الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (3)

Cover Image for الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (3)
نشر بتاريخ

4) الدعوة والنصيحة عبر التأليف والكتابة

انشغل الإمام طيلة حياة الشيخ العباس بالتعريف به والدعوة إلى مأدبته، وقل اهتمامه بالمسألة العلمية والثقافية التي كان له فيها باع طويل من خلال “عصاميته” وإقباله الشديد على القراءة ومؤلفاته في التربية والتعليم 1.

وبعد التحاق الشيخ العباس بالملأ الأعلى مطلع سنة 1972، عاد للكتابة بعد أن نضجت أفكاره وصقلتها التجربة الإيمانية، عاد إليها دعوةً إلى الله عز وجل، وعرضا لتصوره لقضايا التربية وتغيير الإنسان، والتجديد، والعلاقة بين الدعوة والدولة…

4-أ) كتابا “الإسلام بين الدعوة والدولة” و”الإسلام غدا”

كتب كتابي “الإسلام بين الدعوة والدولة” سنة 1972 و”الإسلام غدا” سنة 1973. قال في هذا رحمه الله: “ومنذ ثلاث سنوات بعد وفاة شيخي كتبت كتابين، كتبتهما لأتعلم قبل النية الثانية وهي أن أبشر بالإسلام وأدعو إلى الله.” 2

كانت الزاوية هي المخاطب الأول بالكتابين، وكان الإمام يأمل أن تصحح الوجهة وتقوم الزاوية بحمل مشعل التغيير المنشود والنهوض للدفاع عن الإسلام… ولكنها تحولت إلى “مركز استهلاك” و”دخلها الأثاث وغزتها الهدايا” 3، فقوبلت نصيحته بالرفض… يقول رحمه الله: “نَعَم ربانا الصوفية جزاهم الله عنا خيرا، فوجدناهم أصفى الناس قلبا وأسماهم وأشدهم إقبالا على الله، ما خاصمناهم إلا في تعودهم على أسلوب الانزواء، ثم سكوتهم عن ترهات يستنبطها بعض الطائشين ممن ينتسبون إليهم ويلصقونها بهم” 4

4-ب) دعوة الحاكم: رسالة “الإسلام أو الطوفان”

وسنة ثلاث وسبعين وتسعمائة وألف 1973، انفصل الإمام عن الزاوية ونـحى بدعوته منحىً مغايراً، فكتب رسالة نصيحة لحاكم البلاد يدعوه فيها إلى توبة عمرية وإقامة العدل وردّ المظالم… وهل النصيحة إلا دعوة صادقة تتغيّى انتشال المنصوح من وهدة الغفلة عن خالقه ودلالته على سبل الهدى… سرد الإمام على الملك في هذه الرسالة تاريخ رجال كانت لهم بصمة كبيرة في تاريخ الأمة عسى أن يلقى ذلك قبولا وترحيبا لديه فيحذو حذوهم ويتحمل مشروع الدعوة، لكن الرد كان عنيفا فاعتقل الإمام وقضى ثلاث سنوات وستة أشهر دون محاكمة في الاعتقال، بينما قضى صاحباه الأستاذ محمد العلوي السليماني والأستاذ أحمد الملاخ رحمهما الله أزيد من خمسة عشر شهرا بالمعتقل السري بدرب مولاي الشريف.

4-ج) الدعوة عبر الإعلام: “مجلة الجماعة”

وسنة 1978 بعد خروجه من الاعتقال التعسفي ومنعه من الدعوة في المسجد، طرق باب الإعلام. وقال في ذلك: “من يريد أن يبلغ كلمته ينبغي أن ينشرها”[5]، وقال: “لم يزرني إلا قليل جدا من أصدقائي القدامى من المعارف، مضت شهور -بعد خروجه من المعتقل – ففكرت أنا وإخوتي… في إصدار مجلة، لتكون هي حاملة رسالتنا ومبلغة كلمتنا” 5.

وفي فبراير سنة 1979، بعد عنت كبير وصعوبات شديدة بسبب قلة ذات اليد وقلة التجربة والنصير، أصدر وصاحباه مجلة “الجماعة” لتكون منبراً للإسلاميين وأداةً للتواصل بينهم والتحاور، ووسيلة للدعوة وتصحيح المسار، كما حثّ فيها الشباب الإسلاميّ الذي أذهله واقع تشرذم العمل الإسلامي، على التهمم بالدعوة والاشتغال بها وتبليغها… فقال: “قوموا لتبنوا لهذه الدعوة أساسا جديدا لتبسطوا لهذه المأدبة أسمطة البسطاء المتواضعين، في المساجد مع الشعب، في مجالس القرآن والإيمان” 6.

وقدم في المجلة تصوره للقضايا التي تهم الدعوة إلى الله في صورة منظمة مبسطة جامعة لما ينبغي أن يعرفه العاملون للإسلام، كما تضمنت مقالاته بالمجلة توجيهات رشيدة وثمينة للشباب: “إن أول فريضة على من أراد الدعوة إلى الله هي توحيد المسلمين ومحبتهم وأخوتهم وإعانتهم وولاؤهم والأخذ بحجزتهم وتربيتهم برفق وتؤدة، لا نعنف عليهم من أجل نافلة خلافية.” 7، وخصص فيها عمودا يحمل عنوان (الحوار) يقول فيه :”هذا باب دائم بحول الله في مجلتنا هدفه اللقاء للتبادل الفكري، ونعلم بالتجربة أن غلق الأبواب والتزمت أسلوب غير إسلامي” 8.

أضحت المجلة منبرا يعرض عبره الإمام فكره وتصوره، ووسيلة للتواصل والالتقاء، وهكذا صار بيته قبلة لشباب صادق، قصده حائرا سائلا مستفسرا باحثا، متحديا أجواء الخوف والترهيب المضروبة على الإمام، ومتخطيا ما قد يترتب عن زيارته من عواقب أمنية لا تحمد عقباها؛ فالمراقبة البوليسية على بيته مشددة ليل نهار. وقد كان الإمام يستقبل كل من طرق باب بيته، ويستضيفه لجلسة أو يوم أو أيام، ويمنحه من الوقت والعناية والانتباه ما يكفيه، ينصت ويستمع ويضمد الجراح ويشجع ويوجه…

4-د) الحوار مع النخب المثقفة

سعى الإمام رحمه الله تعالى طيلة تجربته الدعوية إلى مد جسور التواصل مع النخب المثقفة بالبلد وتبليغها دعوة الله وخبر الآخرة، واعتبر ذلك تكليفا شرعيا لا مناص من القيام به، فمثل مبدأ أصيلا في فكره ومنهاجه، لاقتناعه الراسخ بأن الحوار واجب لأننا، يقول، “حملة رسالة نحن يا إخواننا في البشرية ودعاة، تتمزق قلوبنا حسرة على العباد، لا كما تظنوننا منافسين سياسيين متزمتين مضمرين العداوة المبدئية والعنف ونية التدمير للعالم.” 9، و”نخاطب من وراء واجهات الأحزاب والمنظمات والنقابات كل ذوي المروءات والذمم أن يتوبوا إلى الله” 10، والحوار ضروري: “ثم إن هذه الصفحات، وإن جاءت تحت عنوان حواري موجه لفئة من الناس، قصدها الأول والثاني عرض القضية الإسلامية ومشروع المجتمع المسلم على جمهور المسلمين” 11، وعليه ظل “ينادي به -الحوار- ولا يزال في كل ما كتب ويكتب منذ ثلاثة عقود مع كل الفاعلين والمنصتين لنبض الشعب المقهور، بدءا بـ (الإسلام أو الطوفان) في أواسط السبعينيات، مرورا بحوار إسلامي مع النخب المغربة بالفرنسية في بداية الثمانينيات، وانتهاء بسلسلة الكتب الحوارية خلال التسعينيات سنوات الحصار 12.

وعلى هذا الأساس خاطب الإمام النخب المثقفة بالبلاد، من فضلاء ديمقراطيين وأمازيغ وماركسيين وقوميين، من خلال مجموعة من المؤلفات الدالة عناوينها ومضامينها على هذا البعد الحواري، مثل: “الإسلام والماركسية اللينينية” (1987)، و”الإسلام والقومية العلمانية” (1989)، و”حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” (1994)، و”محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى” (1994)، و”حوار الماضي والمستقبل”(1997)، و”حوار مع صديق أمازيغي”(1997)، وناداهم للحوار وتجاوز الحساسيات والصراعات السياسية، والتوترات التاريخية وسوء الفهم والتواصل، والخوف والشك في النوايا، وقال في هذا الشأن: “لا يفيد أن نلوي أعناقنا أو نتناسى وجودًا مكثفا لطائفة تتفاوت علاقتها بالإسلام من العداء السافر، إلى التوتر الشديد، إلى الفضول المكبوت للمعرفة، إلى التضاد الحزبي، إلى الاستهتار والاستخفاف، إلى التعالي بالثقافة الموسوعية والاطلاع المحقّق” 13

وكان منهجه في الحوار رحمه الله عز وجل يتقيد بضوابط الدعوة إلى الله عز وجل والحوار وأخلاقياته، “فقد كان سلفنا من المسلمين يتأدبون في مجالس المطارحة والمناظرة مع الخصماء في الرأي بالآداب الرفيعة، تقربا وتحببا وإيناسا وتبليغا. يسعهم التلميح إن خشي من التصريح استيحاشا، وتتصدر الكلمة اللينة الخطاب فتبسط أمام المتناظرين من أسباب الرفق ما يمهد للتفاهم دون أن يمنع الإنصاف الذي يعطي كل ذي حق حقه” 14، ويقول في كتاب “الشورى والديمقراطية”: “الحوار عندنا جدال بالتي هي أحسن ومقدمة الجدال وموضوعه ومضمونه وغايته إسماع الدعوة “ 15.

وبعد تأسيس الجماعة، حث الإمام المثقفين من أعضائها على الانفتاح على هذه الفئة والتواصل معها. وهكذا بعد خروجه من سجن لعلو[17] سنة 1986، واستئنافه “مجالس الثلاثاء” التي كان يعقدها في بيته ويحضرها ثلة من الطلبة وبعض الأعضاء، خاصة من مدن الرباط وسلا والدار البيضاء وفاس، طلب إلى الحاضرين في مجلس من هذه المجالس قبيل شهر رمضان لسنة 1986، اغتنام فرصة هذا الشهر الكريم لعقد لقاءات تواصلية مع هذه الفئة…

كما سعى الإمام إلى التواصل مع النخب المُغربة وتبليغها رسالة الإسلام “لأنني أعلم أن الذين في يدهم الخبرة، والذين في يدهم القدرة على التنظيم، والذين في يدهم القدرة على تسيير دواليب الدولة، والذين في يدهم المال، والذين في يدهم المعرفة، هم هؤلاء النخبة المغربون.” 16.

فحاورها بداية من خلال كتاب «La révolution à l’heure de l’Islam»، الذي أصدره سنة 1980، ثم خاطبها من خلال المحاضرة التي ألقاها باللغة الفرنسية، بوزارة الثقافة بالرباط، يوم الجمعة 27 يونيو 1980، بدعوة من الدكتور زكي مبارك، والتي تحمل عنوان «  Pour un dialogue avec les élites occidentalisées » 17، ثم أعاد الكرة سنة 1998 بكتاب “Islamiser la modernité” 18.


[1] مثل كتاب “مذكرات في التربية” 1963، وكتاب “النصوص التربوية” 1963.
[2] “الإسلام أو الطوفان”، عبد السلام ياسين، ص 112، سنة 1974.
[3] نفسه.
[4] “مجلة الجماعة”، العدد 1، ص 67، سنة 1979.
[5] “حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين”، منير ركراكي وعبد الكريم العلمي.
[6] نفسه.
[7] “مجلة الجماعة”، العدد 1، ص 20، 1979.
[8] نفسه، ص 94.
[9] “مجلة الجماعة”، العدد 3، ص 134-135، 1979.
[10] كتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”، عبد السلام ياسين، ص 23، مطبوعات الأفق، 1994.
[11] مجلة الجماعة، العدد 1، ص 8، 1979
[12] “كتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”، عبد السلام ياسين، ص 4.
[13] بيان جماعة العدل والإحسان، بمناسبة مرور عشر سنوات على حصار الإمام المرشد رحمه الله، الجمعة 28 يناير 2000
[14] كتاب “الإسلام والقومية العلمانية”، عبد السلام ياسين، ص 129، دار البشير للثقافة والعلوم الإنسانية، سنة 1995.
[15] كتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”، عبد السلام ياسين، ص 2، مطبوعات الأفق، 1994.
[16] كتاب “الشورى والديمقراطية”، عبد السلام ياسين، ص 103.
[17] حوكم رحمه الله بسنتين سجنا سنة 1984 بسبب مقال نشره في مجلة الجماعة تحت عنوان “قول وفعل، رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام” الذي انتقد فيه “رسالة القرن” الملكية التي صدرت في دجنبر 1981.
[18] “حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين”، منير ركراكي وعبد الكريم العلمي.