، التي تختزل على نحو تسطيحي مشاكل المرأة والأسرة في إجراءات تشريعية ومساطر تطبيقية دون القدرة على مقاربة الورش من وجهة تستحضر الوضع العام لبنية الدولة والمجتمع على كافة الأصعدة. من هنا تقدم الجماعة جملة شروط في المجالات الأربعة التالية:

1. المجال السياسي: وفيه تؤكد الجماعة مسؤولية الدولة، وعدم إعفاء النظام السياسي من تحمل تبعات إخفاقاته في ضمان البنية العدلية اللازمة لتحقيق أي إصلاح ناجح. وتقترح هنا ما يلي:

  • الحاجة إلى نظام سياسي ديموقراطي.
  • الحق في الولوج إلى المعلومة بكل حرية.
  • فتح النقاش المجتمعي القائم على حرية النقد والاقتراح.
  • توفير العدالة الاجتماعية المبنية على كرامة المواطنين، والحق في التوزيع العادل للثروات.

2. المجال التعليمي المبني على الإصلاح العميق للمنظومة التربوي التعليمية، عبر تفعيل:

  • الوظيفة التربوي للمدرسة للتشبع بالقيم المؤهلة لحفظ الفطرة وعمران الأرض.
  • الوظيفة المعرفية التعليمية المؤسسة للوعي بمعنى الأسرة ومكوناتها ووظائفها، وأدوار كل فرد من مكوناتها، على أساس من توازن الحقوق والواجبات، وتكامل الوظائف والاختصاصات، وضرورة الاحترام والتقدير في التعامل والعلاقات.
  • الوظيفة الأخلاقية السلوكية التي تربي على سلوكيات التطاوع والتكارم عوض التصادع والتصادم.

3. مجال الاجتهاد، بالاعتماد على:

  • تجديد الخطاب الديني وفق المقاصد والكليات الكبرى للدين الإسلامي.
  • الجمع بين التأصيل المنطلق من الثابت القطعي، وبين الانفتاح على الاجتهاد في المستجدات النازلة.
  • التأسيس لاجتهاد جماعي في إطار مؤسسي ناظم يضمن تضافر الجهود كل التخصصات المعرفية والعلمية والدينية لبناء أحكام تقدم حلولا للمعضلات المعاصرة في مجال الأسرة.

4. مجال القضاء الأسري عبر حل اختلالات القضاء على مستوى قلة الموارد البشرية، وندرة التخصصات المناسبة، وبيروقراطية المساطر والإجراءات، وعدم إعمال المحاسبة، وذلك لن يتأتى بغير مراعاة العناصر التالية:

  • التأهيل للإدارة والقضاء عموما، وللقضاء الأسري خصوصا.
  • توفير الإمكانات المناسبة على مستوى البنية المادية والبشرية.
  • التنسيق بين كافة المتدخلين.
  • مأسسة الوساطة الأسرية، أكاديميا ومهنيا.
  • الاعتناء بالوضع المادي العام لرجال العدالة.

5. مجال الإعلام باعتباره من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبالنظر إلى تأثيراته المتعددة، وذلك من خلال:

  • بناء سياسة إعلامية خادمة للوظيفة الرسالية للإعلام المعززة للقيم والهوية.
  • تغيير الصورة السلبية المقدمة في البرامج عن الأسرة والعلاقات الأسرية.
  • الإسهام في التنشئة الأخلاقية والتربوية الى جانب المؤسسات التربوية الأخرى.
  • ترسيخ أهمية الأسرة في الوعي العام داخل المجتمع من خلال تعزيز نقل وتقديم النماذج الأسرية الإيجابية عوض التركيز على الأنماط السلبية المشينة.

رابعا: ملاحظات وخلاصات

 لعل أهم ما تنبهت له جماعة العدل والإحسان في تناولها لموضوع مدونة الأسرة هو عدم نضج السياق السياسي العام الوطني، وغياب الشروط الموضوعية الضرورية لتناول موضوع التعديل الأسري. وهو ما يكشف وجود مكر سياسي واختلال وخداع في طرح الموضوع في ظل ظروف واقع المغرب الآن لتمرير ما يمكن أن يخدم أجندة لن تكون وطنية كيف ما كان الحال.

أما تصور جماعة العدل والإحسان لتعديل مدونة الأسرة فيتميز بخصائص منسجمة ومتكاملة تشمل الرؤية، والمنهج، والموقف؛ فعلى مستوى الرؤية نجد خاصية الوعي المعرفي العلمي الناضج بخطورة موضوع الأسرة وحيويته ومصيريته، وبضغط السياقات الدولية والوطنية وتفاعلات قوى التدافع والممانعة، وبالخلفيات المرجعية الموجهة، ومركزية الصراع القيمي فيها. ثم خاصية الوضوح في طرح مسؤولية الدولة، وطرح مسؤولية النخب والحركات النسوية، ومركزية مسؤولية العلماء والفقهاء، والانطلاق والتمسك بالمرجعية الإسلامية والاجتهاد المقاصدي المصلحي. وعلى مستوى المنهج نجد خاصية الشمولية بتجاوز النظرة التسطيحية والنظرة التقنينية، وكذا عدم الإغراق في التفاصيل الجزئية، ثم الإجرائية بعرض المداخل الكبرى للإصلاح. أما على مستوى الموقف فنجد خاصية النقدية ابتداء بنقد السياقات والمفاهيم والمصطلحات، وانتهاء بنقد الخلفيات والمرجعيات، مرورا بنقد المسارات والسياسات، ثم خاصية البنائية التي تسهم في عرض المقترحات وتقديم البدائل من منظور حواري تعاوني، عوض الاقتصار على النقد المجانب للصواب.

بناء على هذه الملاحظات نجد أن الخلاصة العامة لموقف الجماعة يظهر في أن أي مقاربة لإصلاح مدونة الأسرة بما هي ورش حيوي ومصيري، لا بد أن يتأطر بالمرجعية الإسلامية بناء على اجتهاد جماعي منفتح وفق مقاصد الشريعة وكلياتها المعتبرة، وأن يراعي شروطا حاسمة تمس ثلاثية السياق والمسؤولية والبعد التربوي القيمي، وهو ما يقتضي:

  • اختيار الزمن والسياق المناسبين لتوفير شروط النقاش المجتمعي الرصين والتعبئة المناسبة بناء على البحث العلمي الموضوعي لا التوجيه السياسي الماكر؛
  • اعتماد إصلاح جوهري للفساد العام لبنية النظام السياسي بالمغرب.
  • تحمل العلماء لمسؤوليتهم الشرعية في الصدع بالحق.
  • استحضار البعد التربوي القيمي الأخلاقي عوض مركزة النهج التقنيني التشريعي لوحده.

والحمد لله.