اَلْجارُ جارٌ ولوْ جارَ

Cover Image for اَلْجارُ جارٌ ولوْ جارَ
نشر بتاريخ

سعيا لبناء عمران أخوي تتفيأ الإنسانية ظلاله فـي إطار المشترك البشري مهما كانت الاختلافات العقدية والعرقية، أولـى الإسلام للجيرة اهتماما خاصا، فجعل لها حقوقا وواجبات، بل وربط هذه الأخيرة بالإيمان، إذ اعتبرها تجليا من تجليات صحة الإيمان، وفـي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره”، وقوله صلى الله عليه وسلم من صحيح البخاري: “واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤمنُ. قيلَ: ومَن يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائقَهُ”. تحذير مقرون بالقسَم بالله ثلاثا من إذاية الجار والإضرار به عِرضا ومالا وولدا، تؤكد مركزية الجيرة فـي منظومة القيم الإسلامية تجسدها الأقوال والأمثال الشعبية فـي مجتمعاتنا العربية باعتبارها مرآةً تختزل الوعـي الجمعـي المتوارث عبر الأجيال، نقف منها علـى نموذجين:

1. اَلْجارُ جارٌ ولوْ جارَ:

بتعبير آخر: يبقـى الجار جارا ولو أساء، أي أن سلوك الجار غير القويم من خلال ما بدر منه أو من زوجه أو ولده من أذى وإزعاج لا يُسقط حقوقه أو يُلغيها، فحقوقه مكفولة وتحمّل أذاه واجب اعتبارا لقداسة الجيرة فـي الإسلام الذي تفرض الصبر علـى أذى الجيران وتحمل ما يصدر عنهم، عسـى أن تتوطد أواصر المحبة والاحترام، ويكون ذلك سببا فـي الاهتداء إلـى السلوك القويم. ولنا فـي صبر رسول الله صلـى الله عليه وسلم علـى قومه وتحمله لأذاهم القدوة الحسنة، طمعا فـي هدايتهم أو فـي أن يُخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ويعبده؛ تحمّلٌ واحتسابٌ يُحيل علـى التوجيه القرآنـي في سورة لقمان فـي حسن معاملة الوالدين والبر بهما علـى الرغم من  شركهما بالله، يقول عز سلطانه: وَإِن جاهداك علـى أَن تُشْرِكَ بـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِـى الدنيا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ.  

2. “تـمـنـّى الـخـيـر لجـارك تـشُوفُو فـي دارك”:

هذا القول الشعبـي يتقاطع وبشكل واضح مع أصل من أصول ديننا الحنيف من خلال الحديث النبوي المشهور: “لا يؤمن أحدكم حتـى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”، يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ”. وإذا كان حب الخير للأخ المسلم من مقتضيات تحقق الإيمان الكامل، فيرضـى لنفسه ما يرضاه للناس دليلا وبرهانا علـى سلامة القلب من آفتـيْ الغل والحسد، وحيث إن الجار من أقرب الناس مشاركة فـي الأقراح قبل الأفراح، كان من سمو الخلق ونبلها حب الخير للجار، عافية واستقرارا أسريا وتفوقا دراسيا ومهْنيا للأولاد؛ حب خير عام وشامل للجار سيكون جزاؤه كما فـي عاقبة دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب. عَن أَبـي الدَّردَاءِ رضـي الله عنه أَنَّهُ سمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُول: “مَا مِن عبْدٍ مُسْلِمٍ يَدعُو لأَخِيهِ بِظَهرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلكُ: ولَكَ بمِثْلٍ”.

أحبَّ الخير لجارك تجدْه في دارك، كل الخير، ومن يبخل علـى حب الخير لجيرانه، فإنما يبخل عن نفسه، قاعدة سلوكية راقية يدعو لها المثل أو القول الشعبـي فـي إشارة إلى تشبع ثقافتنا الشعبية بمبادئ ديننا الحنيف تربية للنفوس، وحفاظا علـى الفطرة السليمة من أي طمس يرسخ الأنانية والبغض في القلوب فتتسمم البيئة الاجتماعية، وتتوتر العلاقات، وتغيب معانـي التراحم والتضامن والتكافل في استهداف بشع لإنسانية الإنسان.

“الجار جار ولو جار”، و”تمنى الخير لجارك تشوفو فـي دارك”، دعوة لمراجعة محددات علاقتنا مع جيراننا فتحا لباب عظيم وتجارة رابحة مع الله تعالـى تصنف صاحبها مع من يحبهم الله من المحسنين علـى قاعدة التحمل للأذى والإزعاج وكظم الغيظ مع صالح الدعاء للجيران، يقول جل جلاله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فـِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

 إنهم جيراننا يتيحون لنا فرصة – من حيث لا يدرون – للفوز بالرضا والرضوان، فهلّا صبرنا وصابرنا وتحملنا؟