الدكتور متوكل يعرض تصوّرات العدل والإحسان لأهم القضايا السياسية

Cover Image for الدكتور متوكل يعرض تصوّرات العدل والإحسان لأهم القضايا السياسية
نشر بتاريخ

في هذا الحوار الذي خصّصناه لنقاش موضوع “موقع السياسية في مشروع العدل والإحسان”، يتجوّل بنا الدكتور عبد الواحد متوكل، رئيس الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان وعضو مجلس إرشادها، بين عدد من المواضيع السياسية الهامة المرتبطة بتصور الجماعة ورؤيتها للقضايا النظرية وتقديرها للأمور الجارية.

الحوار الذي يندرج ضمن سلسلة “قضايا وتصورات.. حوارات مع قادة ‘العدل والإحسان'” التي أطلقتها البوابة بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة، يطرق، بوضوح شديد، عددا من الملفات الهامة، من ذلك:

اقتران العدل والإحسان في شعار ومشروع الجماعة، موقف العدل والإحسان من الواقع السياسي، اقتراحاتها للخروج مما تراه اختلالا، التعاطي مع التيارات المخالفة، رؤيتها الفلسفية للسياسة ووظائفها، جوابها على ما تُتّهم به، وما تشكر عليه في آن، من تغيّر في المفاهيم والخطاب، حقيقة الخلافة التي تبشر بها الجماعة…

تعرفوا على تصور جماعة العدل والإحسان لهذه القضايا وغيرها ضمن هذا الحوار الهام.

لماذا العدل قرين الإحسان في مشروع جماعة العدل والإحسان؟

هناك أكثر من داع لربط العدل بالإحسان. فالعدل في الحكم والعدل في توزيع الثروة من مواصفات الحكم الرشيد وشروطه؛ والإحسان بمعانيه الروحية والسلوكية والأخلاقية والمعاملاتية يعطينا المواصفات المطلوبة ليكون الإنسان المسلم صالحا في نفسه وأخلاقه وفي تعامله مع الناس والأشياء، ونافعا لنفسه وأهله وللمجتمع والناس كافة.

في العدل نتحدث عن المنظومة الدستورية والقانونية المطلوبة في النظام السياسي العادل، وعن الإجراءات المانعة للتسلط من أي جهة، فردا كان أو جماعة. في الإحسان نتحدث عن التربية الايمانية والأخلاقية والسلوكية التي من خلالها يترقى المسلم في مدارج الإيمان، وتحسن أخلاقه، وتخلص نيته ليكون رحمة في الناس، كل الناس.

فالعدل والإحسان عندنا متكاملان متلازمان، لاينفك أحدهما عن الآخر، بل إن التفريط في أحدهما يضيع المشروع بأكمله. فإن لم يكن العدل أم المطالب وأباها، فكيف تنتظر من نظام فاسد أن يصنع لأمة مجدا وتنمية، ويحفظ لها كرامة؟ وإن لم يكن هذا الذي تريده أن يقيم العدل ويتحرى المصلحة العامة على درجة من التقوى والاستقامة، كيف تأمنه على تدبير شؤون الناس، وتنتظر منه أن يكون مخلصا لبلده وأمته.

وقد جاء العدل والإحسان في كتاب الله مقترنين في قوله عز وجل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، الآية 90 من سورة النحل، واعتبر بعض الصحابة وكثير من العلماء أن الآية في مجملها 1 أجمع آية للخير والشر، والتركيز على أحدهما على حساب الآخر يخل بمقاصد الإسلام وغاياته الرامية إلى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة.

لذلك فالبعد التربوي السلوكي ليس في تصورنا مسألة شخصية، تترك لذمة الأفراد ولاتعنينا، بل إن لها من الأهمية مثل ما لمطلب العدل وأشد. وهذا ما يفسر إلحاحنا على ضرورة اقتران الأمرين في برامجنا التي ينخرط فيها جميع الأعضاء، أيا ما كانت مراتبهم التنظيمية.

ما التأسيس الشرعي الذي يجعل العمل للأمة وفي الشأن العام شرطا لازما، في نظركم، لكل فهم وعمل شامل للإسلام؟

هناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة فضلا عن الدلائل العقلية والمنطقية وأقوال علماء أعلام، يؤكد كل ذلك أن الاهتمام بأمر الأمة من آكد الواجبات. يقول عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وفي آية أخرى يحذر من التشبه بقوم ذكر أنهم كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه. وورد في الحديث النبوي الشريف وعيد شديد لمن يظلم الناس ويعتدي عليهم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم”، وقوله عليه الصلاة والسلام: “إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم”. وأقوال العلماء العاملين لاتكاد تحصى.

لذلك فالتصدي للفساد والمطالبة بالإصلاح ليس من الدخول فيما لايعني، ولا هو شهوة لركوب المتاعب والتعرض للمحن بدون داع، إنما هو استجابة لنصوص الوحي ومقتضيات العقل والشرع وسنن الله الكونية. فالأنظمة الديمقراطية التي يتباهى بها كثير من الناس اليوم لم تأت على طبق من ذهب، وإنما كانت نتيجة صراع طويل مع الاستبداد والفساد. وتأملوا، رحمكم الله، هذا الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هل كان سيمتد بهذا الحجم المخيف لولا سكوت أكثر الناس، وعدم اكتراث البعض أو إيثارهم سلامة الطاعم الكاسي؟ وهل كان للاستبداد أن يتغول أصلا، ويستأثر بالسلطة والثروة لو وجد من يأخذ على يديه، ويأطره على الحق أطرا ويلزمه به. أحيلكم على حديث السفينة 2 فإنه حديث بليغ في موضوع التصدي للفساد والمفسدين.

كيف يمكن الجمع بين مقتضيات الإحسان والتربية والتزكية ومتطلبات العدل والسياسة والتدافع، ولكل منهما موضوعه ورهانه ولغته؟ إذ يبدو أن الأمر مستعص ومعقد.

إن كان للعدل موضوعه ومقتضياته وللإحسان موضوعه ومقتضياته فهما ليسا جزيرتين منفصلتين عن بعضهما البعض، وإنما بينهما تكامل وتداخل. والصعوبة لا تكمن في عدم إمكانية الجمع بينهما، وإنما تكمن أساسا في فهم خاطئ نشأ منذ أمد بعيد كرّس الفصام بين المجالين، حتى ظن البعض أنهما لا يلتقيان أبدا، لا في التصور ولا الممارسة، وأن استحضار أحدهما يقصي بالضرورة الآخر. وهذا خطأ كبير، وكانت له آثار سيئة.

صغ ما شئت من البرامج ومن القوانين الجيدة شكلا ومضمونا، فإذا لم يكن الإنسان على درجة معتبرة من الصلاح وتقدير المسؤولية، فإن النصوص والبرامج ستبقى في واد والواقع في واد آخر.  لايمكن للإنسان الفاسد أن يصلح. فالتربية على الإخلاص لله وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعدم المساومة على المبادئ… كل هذه الأمور لاتتأتّى بمجرد الخطب والكلام الذي لايقترن بعمل دؤوب، وبرنامج عملي لتهذيب النفس وتزكيتها حتى تلين وتستقيم على العمل بتجرد، وعلى ما ينفع الناس دنيا وأخرى، لاتبتغي بذلك جزاء ولاشكورا.

ومن جهة أخرى فإن صلاح الفرد وحده غير كاف، وتقواه ستؤول إلى إسلام متقلص إن لم تثمر عملا ينفع بلده وأمته. ذلك أن الاهتمام بأمر الأمة دين من الدين، والانسحاب من الشأن العام هو الذي جرأ المفسدين على التمدد في المجتمع، وتبديد ثرواته، ونهب خيراته، والتمكين للمحاسيب والمتملقين والغرباء، وتهميش الأقوياء الأمناء، حتى تردت أوطاننا إلى هذا المستوى المخيف من الانحطاط والتخلف.

ولذلك فإننا في جماعة العدل والإحسان نومن بأن الجمع بين العدل والإحسان مسألة غاية في الأهمية وليست عملا تحسينيا أو ثانويا يمكن تجاوزه. لكن هذا الاقتران ينبغي أن يكون متوازنا، يعطي لكل مجال ما يستحق من العناية والاهتمام، لايغلب أحدهما على الآخر.

لكم موقف وتحليل ورأي في الواقع السياسي. ما جوهره؟ وماذا تقترحون للخروج مما ترونه اختلالا وانحرافا؟

المشكل الجوهري في النظام السياسي المغربي هو الاستبداد وقرينه الفساد، وعنهما تتفرع كل المشاكل التي يتخبط فيها المغرب والمغاربة: مشاكل اجتماعية وتستفحل، ومشاكل اقتصادية وسياسية وإدارية وتزداد. وما لم تحل مشكلة النظام السياسي القائم على الاستفراد بالسلطة والثروة، فإنه لا أمل للخروج من هذه الأزمات التي يعيشها البلد. هذه حقيقة أصبحت واضحة للجميع وضوح الشمس، ومن يحاول أن ينكرها أو يلتمس لها الأعذار، فإنما يحاول عبثا، أو أنه يعمل من حيث يدري أو لايدري لتزييف الوعي وبيع الوهم للناس.

أما عن كيفية الخروج من هذا الوضع البئيس، فقد تحدثنا عن ذلك مرارا وتكرارا في ندوات وحوارات، بعضها مكتوب وبعضها بالصوت والصورة. وما وجدنا للمسؤولين استعدادا للإصغاء، لأن السلطة تعمي وتصم وتفسد، والسلطة المطلقة تفسد مطلقا، كما قال اللورد أكتون.

لذلك نحن نركز في المرحلة الراهنة على المطالب ذات الأولوية، وعلى رأسها مطلب الحرية: حرية التعبير، حرية التنظيم، حرية الحركة، حرية التجمع… الحرية ثم الحرية ثم الحرية. بعدها يمكن أن ننظر في الصيغ المناسبة للتوافق على خارطة طريق، وبداية صحيحة من أجل التغيير المنشود.

تتخذون موقع المعارضة السياسية للنظام الحاكم ولعبته السياسية والانتخابية منذ تأسيس الجماعة قبل 40 سنة. ألا تفكرون في تغيير هذا الموقع وبناء موقف جديد يتأسس إما على مشاركة من الداخل يمكن أن تفضي إلى إصلاح تدريجي، أو تسريع وتيرة الرفض والانتفاضة الشعبية أو ما يسمى في أدبيات الجماعة “القومة”؟

لا نعارض من أجل المعارضة، وإنما لأسباب ذكرت أهمها آنفا، ولاتزال هذه الأسباب قائمة. والواقع الذي نتحدث عنه ليس غائبا نعرضه بروايتنا الخاصة حتى يقال ربما نتزيد أو نبالغ، وإنما هو مشاهد تراه الأعين ويكتوي بلظاه السواد الأعظم من الشعب. ظلم وفساد ورشوة ومحسوبية وحكرة واحتكار لخيرات البلد، وتفاوت اجتماعي مهول ومخدرات ودعارة وتعليم رديء وصحة معتلة وسكن غير لائق، واللائحة طويلة. لذا فدواعي الاعتراض الشرعية والسياسية قد زادت ولم تنقص.

أما المشاركة من داخل المؤسسات القائمة من أجل الإصلاح التدريجي، فهذه خرافة لم يعد يصدقها أحد. وقد سلكت هذه الطريق أحزاب شتى يسارية وليبرالية وإسلامية وفشلت كلها وبدون استثناء فشلا ذريعا. فهل من الحصافة في شيء أن نسلك طريقا سلكه غيرنا وانتهوا إلى ما انتهوا إليه من الخيبة والفشل وفقدان المصداقية؟ فلا هم نجحوا في الوفاء حتى ببعض وعودهم، وأدناها تحسين الوضع المعيشي للفئات المتضررة ولو بدرجة متواضعة، ولاهم حافظوا على مصداقيتهم التي استغرق بناؤها زمانا وكلف بعضهم ثمنا باهظا.

أما تسريع وتيرة الرفض والانتفاضة الشعبية، فهذه لا ندعي أننا نمتلك كل خيوطها، لا نحن ولا أي طرف آخر. ولم يسبق لأحد في الثورات التي قامت في تاريخ البشرية أن امتلكها كلها. فالتحولات الاجتماعية تتحكم فيها عدة عوامل، بعضها في مكنة البشر وبعضها يتجاوزهم، ومن الناس من يكون له نصيب معتبر من القدرة والمساهمة، ومنهم من يكون له دون ذلك. ولابد من التقاء العوامل الذاتية والموضوعية، الإرادية والتلقائية، الكسبية والقدرية في لحظة ما من أجل انطلاق الشرارة الأولى للتغيير. نبذل ما في وسعنا لإبراء الذمة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

لموقف المعارضة الصلبة للسلطة القائمة أثمان من الحرية والتضييق والحياة حتى. ما كان نصيب الجماعة من ذلك طيلة هذه العقود من الزمن؟

بالطبع الصدع بكلمة الحق والثبات عليها له ثمن. وقد كان لجماعة العدل والإحسان منذ التأسيس، وعلى مدى أربعين عاما، نصيب وافر من كل أصناف العسف والتضييق: مداهمة البيوت لمنع مجالس النصيحة، اعتقالات تراوحت مددها ما بين بضعة أسابيع إلى ما يقرب من عشرين عاما لبعض شباب الجماعة، وتم التضييق على عدد من الإخوة في أرزاقهم، وشمعت عدة بيوت بدون سند قانوني، وأقصي العشرات من الأعضاء من التوظيف، وأعفي آخرون من مهامهم، ومنعنا من دون الناس من حقنا في اتخاذ مقرات خاصة، والاستفادة من الفضاءات العمومية، ومن التخييم في الشواطئ، بل وحتى خروج الأسر إلى المنتزهات تعرض للمنع، وكل هذا موثق، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره. فإلى الله جبار السماوات والأرض المشتكى.

ومع كل ما ذكر وما لم يذكر من عسف وحيف، فإنه لايزال يحدونا أمل كبير في التخلص من التسلط السياسي والفساد المستشري بعون الله ثم بإرادة الأحرار في هذا البلد. ولئن تمكن النظام المخزني من تدجين البعض أو استمالة آخرين، فإنه لن يتمكن بإذن الله من ترويض الأخيار في هذا البلد. ولايزال رجال ونساء وشباب، والحمد لله، يهتمون بأمور بلدهم وأمتهم، ويسعون جهدهم للمساهمة في بناء نظام سياسي عادل يتطلع إليه الجميع. وبقدر ما تتوالى المحاولات لتجريف المشهد السياسي ونشر الإحباط واليأس، بقدر ما تزداد أهمية وجود من يقول كلمة الحق، ويندد بالجور، ويبقي بذلك على جذوة الأمل في إمكانية التغيير المنشود متقدة في العقول والنفوس.

تُبنى السياسة فهما وممارسة في الزمن المعاصر على الرؤية الماكيافيلية، القائمة على المصلحية الذاتية، وعلى التلوّن بكل لون حسب مقتضى الحال، وعلى أن السياسة ليس لها أخلاق وأنها بدون مبادئ، وعلى أن السياسي يمكنه أن يدوس كل القيم للوصول إلى الأهداف. ما رأيكم؟ وهل من رؤية فلسفية أخرى ترونها للسياسة ووظائفها؟

ليس من معاني السياسة، على تعددها، ما يفيد القدح والذم، بل بالعكس. فالقيام بما يصلح أمر الناس وشؤون البلاد من حكم ودولة شيء محمود عند العقلاء من كل الملل، وفي الإسلام يثاب المتصدي للشأن العام إن استقام وأخلص النية وأحسن العمل.

المشكلة أنه نشأت ثقافة، وظهرت نظريات وممارسات في الغرب خاصة، ثم راجت بين مختلف الشعوب، أساءت لمفهوم السياسة الأصلي، وشوهت معناه حتى أصبح كثير من الناس يتبرمون من مصطلح السياسة وينفرون منها. وقد يكره الواحد أن يوصف بأنه سياسي حتى وإن كان يشغل منصبا سياسيا. السياسة غدت مرادفة لدى الكثيرين للمكر والخداع وإخلاف الوعود، والكذب والنفاق وغيرها من الصفات المذمومة. وأصبح البون شاسعا بين السياسة والأخلاق والقول والفعل. وكان لهذا التردي المؤسف آثار كارثية.

وإذا كان لمواقف الناس السلبية مبررات يمكن تفهمها لما يرونه من ممارسات منحطة، فإن هذا لا يسوغ الاستسلام لهذا التردي الأخلاقي الذي تكرسه مقولات مثل الغاية تبرر الوسيلة، والمصلحة أسبق في الاعتبار وإن اقتضى الأمر التضحية بالمبادئ وحقوق الشعوب، وأن تكون قويا فأنت على حق، وغير ذلك من العبارات التي تمتح من قانون الغاب.

لنا مرجعيتنا الإسلامية التي منها نستمد مبادئنا وأخلاقنا في ممارسة السياسة، وما ينبغي أن ننساق مع التيار الغالب حتى لا نفقد إنسانيتنا. وترك لنا الإسلام مجالا لتدبير التعامل مع من لا خلاق لهم ولا ذمة. فلست بالخب ولا الخب يخدعني، كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه.

يلاحظ باحثون أن المفاهيم الأولى التي انطلقت منها جماعة العدل والإحسان: الفتنة، توبة الحاكم، العض والجبر، الشورى، الخلافة، الدعوة والدولة… تراجعت في الخطاب السياسي للجماعة، لصالح مفاهيم معاصرة من قبيل: الحرية، التعددية، التداول، فصل السلط، الحقوق والحريات، الدولة المدنية. إلى ماذا يعزى ذلك؟ هل هو تطور طبيعي في الفكر، أم تجديد في لغة الخطاب والتواصل لا أكثر، أم تغيير مسّ جوهر المشروع السياسي للجماعة؟

أنا لم ألاحظ هذه الملاحظة، ولا أحسب أنها دقيقة. فالمفاهيم التي ذكرت مثل الفتنة والعض والجبر والخلافة وغيرها مفاهيم إسلامية أصيلة وتستعمل عند الاقتضاء. ولكل مقام مقال. وموضوع النقاش هو الذي يحدد المصطلحات التي تناسب السياق. فلو كنا نتحدث، مثلا، عن تطور نظام الحكم في تاريخ المسلمين، لتحدثنا عن الخلافة الراشدة، ثم النظام الوراثي الذي أعقبها وتمثل فيما أسماه الحديث النبوي الشريف بالملك العضوض والملك الجبري. ولو كنا نتحدث عن خصائص الخلافة الراشدة التي تميزها عن الملك، لقلنا إن العدل والشورى واختيار الحاكم وخضوعه للمحاسبة كان من أبرز تلكم الخصائص. ولو سألتني عن التوصيف الذي ينطبق على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لاستعملت كلمة فتنة باعتبارها مصطلحا مناسبا لذلك. ولعل الإمام عبد السلام ياسين كان من أوائل من اعتمد هذا المفهوم لما يقتضيه من رفق مع أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتراسا من الأفهام الخاطئة التي ترتبت على استعمال مفهوم الجاهلية. وهكذا. فالمسألة إذن راجعة لطبيعة موضوع النقاش.

وأما حين نتحدث عن المغرب، وعن نظام الحكم فيه، وعن البديل المطلوب، وماهي معالمه وشروطه، فإنه لايمكن إقحام مسألة الخلافة هنا لسبب بسيط وهو أن الموضوع يتعلق برقعة جغرافية معينة من بلاد الإسلام وهي المغرب وليس كل بلاد الإسلام. فالذي يعني المغاربة في المرحلة الراهنة هو وجود نظام سياسي عادل يبدّد ظلمة قرون الفساد والاستبداد. ولا عيب أن نستعمل، من أجل التواصل، مصطلحات متعارف عليها بين الناس، إن كانت لاتتناقض مع روح الإسلام ومبادئه. فلا مشاحة في الاصطلاح كما يقال. فالمهم هو المضمون وأن نتفاهم على ماذا نريد وكيف الوصول إليه. ولسنا من هواة الدخول في معارك جانبية، أو الانشغال بقضايا هي في أحسن الأحوال ليست من الأولويات.

باعتبار مرجعيتكم الإسلامية، استقرّ في النظر الفقهي والشرعي أن الدولة -ومعها السياسة طبعا- غايتها الأساس خدمة الدين والتمكين له، حتى شاع القول أن إقامة الحكم الإسلامي هو “خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”، وأن الغاية الجوهرية للدولة في الإسلام هي “حمل الكل على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخرويَّة والدنيويَّة الراجعة إليها”. هل تشكل هذه الفكرة جوهر البديل الذي تطمحون إليه؟ أم أن لكم نظرا وطرحا آخر؟

العبارات التي ذكرت في سؤالك أوردها ابن خلدون في معرض حديثه عن أنواع السياسات، فميز رحمه الله بين السياسة الطبيعية والعقلية والشرعية. ومؤدى كلامه أن النوع الثالث هو أرقى من الأول والثاني، وإن لم يلغ الثاني من الاعتبار كلية. لكن قبل السؤال عن أي السياسات أجدر أن تتبع، فإنه ينبغي طرح سؤال آخر عن طبيعة المجتمعات التي نعيشها وحجم التغيرات التي طرأت عليها. فالنظام السياسي لا ينزل في فراغ، وإنما على واقع، ولابد من معرفة دقيقة لهذا الواقع. فإذا كانت مجتمعاتنا متجانسة إلى حد كبير من حيث المرجعية الثقافية والإسلامية، نظرا لتجذر الولاء للإسلام في النفوس والقلوب، فإن هناك تيارات أخرى قد أصبح لها وجود في هذه المجتمعات، وتنطلق من مرجعيات مختلفة لتطرح رؤيتها للمشروع المجتمعي الذي تريد إقامته.

هذا المعطى، وهو وجود تيارات متباينة، بصرف النظر عن امتداد كل تيار في المجتمع، يقتضي تدبيرا جديدا، نظريا وعمليا، كأن تكون الأولوية هي حصول التوافق على الحد الأدنى الذي يمثل المشترك بين أبناء البلد الواحد، ثم بعد ذلك يكون التنافس بين مختلف الاجتهادات لخدمة الصالح العام.

وهكذا يتم تأمين الحرية للجميع، وضمان التعددية، والتداول السلمي على السلطة، ولا يحتكرها أحد ضدا على إرادة الشعب.

أعرف أن الفكرة ربما تحتاج إلى تفصيل أكثر ليس هنا مكانه، لكن الذي أريد التأكيد عليه هو أن خدمة الدين لا تتأتى دون خدمة دنيا الناس، ولا يمكن أن تتخذ ذريعة لكي تستفرد طائفة من المسلمين بالحكم والسلطة بدون رضا الشعب. فالاستبداد يجب أن يجتث، سواء تزيّا بزي الدين أو النسب أو المصلحة كالغيرة على الوطن أو لضرورات المرحلة أو أي ذريعة فكرية أو سياسية أخرى.

ضمن هذا البديل، ما الضامن لأن يصل إلى السلطة غيركم؟ ما الضامن بأن لا تستقووا بقوتكم وعددكم ومؤسسات الدولة حينها فتغلقوا الشأن العام وتمنعوا بوسائل القانون والإكراه غيركم، ممن يخالفكم الإيديولوجيا والمرجعية والغاية، من حقه في الوصول إلى السلطة والحكم وتطبيق برنامجه؟

هذا السؤال مرتبط بالذي سبقه، وقد قلت إن الاستبداد يجب أن ينتهي إلى غير رجعة، أيا ما كانت الحجة التي يتذرع بها لاحتكار السلطة. فمن يزعم أن لديه استراتيجية أفضل للنهوض بالبلد، والقدرة على السير به ليبوئه مكانة محترمة بين الأمم، فليقنع بمشروعه الناس. فإن اختاروه في انتخابات حرة ونزيهة، فينبغي أن يسلم دفة الحكم، لايحال بينه وبين ذلك، لينفذ برنامجه، ويتبين للناس ما هو فاعل. وهذا يعني بالضرورة وجود ترتيب دستوري وقانوني يجعل موقع السلطة مجالا مفتوحا لمن يحظى بثقة الناس لتسيير شؤون البلد.

فهذا ما نراه لقيام نظام سياسي سليم، تكون فيه الكلمة للشعب وللكفاءة والنزاهة والأمانة، وليس للزبونية والمحسوبية والخداع والتسلط. وقد جاء في كتاب العدل للإمام عبد السلام ياسين فصل يتحدث عن واجب المعارضة وضرورتها. فالنظام الذي ليس فيه معارضة قوية مآله الارتخاء فالفساد فالانهيار. لذلك فالمنافسة ضرورية لقوة النظام السياسي وفعاليته. والحكم بطبعه يتعب وينهك، ولايمكن لأي طرف أن يمسك به أمدا طويلا، ويحافظ على جودة الأداء. لابد أن يأتي وقت يضعف فيه أداؤه، وتقل إنجازاته، وتتقلص إبداعاته لمعالجة ما استجد من مشاكل، فيميل الناس عنه، ويسأموا من حكومته، ويختاروا غيره. هذه الحركية مهمة جدا وينبغي أن توضع لها الضمانات الدستورية والقانونية لحمايتها، ولسد كل المنافذ التي يمكن أن يتسرب من خلالها الاستبداد اللعين.

سألني ذات يوم مجموعة من الباحثين، أمريكيين وأوربيين، في ندوة دعيت إليها عما إذا كنا سنستعمل الديمقراطية حتى إذا ما تم اختيارنا، كسرنا السلم الذي كان وسيلة صعودنا. قلت لهم سأجيبكم باللغة التي تفهمون: لن نفعل ذلك لسبب بسيط وهو أنه ليس في مصلحتنا. الذي في مصلحتنا أن يبقى السلم ليبقى الصعود والنزول آمنا للجميع. ومن الخير لك أن تنزل بسلام إذا رفضك الناس عوض أن يطوحوا بك من أعلى السطح على أم رأسك. لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية حقيقية إذا كانت ستكون في اتجاه واحد، وبانتخابات مرة واحدة ثم تكسر صناديق الاقتراع إلى الأبد. وما الفائدة إذا كنا نطالب بزوال الاستبداد ثم نقيم مكانه استبدادا آخر مثله أو أسوأ منه؟ ملخص القول إن الحس التاريخي والقدري يشير إلى أن الأنظمة الاستبدادية لا مستقبل لها في العالم العربي والإسلامي، وأنها إلى زوال عاجلا أو آجلا، وأن المستقبل للحرية والسلطة الشرعية وكلمة الشعوب، ولن يغالب أحد هذا الدفق التاريخي القادم بإذن الله إلا غلبه.

دعنا أستاذ عبد الواحد متوكل نقول بأن هناك سوء فهم كبير للخلافة على منهاج النبوة التي تحدث عنها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في كتبه وبشّر بها. هلا أوضحتها مجددا، وبشكل ضاف، سواء على مستوى الزمن أو الشكل أو الجوهر؟

تحدثنا عن هذا الموضوع مرارا. لا بأس. نكرر حتى تضح الصورة لمن يريد أن يفهم فأقول: إن الخلافة على منهاج النبوة أو الراشدة مصطلح إسلامي يحيل على مرحلة مباركة من تاريخ المسلمين. وتسجل كتب التاريخ الموثقة ودراسات المنصفين من غير المسلمين أنها كانت فترة متألقة، لا سيما إن وضعت في سياقها الزمني وقورنت مع ما كان موجودا لدى الأمم المعروفة آنذاك.

وقد تسمّى شكل الحكم الذي أعقب وفاة الرسول صلى عليه وسلم بالخلافة الراشدة لأنها لم تكن بالإكراه ولا بالوراثة ولا بالتفويض الإلهي، وإنما قامت على أساس الاختيار والشورى، وانبسط في ظلها العدل والاستقرار، ولقيت قبولا وتقديرا لدى عامة المسلمين، ولاتزال إلى يوم الناس هذا.

ومع ذلك فإن الإسلام لم يحدد شكلا معينا لنظام الحكم، ولا ألزم الناس بشكل معين للاقتصاد ولا للإدارة. إنما ترك مبادئ وقيما، هامة بكل تأكيد، وترك للمسلمين الاجتهاد في إبداع الأشكال التي تناسب زمانهم وظروفهم.

وقد قلنا غير مرة إن الشكل التاريخي غير ممكن اليوم لتعقد الحياة وتغير الظروف وليس مطلوبا، وإنما الذي يعنينا هو المضمون. وأي شكل من نظام الحكم يكون برضا الشعب ومشورتهم، ويحقق العدل والإنصاف والمساواة، ويصون حقوق الناس، ويحفظ لهم كرامتهم، فسنكون أول من يرحب به. فأين المشكل إذن؟

ولكيلا يقول قائل إني أناور، أو هو نوع من المسكنة أملته الضرورة الراهنة، أذكر هنا كلاما نفيسا لأحد العلماء الأعلام وهو من القرن الثامن الهجري (ت 751ه) / الرابع عشر الميلادي (ت1350م)، المعروف بابن القيم، يقول رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:

إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه…

ثم يضيف:

بل قد بيّن سبحانه بما شرع من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط. فأي طريق استخرج بها العدل والقسط، فهي من الدين وليست مخالفة له. فهل هناك كلام أوضح من هذا؟

وقد أشرت آنفا إلى أن الخلافة الواردة في الحديث النبوي الشريف، تعني، بقيمها الربانية لا بشكلها التاريخي، الأمة الإسلامية كلها، وليست قضية هذا البلد أو ذاك. فهي مسألة أمة ومسألة أجيال. ويوم تتحرر الأقطار العربية والإسلامية من أنظمة الاستبداد، ساعتها يمكن أن يتحدثوا حديث الأحرار، ويتناقشوا في أشكال الوحدة أو مستوياتها الممكنة في عالم لايقيم اعتبارا إلا للتكتلات الكبيرة والقوية. أرجو أن أكون قد وضحت.

ختاما هل لك أن تَذْكر لنا عددا من الأفكار السياسية الخلاقة التي تقترحونها على الأمة؟

عبارة “أفكار خلاقة” كبيرة علي (وبزاف ما شي شوي) لا أدعيها لا اليوم ولا غدا.  لنغلق منفذا من منافذ الشيطان الغرور ولنتحدث عوض ذلك عن مجرد بعض الآراء أو الاقتراحات التي قد تصلح أن تكون موضوع نقاش. في الأجوبة الآنفة وردت بعض الآراء ربما يجدها البعض مستغربة أو مفاجئة حتى، لكنها نتيجة نقاش عميق، وتأمل طويل لما يمكن أن يصطلح عليه “بفقه المرحلة”. خذ مثلا هذه الفجوة الكبيرة الفاصلة بين الواقع والمثال وما تطرحه من إشكالات. فهناك كلام كثير عن الواقع، وإبداع في وصفه، وتبيان اختلالاته بل مخازيه. والمكتوبات في الموضوع مستفيضة بل وصلت حد التخمة. وهناك أيضا كلام كثير عن المثال التي ننشده ونتطلع إليه، عن العدل في الحكم والعدل في توزيع الثروة وعن كرامة الإنسان وغير ذلك من مواصفات الحكم الديمقراطي الرشيد.

لكن السؤال الأهم الذي نرى أنه لم يحظ بالعناية التي يستحق هو: كيف العبور من الواقع الرديء الذي نعرفه ونكتوي بلظاه إلى المثال الذي نتشوف إليه ونحلم به؟ التغيير العميق الذي يحتاجه مجتمعنا ليس ضربة لازب أو يحصل بجرة قلم. نقول هذا استحضارا لسنن الله الكونية في تطور المجتمعات، وإلا فإن الله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء. السؤال إذن هو ما هي الاقتراحات العملية ليكون هذا العبور آمنا سلسا قاصدا، بأيدينا لا بأيدي الدخلاء الغرباء، وبأقل الخسائر الممكنة، يعطي للوقت نصيبه، والزمن جزء من العلاج، وللتوافق اعتباره، وهو من ضرورات المرحلة، وللصبر والمصابرة حظهما، وهما من شروط العمل الجاد والنفس الطويل؟

ويزداد الأمر صعوبة إذا علمنا أننا في بلادنا لم نعد بصدد مثال واحد ووحيد، وإنما أصبحت هناك مثل وتصورات شتى، تتقارب حتى التماهي، وتتباعد حتى التناقض الحاد. فما العمل والحالة هذه؟ هناك من يلجأ إلى الحل السهل الممتنع ويقول الأغلبية تقرر وينتهي المشكل. فهل سينتهي المشكل؟ وما أحداث ما سمي بالربيع العربي عنا ببعيدة. نحتاج إلى تفكير عميق في “تدبير مرحلة الانتقال” و”ثقافة التوافق”، و”المقاربة الجماعية” لتجاوز سياسة فرق تسد؛ نحتاج إلى التفكير في الاتجاه الأفقي، وليس فقط في الاتجاه العمودي والعمودي وحده. ها نحن كدنا ندخل في النقاش. فهل من متابعة للموضوع؟ أرجو.


[1] قال تعالى في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
[2] عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رضي اللَّه عنهما، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا رواهُ البخاري.