السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (3)

Cover Image for السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (3)
نشر بتاريخ

المبحث الثّاني: الأطروحات الأساس للمنهج الحداثي في دراسة السنّة النبويّة.

في ظلّ حركة الاستغراب الثّقافي بمختلف توجّهاته النقديّة، ظهرت مشاريع فكريّة معاصرة تروم إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة نقديّة بدعوى التجديد وبدافع التحديث، انجلى من هذه التيّارات الاتّجاه الحداثي المعاصر الذي تبنّى نقد القرآن الكريم والسنّة النبويّة، كأولويّات فكريّة انطلاقا من نزعته العقليّة لإحداث القطيعة المعرفيّة مع إنتاجات المسلمين متأثّرا بالفكر الغربي المعاصر، وموقنا بأنّ المنظومة التراثيّة الإسلاميّة تشكّل عائقا في الفهم الصّحيح للسنّة النبويّة، فدعا إلى حتميّة الاستعانة بالمناهج الفكريّة الغربيّة كالتفكيكيّة والتأويليّة 1… للوصول إلى فهم يتماشى مع روح العصر ومتطلّبات الواقع.

 عكف فريق من الحداثيين على دراسة السنّة النبويّة وتقويم علومها ومراجعة أصولها، ووضعها على محكّ النقد والنظر والتفكيك لإسقاط حجيّتها واستبعادها، وإثارة عديد الإشكالات حولها ابتداء بقدسيّتها، مرورا بنقد مناهج علومها، وصولا إلى إبطال موضوعاتها.

فما هي الأطروحات الأساس التي يتبنّاها الحداثيّون حول السنّة النبويّة؟

   أولا: حجيّة السنّة وعلاقتها بالجمع والتدوين المتأخّر.

تكاد تتّفق آراء الحداثيّين على أنّ السنّة النبويّة لم تكن لها مكانة زمن النبوّة وجيل الصّحابة، ثمّ اكتسبتها مع تقدّم الوقت، يجزم نصر حامد أبو زيد أنّ الأحاديث النبويّة لا تعدو أن تكون نصوصا شارحة لكلام رسول الله وليست صادرة عنه، يقول “لأنّها لم تدوّن إلاّ متأخّرة، وخضعت من ثمّ لآليّات التناقل الشّفاهي، الأمر الذي يقرّبها إلى مجال النّصوص التفسيريّة من حيث أنّها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي، وإذا كانت الأحاديث ذاتها أي كما نطق بها النبي بلغته وألفاظه، نصوصا تفسيريّة لنوع من الوحي مغاير في  طبيعته لوحي السنّة، فإنّ الأحاديث التي بين أيدينا تكون في حقيقتها تفسيرا للتفسير” 2، لكن صاحبه عبد المجيد الشرفي يستمرّ في نفي حجيّة السنّة ويطعن في مشروعيّتها بدلالة نصوص السنّة ذاتها كما يقول: “إنّ شأن الحديث لعجيب حقاّ ! فلقد احتفظ هو ذاته بما يفيد نهي الرّسول عن تدوينه، وأمره بألاّ يكتب عنه سوى القرآن، أي بما ينسف مشروعيّته من الأساس. أراد النبي أن يكون القرآن وحده النبراس الذي يهدي المسلمين في حياته وبعد مماته، وألاّ تكون لأقواله هو صبغة معياريّة ملزمة” 3، ويبرهن على رأيه هذا بامتناع الصّحابة عن تدوينها فيقول: “ولا شكّ أنّ الجيل الأوّل من المسلمين الأوائل قد التزم التزاما كاملا بذلك النهي.. وأنّ الأشخاص القلائل الذين دوّنوا عن الصّحابة ما سمعوه مشافهة كانوا يرغبون في الاحتفاظ بما بلغهم لأنفسهم على سبيل التبرّك” 4، أمّا ثالثهما هشام جعيط فيردّ السنّة لتأخّر تدوينها قائلا “نحن لا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد من سيرة وتاريخ وطبقات وحديث، لأنّ القاعدة أنّ كلّ ما دوّن بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرّخ” 5.

 هذا كلام لا يستقيم واستنتاجات لا يعزّزها سند ولا برهان، ويخالف ما أقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى به من التمسّك بسنّته «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» 6.

كما أثبتت الوقائع والأخبار أنّ السنّة النبويّة دوّنت على عهده صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام البخاري عن أبي هريرة قال «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه منّي، إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنّه كان يكتب ولا أكتب» 7، ويؤكّد الإمام ابن حجر أمر تدوين الحديث على عهد النبوّة قائلا “أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ‏لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ » 8. والجمع بينهما أنّ النهي خاصّ بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك، أو أنّ النهي خاصّ بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدّم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنّه لا ينافيها. وقيل النهي خاصّ بمن خشي منه الاتّكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك” 9، إذا النّهي لم يكن عامّا، والإباحة لم تكن عامّة في أوّل الإسلام، فحيثما تحقّقت علّة النهي منع التدوين، وحيثما زالت أبيح التدوين.

صحيح أنّ السنّة النبويّة لم تدوّن رسميّا إلاّ أوائل القرن الثّاني للهجرة، لكنّها حفظت في الصّدور، وصانها الحفظة الثقات لأنّها أصل من أصول الشريعة الغرّاء وليست للتبرّك، ودوّنت تدوينا شخصيّا عند جمع من الصّحابة وتواصوا بكتابتها وحفظها مع التثبّت من صحّة النقل والتحّرز من الوهم، يقول محمد عجاج الخطيب “إنّ بعض الصّحابة أنفسهم قد أجاز الكتابة، وكتب بعضهم بيده، وتغيّر رأي من عرف منهم النهي عن كتابة الحديث حينما زالت أسباب المنع، وخاصّة بعد أن جمع القرآن في المصاحف وأرسل إلى الآفاق” 10، ونماذج ما كتب منها: الصّحيفة الصّادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، والصّحيفة الصّحيحة برواية همام بن منبّه عن أبي هريرة، وصحيفة سمرة بن جندب وغيرها.. قال الإمام الذهبي عن همام بن منبه “المحدّث المتقن أبو عقبة صاحب تلك الصّحيفة الصّحيحة التي كتبها عن أبي هريرة، وهي نحو من مائة وأربعين حديثا” 11.

ثانيا: مراجعة المنهج النقدي عند علماء الحديث

اتّهم منهج نقد علوم الحديث -الذي تفوّق فيه علماء الحديث ليحافظوا على الإرث النبوي تقعيدا وتطبيقا-؛ من قبل الحداثيّين بالتقليديّة وبالقصور عن بلوغ مدارك العلم والنقد كما يدّعي محمّد عابد الجابري قائلا” فما يعاني منه هذا المنهج يتلخّص في آفتين اثنتين: غياب الرّوح النقديّة وفقدان النظرة التاريخيّة، وطبيعي والحالة هذه أن يكون إنتاج هؤلاء هو التراث يكرّر نفسه، وفي الغالب بصورة مجتزأة رديئة” 12. وغير بعيد عن هذا ينعت عبد المجيد الشرفي منهج أهل الحديث النقدي بالجمود، فهو غير عقلاني ولا يقبل التطوّر، ولا يقوى على تنقية الحديث من الشّوائب، وهكذا دعا إلى عرض السنّة النبويّة على محكّ النقد المستنير بمبادئ الإسلام بعيدا عن التشبّث بالقدسيّة والحرفيّة النصوصيّة حسب اعتقاده، يقول: “إنّ هذا العلم يعتبر من العلوم النقليّة المحضة، فلا مجال فيه لإعمال العقل، وما على المسلم إلاّ التصديق بالأحاديث التي أجمعت الأمّة على قبولها، وبغضّ الطّرف عن أنّ ما حظي بالقبول إنّما هو ما ارتضته فرقة معيّنة… إنّ عمليّة الجمع والتصنيف والتدوين هي في حدّ ذاتها عمليّة اختيار” 13، ويعني بهذا تركيز علماء الحديث على دراسة معايير صحّة الإسناد دون النظر في المتن، لهذا يدعو إلى نقد متن الحديث بواسطة إعمال العقل فيقول”الاعتناء بالنواحي الشكليّة يخفي في الحقيقة ما في الحديث من تعارض وتناقض ومجانبة للمعقول ومخالفة للتعاليم القرآنيّة، وما يحتوي عليه من ركيك التعبير وغريبه” 14.

هي آراء تنمّ عن جهل حقيقي بتاريخ علم الحديث وأصوله وبقواعد النقد عند أهل الفنّ، ولقد غابت عن الباحثين الحقائق الآتية أو تجاهلوها:

– ظهرت الإرهاصات الأولى للنقد الحديثي مع جيل الصّحابة، حين بدأ تقصّي صحّة الحديث وفحص الإسناد وشواهد ذلك كثيرة، فالمتأمّل في استدراكات الصّحابة بعضهم على بعض، يدرك أنّ الصّحابي كان يردّ الحديث أحيانا ويتوقّف، وإن كان الرّاوي صحابيّا لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض وفوات شرط، وهذا المسلك شكّل حصانة للسنّة النبويّة من أن يمسّها الاضطراب، كما بدأ هذا الاحتياط في نقل الرّواية مبكّرا بعد مقتل الخليفة الراشدي عثمان رضي الله عنه، روى الإمام مسلم في مقدّمة صحيحه عن “ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمّا وقعت الفتنة قالوا سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم” 15، اتّبعوا فيه من القوانين ما يحتاج إليها عصرهم لمّا دعت الحاجة نقد الرّوايات.

– ما زالت تلك القوانين النقديّة تتفرّع وتتشكّل وفق معايير علميّة لتلبية المطالب المستجدّة عصرا بعد عصر، ولم تكن جامدة مفرغة من روح النقد وإعمال العقل، ليصل المنهج الحديثي ذروته مع مبادئ تمحيص الرّوايات بالنّظر في أسانيدها ومتونها للوصول إلى قبولها أو ردّها، ونقد الرّجال بالنظر في أحوال الرّجال عدالة وضبطاً بغية معرفة حالهم من جرح أو تعديل وهكذا نشأ علم ميزان الرّجال ونقدهم.

– إنّ منهج المحدّثين أقوى وأعظم حيطة من أيّ منهج في تمحيص الرّوايات والمستندات المكتوبة، “لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راو إلى آخر، حتّى يبلغ مؤلّفه ونجد عليها إثبات السّماعات وخطّ المؤلّف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلّف أو عن فرعها” 16، وهو أيضا أحكم من حيث تفحّص المتن، ولهذا أسّسوا علوم المتن 17، لأنّ المقصد الأساس للمنهج النقدي هو الاستيثاق من المتن، والرّواية وسيلة إليه كالاعتبار مثلا عندهم للبحث عن المتابعات والشّواهد…

بهذا يتّضح أنّ منهج النقد الحديثي الإسلامي ليس منغلقاً على نفسه أو منقطعاً عن المناهج الأخرى، هو منهج علمي مؤسّس على قواعد محكمة وأصول عقلانيّة متقنة.

ثالثا: توظيف الأدوات النقديّة في دراسة السنّة النبويّة

آمن الفكر الحداثي المعاصر بضرورة نقد ومراجعة الفكر الديني وتوظيف العلوم الحديثة في فهم السنّة النبويّة المشرفة، ونقد علومها وإخضاعها لمناهج النقد والتأويل التي خضعت لها النّصوص التوراتيّة والإنجيليّة في إطار الفكر الغربي، غايته التحرّر من سلطة النصّ الذي تكوّنت في ظلّه ثوابت العقل الإسلامي، وإحداث قطيعة معرفيّة بين النصّ وبين المناهج الضابطة للقراءات الإسلاميّة، من هذه الأدوات المنهج التاريخي 18 والتحليل الهرمينوطيقي.

– يتوسّل الحداثيّون بالمنهج التاريخي لإعادة فهم النّصوص وتحليل الخطاب في ضوء أسبابها التاريخيّة، بالنظر إلى الظّروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة للعصر الذي تنتمي إليه لاستجلاء كوامن النصّ وفكّ غموضه، لكنّ استنطاق السنّة النبويّة وفهم أحكامها بمنظار التحليل التاريخي يخلّ بمكانة السنّة التشريعيّة إذ يعامل النصّ بوصفه وثيقة تفحص لتدعم وتصدّق الواقع والبيئة.

فمن منظور تاريخي ترى الباحثة الحداثيّة فاطمة المرنيسي 19 أنّ لرواية الأحاديث النبويّة سياقا تاريخيا، إذ استعملت غالبيّتها كسلاح سياسي، وتعتبر الفتن التي عاشها المسلمون بعد مقتل عثمان رضي الله عنه سببا مباشرا لولادة الحديث أي جمع السنّة وتدوينها، تقول “من أجل الاحتماء ضدّ الإرهاب والعنف السّياسي ولأسباب أخرى عكف المسلمون على تجميع الحديث… ففي أثناء الأزمة يبرز الحديث كسلاح سياسي لا يردّ” 20؛ وهذا انحراف خطير، فعوضا عن فهم الأحاديث في سياق توجيه النّاس وتعليمهم أمور دينهم، تصبح وسيلة لتبرير الواقع ولمجاراة الأحداث.  

– المنهج الهرمينوطيقي: يستخدم مصطلح الهرمينوطيقا في الدّراسات الدينيّة للدّلالة على دراسة وتفسير النّصوص الدينيّة، وتترجم عادة بالتأويليّة، يطلق عليها جادمير صيغة “فنّ التأويل” 21، إذا فالقضيّة الأساسيّة التي تتناولها الهرمينوطيقا بالدّرس هي معضلة تفسير النصّ بشكل عامّ ومنه النصّ الديني خاصّة، والبحث عن المعاني الحقيقيّة والتعمّق في أغواره، غايتها حسب جادمير “الرّجوع إلى المصادر الأصليّة والبدايات الأولى قصد الحصول على فهم جديد للمعنى الذي ظلّ محلّ تحريف وإفساد سببه الاعوجاجات والتشويهات والاستعمالات السيّئة وغير الوجيهة كما هو الحال بالنسبة للإنجيل مع سلطة الكنيسة” 22، فيصير التأويل محاولة للفكاك من قيود النّصوص والتحرّر من سلطتها والعمل على التوفيق بين صريح اللّفظ وما يقتضيه العقل ويبتغيه صاحب التأويل من آراء عميقة حوله.

 وهنا تتجلّى خطورة تطبيقها في تفسير السنّة النبويّة، يقول نصر حامد أبو زيد” يتّفق الخطاب الديني على أنّ النصوص الدينيّة قابلة لتجدّد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزّمان والمكان.. إنّ النصوص دينيّة كانت أم بشريّة محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينيّة لا يخرجها عن هذه القوانين لأنّها تأنسنت منذ تجسّدت في التّاريخ واللّغة، وتوجّهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدّد. إنّها محكومة بجدليّة الثّبات والتغيّر، فالنّصوص ثابتة في المنطوق متغيّرة في المفهوم” 23، فهذا يعني أنّ كلّ قراءة أو تفسير للنصّ تعتبر صحيحة، وهذا أمر على قدر من الصّواب، ففي الحديث «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» 24، من الصّحابة من فهم النصّ على حرفيّته فلم يصلّ العصر إلاّ في بني قريظة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث على أنّه حث ّعلى السّرعة فصلىّ العصر حيثما أدركه الوقت، وأقرّ الرسول عليه الصّلاة والسّلام كلا الفريقين. لكنّ القول بإطلاق تعدّد المعنى وتطوّره وعدم ثباته بتباعد الزّمان واختلاف المكان، يهدّد الحكم الذي جاء به النصّ، وقد يصل إلى نقيض الحكم ومقصده.

هكذا تهيّأ لأصحاب الاتّجاه الهرمينوطيقي أن ينفوا وجود أيّ ثوابت أو قطعيّات أو يقينيّات في الدّين، وجعلوا معاني النّصوص الشرعيّة ودلالاتها في تحوّل دائم وتبدّل مستمرّ حسب الأحوال والأوضاع تجري وفق ميول القارئ ورغباته، ففتح ذلك بابا واسعا للتّلاعب بالنّصوص ليس فقط بالتعسّف في تفسيرها والتحريف لمعانيها، بل كذلك بإفراغها من أيّ مضمون ثابت خاصّ بها.

ممّا سبق يتّضح أنّ الدّراسات الحداثيّة تحمل عداء فاضحا للسنّة النبويّة ابتداء بالتشكيك في مكانتها وحجيّتها، ثمّ بالطّعن في مضمون بعض الأحاديث، وانتهاء بتحميل النصوص ما لا تحتمله من معان كما سيأتي.

 


[1] هي القراءة التي لا تقبل الوقوف عند حدود العرض والتلخيص والتحليل..بل تريد إعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكا وأقوى تعبيرا عن إحدى وجهات النظر  التي يحملها صراحة أو ضمنا. كتاب الخطاب العربي المعاصر، محمد عابد الجابري،  مركز دراسات الوحدة العربية،  ط 1، بيروت ص 12.
[2] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص 126-127.
[3] عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص177.
[4] المرجع نفسه، ص 117.
[5] هشام جعيط، في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة، ص 94.
[6] محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب العلم، خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، رقم الحديث 325.
[7] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم الحديث 113.
[8] صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لتثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، رقم الحديث 3004.
[9] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1/251.
[10] محمد عجاج بن محمد تميم الخطيب، السنة قبل التدوين، 1/316.
[11] محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، 5/312.
[12] محمد عابد الجابري، الإسلام والحداثة: دراسات ومناقشات، ص 26.
[13] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، مرجع سابق،  ص 181.
[14] المرجع نفسه، ص 180.
[15] صحيح مسلم، بابُ في أَنَّ الْإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة،  1/14.
[16] نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ص 464.
[17] منها: علوم المتن من حيث قائلها، وأخرى شارحة للمتن كالغريب وأسباب الورود، وعلوما تنشأ من مقابلة المتن المروي بالروايات الأخرى.
[18] هو منهج تعول عليه العلوم التي تدرس الماضي بسجلاته ووثائقه، ويعتمد على الجمع والانتقاء والتصنيف وتأويل الوقائع، ينظر كتاب المدخل إلى مناهج البحث العلمي، محمد محمد قاسم، دار النهضة العربية، مصر، ط ‍1، 1999م، ص 60.
[19] أستاذة جامعية وكاتبة وباحثة اجتماعية مغربية، متخصصة في الشأن النسائي، تابعت دراستها بالرباط وفرنسا ثم بالولايات المتحدة، توفيت في نوفمبر2015.
[20] فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي: النبي والنساء، ترجمة عبد الهادي عباس، ص 49.
[21] هانس جورج جادمير، فلسفة التأويل: الأصول. المبادئ. الأهداف، ترجمة محمد شوقي الزين،  ص 34، يقول موضحا” تدل الهرمينوطيقا في علم اللاهوت (التيولوجيا) على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس(الأسفار المقدسة) بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق”ص 63 .
[22] المرجع نفسه، ص 66.
[23] نقد الخطاب الديني، مرجع سابق، 118.
[24] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب اب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، رقم الحديث 3893.