السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (2)

Cover Image for السنّة النبويّة بين المنهجيّة النصوصيّة والقراءة التأويليّة الحداثيّة.. قضايا المرأة نموذجا (2)
نشر بتاريخ

المبحث الأوّل: مرتكزات المنهج النصوصي في التّعامل مع السنّة النبويّة

لن أبالغ إذا قلت إنّ سوء فهم العلاقة بين الكتاب والسنّة وتغييب الرؤية الكليّة القرآنيّة في النّصوص، هو أسُّ المشكلات التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، لذا ينبغي التنصيص على ضرورة فهم النصوص الشرعيّة في ضوء مقاصد الشّرع العامّة، أي فهم السنّة النبويّة وفق القواعد الكليّة المستمدّة من كتاب الله العظيم، والمؤسّسة على نسق يربط الفروع بالأصول ويقدّم الأولي على الثّانوي، يقول محمد الغزالي: “إنّ القرآن هو الإطار الذي تعمل الأحاديث في نطاقه لا تعدوه، ومن زعم أنّ السنّة تقضي على الكتاب، أو تنسخ أحكامه فهو مغرور” 1.

فما بال قوم عمدوا إلى أحاديث متفرّقة، وبنوا عليها أحكاما شرعيّة دون فقه دواعي ومقاصد قوله وفعله صلّى الله عليه وسلّم! والحصيلة تعارض الأحكام واضطراب الأدلّة وسوء تأويل النّصوص واتّهام الشّريعة بالتناقض… لا بدّ من سعة الفقه لفهم مرويّات الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

أتحدّث هنا عن هيمنة المنهجية النصوصية الحرفيّة على فئة من الكتابات الفقهيّة، والتي تعتمد تحكيم النّصوص المرويّة عن الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما استجدّ من أحداث، واجتزاء أحاديث نبويّة من سياقها العامّ وفهمها فهما سطحيّا ضيّقا دون إعمال الرؤية القرآنية.

لعلّ البدايات الأولى لظهور ملامح المنهج النّصوصي في التّعامل مع السنّة النبويّة تجلّت في:

أوّلا: سوء فهم وتوظيف لحجج الإمام الشّافعي: والذي تصدّى في القرن الثّاني الهجري للشّبهات التي أثارتها الشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرهم حول حجيّة السنّة النبويّة، وعمل على صيانتها من الجحود والإنكار بإخراجها من دائرة التبعيّة للقرآن الكريم وجعلها مصدرا مماثلا له ومستقلاّ عنه، وذلك عن طريق:

– منع نسخ السنّة النبويّة بالقرآن الكريم حتّى لا تهمل وتردّ، وخشية عليها من هيمنة القرآن الكريم ونسخه لنصوصها، ولكي لا تردّ السنن إذا اختلفت أحكامها مع القرآن، يقول معلّلا “فتُركت كلّ سنّة معها كتاب جملة لا تحتمل سنّته أن توافقه، وهي لا تكون أبدا إلاّ موافقة له” 2.

– التسوية بين حجيّة القرآن الكريم والسنّة النبويّة ولو كانت خبر الآحاد، فقد دافع في كتابه الأمّ عن تثبيت خبر الآحاد وحجيّته، وعوّل على الإسناد عند قبول الحديث دون الاهتمام بعرض متنه على مقاصد القرآن الكريم، يقول: “فأمّا ما كان من سنة من خبر الخاصّة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجّة فيه عندي أن يلزم للعالمين، حتّى لا يكون لهم ردّ ما كان منصوصا منه” 3.

 ومقصد الإمام الشّافعي رحمه الله من وراء كلّ ذلك الدّفاع عن الإرث النبوي خشية إهماله، والحرص على السنّة الطّاهرة من الإنكار إن اختلف ظاهر أحكامها مع القرآن الكريم، وأنّى للفرع أن يخالف الأصل! لكن مع تقدم الزّمن أسيء استعمال حجّة الإمام الشّافعي، وصارت مرويّات الآحاد معولا عليها في استنباط الحكم.

ثانيا: سدّ باب الاجتهاد وسيادة الخمول الفكري والتعصّب المذهبي قرونا: أنتج الذهنيّة التقليديّة التي ترى في اجتهادات من سبقوهم أصلا لا يُتَجاوز، ونشأ في ظلّه الفقه المنحبس المنحسر الذي يغيب عنه الأفق المقاصدي في التّعامل مع الأدلّة، بل يعمل على تقليد طرائق الأئمّة المجتهدين في التفريع، وقد نالت قضايا المرأة  الحظّ الوافر من مقرّراته، فغلب العمل بالأحوط وبمبدأ سدّ الذريعة، تقول رقيّة طه العلواني “أسهمت ظاهرة شيوع التقليد، وأهميّة الوقوف عند أقوال واجتهادات العلماء السّابقين رحمهم الله، (التي جاءت نتيجة حتميّة للظّروف الاجتماعيّة والسياسيّة التي مرّت بها مجتمعاتهم) إلى بروز مزيد من الأحكام التحوطيّة، فيما يتعلّق بالمرأة ووضعيّتها الاجتماعيّة. كما أسهم انتشار المزيد من مظاهر الفساد والانحراف في تبنّي العديد من الأحكام والآراء الاجتهادية القاضية على المرأة بالبقاء في البيت… وبمرور الزّمن واختلاف العصور… تحوّل العمل بسدّ الذّريعة من أداة خيّرة نافعة، تنافح عن مظاهر الفضيلة في المجتمع، إلى سيف مشرّع في وجه عشرات الأحكام التي جاءت بها نصوص القرآن الكريم والسنّة، لضمان مساهمة المرأة في عمليّة العمران الحضاري والقيام بمهمّة الاستخلاف” 4.

ثالثا: تأثير المذهب الظّاهري: الذي يعنى بالنّصوص الجزئيّة، ويتشبّث بالفهم الحرفي بعيدا عن النظر المقاصدي، وهذا ما يوقع في الحرج والتعسير الذي رفعه الله عن الأمّة، لقد تبنّى طائفة من العلماء روح الاتّجاه الظّاهري دون أن يتسمّوا باسمه، يصف يوسف القرضاوي هؤلاء فيقول: “وهم الذين أسميتهم الظّاهرية الجدد، وجلّهم ممّن اشتغلوا بالحديث٬ ولم يتمرّسوا بالفقه وأصوله، ولم يعلّلوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط، ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشّريعة وتعليل الأحكام٬ ورعاية المصالح٬ وتغير الفتوى بتغيّر الزّمان والمكان والحال” 5.

كلّ ذلك ساهم في تراجع الرؤية القرآنيّة، وولّد مع مرور الوقت نزعة حرفيّة في التّعامل مع النّصوص الحديثيّة التي أصبحت مرجعا في استنباط الأحكام، وصارت آحاد النصوص العمدة في الاستدلال، فعُطّلت تبعيّة السنّة النبويّة للقرآن الكريم.

وهكذا نخلص إلى أنّ المنهج النصوصي عموما ينبني على المرتكزات الآتية:

– التسوية بين حجيّة القرآن الكريم والسنّة النبويّة، بجعل نصوص السنّة في مرتبة واحدة مع نصوص القرآن الكريم، ولهذا تمسّكوا بالظّاهر تحرّجا عن التأويل عند التعارض بين النصوص.

– الاهتمام الكبير بالسنّة النبويّة دراسة وتأليفا واحتجاجا، والتأكيد على ضرورة الأخذ بما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أيّ مسألة شرعيّة، ويلحق بذلك الردّ الشديد على القائلين بظنيّة أخبار الآحاد على سبيل العموم، وعدم صحّة الاحتجاج بها في مسائل العقيدة.

 – ترجيح الحديث الظنّي دلالة وثبوتا على القياس الذي يردّ الفرع إلى الأصل وهو حجّة في الأحكام.

– تأخير القياس مع ترك التأويل، فلا تكاد تجد أيّ نوع من الاجتهاد عند أصحاب المنهجيّة النصوصيّة بسبب انشغالهم بالنّصوص الجزئيّة وإعراضهم عن المقاصد والمعاني، وذلك بالحرص على اتّباع السّلف الصّالح وطريقتهم في فهم الدّين وتلقيّ أحكامه، وعدم جواز الخروج عمّا اتّفقوا عليه من آراء.


[1] محمد الغزالي، السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص 143.
[2] الأم، محمد بن إدريس الشافعي، 1/46-47.
[3] الأم، مرجع سابق، 1/214.
[4] رقية طه جابر العلواني، أثر العرف في فهم النصوص (قضايا المرأة أنموذجا)، ص 138.
[5] يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص 130.