الشخصية الإحسانية وأهميتها الدعوية

Cover Image for الشخصية الإحسانية وأهميتها الدعوية
نشر بتاريخ

مقدمة

في حياتنا الطبيعية الاعتيادية عندما يلتجئ أحدنا إلى المستشفى وهو مريض فيعلم بوجود الطبيب ترتفع معنوياته حتى وإن لم يكن ذلك الطبيب هو من يباشره بالعلاج، بينما عندما يعلم المريض بغياب الطبيب يصاب بالإحباط وتنخفض معنوياته حتى وإن وُجد هناك من ينوب عنه. ومن الأطباء أيضا من يقصده الناس دون غيره لما يجدون عنده من خصال تدفعهم إلى ذلك، حتى وإن كان بعيدا أو تكلفة العلاج لديه غالية أو يصعب إيجاد المكان بين كثرة الوافدين عليه. هذا الأمر ينطبق على الشخصية الإحسانية. فإذا كان هناك مجلس تُشرف على تأطيره الشخصية الإحسانية أو فقط تتشرّف بحضورها فيه، فإن كل من حضر من مسافات قريبة أو بعيدة يحسّ بارتفاع إيمانه وتحسُّن حاله وتنوّر قلبه.

هذا التأثير الإيجابي لدى الطبيب على نفسيات المرضى وما يحدثه من الجاذبية لقصد عيادته، هو نفس التأثير ونفس الجاذبية من منظور ما لدى الشخصية الإحسانية على قلوب الناس وأحوالهم. فإذا كان الطبيب له من الخصائص ما يؤهله لذلك في المجال الصحي، فإن للشخصية الإحسانية من الخصائص ما يؤهلها أيضا في المجال التربوي والدعوي والجهادي. وقد كان ذلك التأثير وتلك الجاذبية في حياة الأنبياء والرسل غليهم السلام أمرا جليا وخاصية مصاحبة لهم في دعوتهم، وهو ما كان يُطلِق عليه الكفارُ والمشركون “سحرا”. يقول الله تعالى: وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين 1 . ويقول أيضا سبحانه: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إنّ هذا لسِحر مُبين 2 .

لقد عشنا بفضل الله وكرمه ورأينا أمثال هذه الشخصيات الإحسانية بين المؤمنين، والتي كتب الله لها القَبول في الأرض، بمجرّد أن تجلس معها وتنظر إليها وتسمع لها تُحسّ بحال أفضل، وبحوافز للعمل أكثر، وبنشاط لا يوصف، وبمحبة تغمرُ الأرواح، وبسكينة تتنزل على القلوب، وبرحمة تغشى الحاضرين.

الشخصية الإحسانية

إن الهدف من وراء التربية الإحسانية التي بسط معالمها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه في كتبه وخاصة كتاب الإحسان هو الوصول إلى تحقيق هذه الشخصية الإحسانية الرفيعة المستوى، التي بتعدد نماذجها في الواقع، وبوجودها في كل مكان شاهدة بالقسط وحاضرة بالحق يصلح المجتمع ويتغير وتعود له هويته الإحسانية الضائعة والغائبة عبر التاريخ.

ومن خصال هذه الشخصية الإحسانية التي يتمّ اكتسابها بتعرضّها للتربية الإحسانية:

1- الصدق: فهي شخصية صادقة في نيتها، صادقة في إخلاصها للعمل، صادقة في طلبها وجه الله تعالى، صادقة في هجرتها ونصرتها وجهادها، صادقة مع ربها ومع نفسها ومع الناس. والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون 3 .

2- الصحبة والجماعة: فهي تَحْيَى مقام الصحبة عن صدق ومحبة، وتعلم حق الصحبة وتؤديه عن وفاء وعهد، وجودها في الجماعة كوجود الحوت في البحر، الجماعة بالنسبة لها مسألة حياة أو موت.

3- الذكر: فهي ذاكرة لله تعالى على كل حال، ذاكرة لله عند أمره ونهيه، ذاكرة لله في قلبها وعلى لسانها وبجوارحها، ذاكرة لله في النفس وفي الملأ، ذاكرة لله في جميع العبادات والطاعات، والمواقف والعقبات.

ثم هذه الخصال الثلاثة حين ترسخت فكرا وشعورا وسلوكا أثمرت عندها خصالا أخرى عملُها محبوب لدى ربها، وهي خصال البذل والعلم والعمل والسمت الحسن والتؤدة والاقتصاد والجهاد. حتى أصبحت بهذه الخصال العشر مجتمعة وبما يتفرع عنها من شعب إيمانية شخصية من أرقى الشخصيات المنهاجية. ودور هذه الشخصية الإحسانية في مجال الدعوة والتواصل مع الناس كبير جدا، إذْ أنها تترقى بالمسلم من إسلامه الظاهر إلى درجة الإيمان وحلاوته، ومن الإيمان إلى درجة الإحسان ومقاماته.

خصائصها

كلما كانت الشخصية الإحسانية أرقى الشخصيات المنهاجية على مستوى التحقق بالخصال العشر وشعب الإيمان في بعدها الإحساني كان الإشعاع النوراني الذي تحدثه من حولها خاصة وفي المجتمع عامة ذا أثر بالغ في هداية الناس وتحسّن أحوالهم. وهذا الإشعاع النوراني الذي يصدر عن هذه الشخصية الإحسانية يمكن رصده في خاصيتين اثنتين هما: التأثير والجاذبية.

– خاصية التأثيـر

يقول الله تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها 4 ، فذلك النور الذي يحمله صاحب الشخصية الإحسانية في قلبه به يؤثر في قلوب الناس فيتحولون أو يرتقون من حال إلى حال، وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام المحسنين خير دليل على هذا، إذ كان يأتيه الأعرابي بحال كله ظلمة ويرجع بحال كله هداية وإيمان ونور. ويأتيه الكافر أو المشرك وهو عازم على قتله وإلحاق الأذى به فإذا به لمجرد رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم وسماع كلامه يتحول من عدو لدود إلى محبّ وَدود يفديه بأبيه وأمّه. فيقول الكفار عن هذا الذي تحول من الكفر إلى الإسلام ومن الشرك إلى الإيمان: “إنه قد سحره محمد”. ونقول: بل قد نوّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور الإيمان وجمّله بجمال الإسلام.

بهذا التأثير النوراني للشخصيات الإحسانية نجحت الدعوة النبوية وتوسعت وتمكنت من قلوب الناس فاهتدت وأسلمت وجاهدت وبذلت واستشهدت في سبيل الله تعالى وانتصرت.

قد نكسب من فقه الدعوة حظا وافرا، من حيث الطرق والأساليب والوسائل وغيره، لكن هذا لا يدفع بالدعوة إلى الأمام كما يدفع وجود هذه النماذج من الشخصيات الإحسانية ذات التأثير الكبير والجاذبية العالية والتي تقدم نفسها للناس أحوالا تشع روحانية ونورانية. والفارق أن الشخصيات الأخرى التي دونها تأثيرها فردي، بمعنى أنها تؤثر في فرد أو فردين أو أكثر بقليل ممن هم أصدقاء أو معارف أو أقارب. ويطلق على هذا الـتأثير بـ”التأثير الخطي”، أي أن دعوتها لا تتخطى أفرادا قريبين على شكل خط، بينما الشخصية الإحسانية تأثيرها جماعي، بمعنى أنها تؤثر في جماعة من الأفراد، تؤثر في محيط عملها، في حيّ سكناها، في مدينتها. ومن الشخصيات الإحسانية من يصل تأثيرها إلى أبعد ما يتصور الإنسان، يصل كل البلد وحتى العالم كله، فتصبح بهذا التأثير العالمي “مدرسة عالمية” تستفيد منها الأجيال التي عاصرته والتي تأتي بعده. ويطلق على هذا التأثير بـ”التأثير المجالي أو الدائري”. أي دعوتها تغطي المجال المحيط بها ثم يتسع مع الوقت ليشمل دائرة العالم.

– خاصية الجاذبية

تلك النورانية التي يحملها صاحب الشخصية الإحسانية كما تحدث في الناس تأثيرا إيجابيا يدفعهم إلى تغيير ما بهم من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، كذلك تمتلك جاذبية تستطيع من خلالها أن تجذب الناس إليها وتجمعهم من حولها فيُكنّون لها كل المحبة والتقدير والاحترام. كان في العهد النبوي من الصحابة قبل إسلامه من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينه من المسافة مسيرة أيام وشهور، فيحن إلى رؤيته لما يجد في قلبه من جاذبية نحوه وشوق إلى لقائه، ونجد من الأمثلة على ذلك في السيرة الكثير، منها قصتا سيدنا سلمان الفارسي، وسيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، لقد تخطّيا كل الصعاب من أجل لقاء هذا الرجل الذي سمعا أنه بُعث في مكة.

أذكر في أحد المجالس كان من توجيهات الأستاذ محمد عبادي وهو يتحدث عن الدعوة، قال: إن الإحسان إذا تمكن من قلب المؤمن يتحول إلى مغناطيس يجذب إليه الناس بالحال قبل المقال، وهذا ما نحتاج إليه في دعوة العدل والإحسان).

ويلخص خاصيتي التأثير والجاذبية قول الإمام المجدد رحمه الله: لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم معجزات لا تكاد تحصى، وأكبرها هذا القرآن المعجز وهذه الشخصية المتّزنة الجاذبة، وهذه الطاقة الخفية التي تفعل فعلها في القلوب وسماها الكفرة في كل زمان ومكان سحرا وجنونا.)كذلك، ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به، بل هم قوم طاغون 5 .) 6 .

فإذا أدركنا أهمية وجود هذه الشخصيات الإحسانية في مجال الدعوة بما تحققه من نتائج دعوية عالية وفي وقت قليل، أدركنا أن العمل على إيجادها وتكوينها بالتربية الإحسانية عمل ذو أولوية في التغيير والبناء. خاصة أن الأعداء بما يملكون من قوة التأثير والجاذبية من خلال الوسائل المادية والتي يستهوي بريقُها عقولَ الناس ونفوسهم داخل بيوتهم وخارجها لا يمكن أن تقاوم وتواجه إلا بقوة تعادلها أو تفوقها. ولا تكون هذه القوة إلا قوة الشخصية الإحسانية المتزنة والجاذبة، والتي عبر عنها سبحانه وتعالى بالنور الذي يمشي به في الناس. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم، والله غفور رحيم 7 . فإذاً بوجود النورانية المُستمدّة من مصادرها ومنابعها وهي وسيلة معنوية، والتي ترتبط بالوسيلة المادية وهي المشي بين الناس كما يحكي القرآن عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يمشي في الأسواق، بهاتين الوسيلتين يكون التأثير والجاذبية وتؤتي الدعوة ثمارها.

خاتمـة

إن لِمَا يجده الناس عند وجود هذه الشخصية بينهم من إحساس بالسلام والهدوء والأمن والراحة والثقة فإنهم لا يترددون في صحبتها والكينونة مع أمثالها. وكلما ازدادت هذه النورانية لقوة اتصال المؤمن المحسن بمصادرها ومنابعها كلما اكتشف قدرته على التأثير والجاذبية، واكتشف أيضا ظهور تلك النورانية التي يتمتع بها في الآخرين. وفي تلك اللحظة التي يصبح للشخصية الإحسانية أتباع ومعارف يلتفون حولها صحبة وتعاطفا واحتراما وتقديرا تتحول من الشخصية الدعوية إلى الشخصية القيادية. وبذلك تنضاف لها خصائص أخرى لها علاقة بالقيادة إلى جانب خاصيتي الـتأثير والجاذبية. أما أن نتحدث عن شخصية بأنها قيادية وهي ليس لها أتباع في حيّها وفي مسجدها وفي قريتها وفي مدينتها تلتقي بهم محبة في الله وتعاونا على البرّ والتقوى فهذا غير موجود في قاموس القيادة.


[1] سبأ: 43.\
[2] يونس: 2.\
[3] الزمر: 33.\
[4] الأنعام: 122.\
[5] الذاريات: 53.\
[6] ياسين، عبد السلام، “الإسلام بين الدعوة والدولة”، ص: 341.\
[7] الحديد: 27.\