السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (5/5)

Cover Image for السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (5/5)
نشر بتاريخ

ثالثا: حديث الضّلع الأعوج

أخرج البخاري عن «أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا” 1.

يُفَسِّرُ ظاهر الحديث مجمل القرآن، حيث قال الله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا. الأعراف 189، بَيَّن أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم، غير أنّ بعض العلماء فهموا الحديث فهما حرفيّا سطحيّا، فالمرأة عوجاء مطلق الاعوجاج في أصل خلقتها وطبعها، والرّجل هو الاستقامة. وكأنّ رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم لا يفهم حديثه إلاّ متحيز ضدّ المرأة ومهين لها وهو الذي أوصى بها ودارى وأحسن إليها.

يقول الإمام ابن حجر: “المعنى أنّ النساء خلقن من أَصل خُلق من شيء معوجّ، وهذا لا يخالف الحديث الماضي من تشبيه المرأة بالضّلع، بل يستفاد من هذا نكتة التشبيه، وأنّها عوجاء مثله لكون أصلها منه.. قوله «وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه» ذكر ذلك تأكيدا لمعنى الكسر، إشارة إلى أنّها خلقت من أعوج أجزاء الضّلع مبالغة في إثبات هذه الصّفة لهنّ. وفي الحديث… سياسة النّساء بأخذ العفو منهنّ والصّبر على عوجهنّ.. فكأنّه قال: الاستمتاع بها لا يتمّ إلاّ بالصّبر عليها” 2.

أمّا الإمام النووي فيرى أنّ “في هذا الحديث ملاطفة النساء والإحسان إليهنّ والصّبر على عوج أخلاقهنّ واحتمال ضعف عقولهنّ، وكراهة طلاقهنّ بلا سبب وأنّه لا يطمع باستقامتها” 3.

ويستنبط الإمام ابن العربي منه “فضّل الله تعالى الذّكر على الأنثى من ستّة أوجه؛ الأوّل: أنّه جعل أصلها وجعلت فرعه، لأنّها خلقت منه، كما ذكر الله تعالى في كتابه. الثّاني: أنّها خلقت من ضلعه العوجاء” 4.

أمّا الإمام الشوكاني فيؤكّد أنّ “الفائدة في تشبيه المرأة بالضِّلع التنبيهُ على أنَّها معوجّة الأخلاق، لا تستقيم أبدًا، فمن حاول حملَها على الأخلاق المستقيمة أفسدَها، ومَن تركَها على ما هي عليه من الاعوجاج انتفع بها، كما أنَّ الضِّلع المعوج ينكَسِر عندَ إرادة جعلِه مستقيمًا وإزالة اعوجاجه، فإذا تَرَكه الإنسانُ على ما هو عليه انتفعَ به” 5.

وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل من العدل الإلهي أن يجبل المرأة على الاعوجاج في الطّبع والخلق ثمّ يجعلها متساوية للرّجل في التكليف والحساب وأمينة على الفطرة وحافظة لدينها؟ علما أنّ عموم القرآن الكريم كرّم الإنسان بحسن الخُلُق والخلقة، امرأة كانت أم رجلا، وفق المبدأ القرآني لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التين 4، بهذه الرؤية القرآنية نفهم سنّة رسول الله صلى الله عليه و سلّم.

 في هذا الإطار يقول الإمام الشنقيطي: “هو شامل لخلق الإنسان حسا ومعنى، أي شكلا وصورة وإنسانيّة… والإنسان وإن كان لفظا مفردا إلاّ أنّه للجنس بدلالة قوله: ثمّ رددناه أسفل سافلين إلاّ الذين آمنوا” 6، ويستفيد ابن عاشور من الآية “أنّ الإنسان مفطور على الخير وأنّ في جبلّته جلب النّفع والصّلاح لنفسه وكراهة ما يظنّه باطلا أو هلاكا، ومحبّة الخير والحسن من الأفعال” 7.

إذن يبدو أنّ المرأة من المنظور القرآني مفطورة على خصال البرّ لا على الاعوجاج، ومن التجنّي على اللّغة بلاغتها، ومقاصد الشّرع وطبيعة المرأة أن يفهم الاعوجاج في الحديث سوء وخسّة في المرأة، ونقمة وبليّة على الرجل تحمّلها. فهم لا يستقيم مع الرؤية القرآنيّة ولا ينسجم مع سنّة رسول الله العمليّة.

لكن من منظور الاتّجاه الحداثي، تجزم رفعت حسن 8 بضعف هذا الحديث متنا وسندا، فهو يفرض دونيّة المرأة واستعلاء الرجل حسب معتقدها، تقول “يتأسّس فقه النساء المتضمّن في هذه الأحاديث على تعميمات حول طبيعة النّساء الأنطولوجيّة 9. والحيويّة والنفسيّة تتناقض مع نصّ القرآن وروحه… فقد كان من الأحرى أن ترفض هذه الأحاديث، ولكن على الرغم من أنّ الأحاديث المذكورة تتعارض مع تعاليم الدّين فقد ظلّت جزءا من تراث الدّين المتراكم… بينما يدلّ انتشارها المتنامي بين المسلمين بصفة عامّة على أنّها تنطق بما هو عميق الجذور في الثّقافة الإسلاميّة، ألا وهو أنّ النساء كائنات مشتقّة يستحيل اعتبارهنّ مساويات للرّجال. أمّا من الناحية الفقهيّة فقد بدأت قضية إخضاع النساء في التراث الإسلامي بقصّة خلق حواء” 10، حكمت على الحديث بالضّعف دون أن ترجع إلى أهل الفنّ لتدرك أنّ الحديث صحيح السّند سليم المتن، وأنّ رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم مقصده من الحديث الملاطفة والممازحة يوم العيد.

 جملة القول في الحديث إنّ “الاعوجاج في الضّلع كناية عن الاختلاف بين الرجل والمرأة في التركيبة النفسيّة… إنّ اختلاف نفسية المرأة وغلبة العاطفة عليها إن غلب على الرجل المنطق العقلي مزيّة وتكامل، لا يصحّ أن نُنْقصها لمكان تركيبتها النفسيّة إلاّ لو صحّ أن نلومها على اختلاف تركيبها الجسمي. اعوجاجها الضّلعي هو استقامتها، هو انحناء معنوي وحنوّ، هو عاطفة ورحمة” 11.

الحديث وصية نبوية ومداراة مقصده الرّفق بالمرأة وحسن معاملتها تحقيقا للتّساكن الذي أراده الله تعالى أن يعمَّ، كما في قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً الروم 21.

خاتمة

مررت من خلال هذا البحث بوقفات تحليليّة ومراجعات نقديّة لمرتكزات المنهج النصوصي في دراسة السنّة النبويّة ولأطروحات الفكر الحداثي في قراءتها، هو موضوع اكتسى الأهميّة واستمدّ القيمة العلميّة من الواقع الرّاهن الذي تعيشه الأمّة الإسلاميّة بين شيوع المدّ الديني المتشدّد وبين تطلّعات النخبة المثقّفة، فكان لا بدّ من تسجيل جملة من الملاحظات والاستنتاجات أهمّها:

– أدّى ذيوع المنهج النصوصي إلى توقّف إعمال العقل في النصوص وانحسار الاجتهاد وتقليد السّلف الصّالح، دون فقه الرؤية القرآنيّة واستحضار المقاصد الجامعة.

– أوغل الحداثيّون في محاولة إثبات ما تجاوزه الزّمن من افتراءات حول السنّة ومطاعن ردّدها أصحاب الاستشراق الكلاسيكي، ودعت دراساتهم إلى إحداث قطيعة جذريّة مع الدّراسات الدينيّة التقليديّة، واقترحت بالمقابل إعادة قراءة السنّة النبويّة وفق مقاربات نقديّة ومناهج غربيّة حديثة.

–  ستظلّ السنّة النبويّة صالحة لكلّ زمان لأنّها ليست وليدة ظرف تاريخي انقضى فانقضت صلاحيّتها معه، ويبقى المنهج النقدي لأهل الحديث قادرا على تنقية السنّة النبويّة من شبهات الحداثيّين.

– حملت الدّراسات الحداثيّة النسائيّة عداء فاضحا للسنّة النبويّة ابتداء بالتشكيك في مضمون جملة من الأحاديث، واعتبار السنّة النبويّة قاعدة الارتكاز في منظومة الإقصاء والتهميش والتمييز الذي يطال النّساء.

– ضرورة تقويم جهود العلماء والفقهاء-وقد أوتوا حظاً وفيرا من النضج المعرفي والإحكام المنهجي- في خدمة السنّة النبويّة على نحو يميط اللّثام عن بعض  ثغرات النظر ومزالق الفهم.

فهل من قراءة تجديديّة أصيلة مبدعة للسنّة النبويّة الشريفة، منطلقها مقاصد الشّرع ومبادئ القرآن الكريم الكليّة الجامعة، تبصّر النّاس بهدي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وهداه، وتشقّ لمقاصد السنّة النبويّة السبيل الفعلي في دنيا النّاس وفكرهم ومعاشهم مع مراعاة منطق العصر وفقه الواقع وعبرة التّاريخ؟

والحمد لله رب العالمين.


[1] صحيح البخاري كتاب النكاح باب الوصاة بالنساء رقم  4890، وعند مسلم في كتاب النكاح باب الوصية بالنساء.
[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق، 2/254.
[3] المنهاج شرح صحيح مسلم، كتاب النكاح باب الوصية بالنساء،10/57.
[4] محمد بن عبدالله بن العربي الإشبيلي، أحكام القرآن، 1/335.
[5] محمد بن علي بن محمد الشوكاني، نيل الأوطار  شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأبرار، 6/244.
[6] محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 9/6.
[7] التحرير والتنوير، مرجع سابق، 31/422.
[8] باحثة باكستانية وأستاذة الدراسات الدينية والعلوم الإنسانية في جامعة “لويسفيل” في ولاية “كنتاكي” في الولايات المتحدة الأمريكية.
[9] هي دراسة طبيعة الحقيقة، وتتعلق بالبحث في الوجود والكون والحياة والإنسان، من المرادفات الشائعة للأنطولوجيا الميتافيزيقا والإلهيات والغيبيات، كتاب التطور الدلالي لمفهوم فلسفة التربية، بشار عوض، زياد عبد الكريم، دار اليازوري العلمية 2019م، ص 26.
[10] رفعت حسن، مقال: النساء المسلمات وإسلام ما بعد الأبوية، من كتاب النسوية والدراسات الدينية تحرير وتقديم منى أبو بكر، ص 221-222.
[11] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/196.