العدل والإحسان وخطوط الهندسة السياسية الخفية

Cover Image for العدل والإحسان وخطوط الهندسة السياسية الخفية
نشر بتاريخ

يبدو أن الخط الأحمر المخزني الذي رسمه بنموسى أيام استوزاره في الداخلية، والمفصح بعبارته الشهيرة، عن أنه لا يمكن تجاوز “المستوى المحدد” لوتيرة الحركة “المقبولة واقعيا” في دهاليز الهندسة السياسية للنظام المخزني المرسومة للتعاطي مع جماعة العدل والإحسان، قد تمت زحزحته إلى مستوى آخر، يتجلّى أساسا في التوجّس من الإشعاع الخارجي والصورة الناضجة المتزنة للجماعة في ذكرى تأسيسها الأربعين.

كان الخط الأول، إفصاحا عن منطق اشتغال آليات الضبط السياسي المخزني، الذي تجلّى في الحد من الانتشار، والسعي إلى التحجيم، والرهان على الحصار بوصفه آلية لتحقيق الانحسار والتقوقع المفضي إلى التآكل الداخلي. وهو الأمر الذي ترجمته الرغبة المحمومة في حرمان الجماعة، رغم قانونيتها، من الفضاء العمومي، عبر منع تأسيس الجمعيات وتجديد مكاتبها، ومنع “تسرّب” أي عضو إلى مكتب ما، ولو كان جمعية آباء وأولياء المدرسة التي يدرس بها أبناؤه، وصولا إلى ضرب الحصار المطبق على خروج رموز الجماعة وأعضائها، عبر منعهم من مختلف المنابر والفعاليات الرسمية وغيرها. فالأمر كان يستهدف تحقيق الانكفاء والانغلاق والعزلة بشكل أساسي.

ويبدو أن سنة التدافع، ورسوخ الجماعة في الميدان، وقدرتها على توظيف الحصار، وتحويله إلى فرص، قد مكّنها من بناء وسائل بديلة للعمل، وفتح لها آفاقا فرضت فيها معادلات جديدة، بدا خلالها المخزن مرتبكا إزاءها، خاصة إبان اتهامها عند كل حراك واحتجاج بأنها المحرك الخفي، والحامل الميداني لكل صمود. غير أن الفشل الاقتصادي والاجتماعي الذريع للنظام، لم يخدم توجهه وغرضه من تلك الاتهامات، خاصة مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، وانتشارها جغرافيا وقطاعيا وزمانيا.

فهل جاءت الفرصة لكي يعلن المخزن عن محدّداته الجديدة و”سقف” تقبُّله لحركة الجماعة، أم أن ملف العدل الإحسان سيظل ملفا شائكا، يخبط فيه المخزن خبط عشواء، ولا يدري ما يفعله إزاء تنظيم سلمي قانوني معارض، منسجم مع هوية المغاربة، وحامل لهمومهم، ومنحاز لهم، في غير ادعاء ولا أستاذية؟

الوقوف عند هذه المسألة يتطلّب النظر في احتمالات ثلاث:

–  أن يكون التصعيد المخزني الخطير في ملف الدكتور محمد باعسو، نتيجة خطة مركزية مدروسة، وأهدافها محدّدة بدقة، سواء بنية تطويع الجماعة لتخفّض من سقفها السياسي، أو في أفق امتلاك وسائل الضغط تحسّبا لأي منعطف يفرضه منطق التاريخ.

–  أن يكون الملف نتيجة مقاربة متسرعة وخاطئة لجهات معينة ستورّط النظام ككل معها في ملف غير معروفة تداعياته الحقوقية والقانونية والسياسية. وقد تستهدف الخطوة برمّتها، استدامة التوتّر، وتغييب المنطق الأمني وتسييد الهاجس الاستخباراتي في الساحة السياسية، وهو الهاجس الذي لا يرتاح لأي صوت يهمس بالديموقراطية أو ينادي بالحرية والتعددية، وهو منطق بالتأكيد يخفي وراءه لعبة مصالح كبرى، وطموحات، واستباق لتحصين مواقع ومكاسب.

–  أن يكون الأمر فعلا، منطق اشتغال مترسّخ، تشتغل خلاله الأجهزة السلطوية بالمنطق الطبيعي لـ”حرفتها”، وبالتالي، نفهم من التفويض لهذا الخيار، تفويض تدبير ملفات حساسة واستراتيجية، للعقل الأمني وحده، في غياب رؤية سياسية، ونظر استراتيجي تتيه الدول في غيابه وتدخل دوامات يصعب الخروج منها. وهو رهان من ينزعج من أي تحرك في اتجاه إسماع صوت الشعب، أو الحديث عن ترسيخ حقوقه المشروعة.

إن رسالة احتفال جماعة العدل والإحسان بذكراها الأربعين، بإخراجها الرصين، واتزانها، وهدوئها، وكلمة أمينها العام الأستاذ محمد عبادي، المترجمة إلى خمس لغات أساسية في العالم، يمكن قراءتها على أنها تخطٍّ للسياج المخزني الراغب في كتم صوت الجماعة وخنق صداها، خاصة في ظل محيط إقليمي ودولي متابع بشكل دقيق لما يجري في المغرب، ودارس للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمرّ منها، ولذلك، يمكن فهم رسالة تهمة “الاتجار بالبشر” من الزاوية السياسية، على أنها، رد فعل غاضب، عن تجاوز “المحددات الجديدة”، والتي يُفهم على أنها صارت هي: “عدم السماح بالصدى الإيجابي، وخطورة استمرار هيمنة الصورة الطاهرة للجماعة”.

ومن هنا، يظهر أن المسألة برمّتها ليست سوى إعلان صريح للفشل، رغم السنوات الطويلة للتشويه والتشويش، في التأثير على صورة الجماعة الصامدة على مبادئها، المتزنة في فعلها، الراشدة في دعوتها وسلوكها، وليست سوى حنق عارٍ مستاء من احتفاظ الجماعة بصفاء شعاراتها ووضوح مسارها كل هذه السنوات، بشكل يجعلها فعلا، لمن يفكّر وينصف، ملاذا أخلاقيا وسياسيا، في زمن عَمّـتْ فيه نُذُرُ طوفان الفساد والانحلال والتفاهة وسادت لغة التيه واليأس والتخبّط والعنف.