الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (5)

Cover Image for الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (5)
نشر بتاريخ

5-‌د)    متابعة الحركة الدعوية بالمدن في اللقاء الشهري

كانت الجماعة في بداية التأسيس تعقد لقاءً شهريا ببيت الإمام بسلا عُرِف بــــ”اللقاء الشهري”، وهو لقاء يشرف عليه مجلس الإرشاد ويحضره الأعضاء من مدن شتى وهم قليل يومئذ، وكان لقاء تربويا تأهيليا، يـختتم بعد الجلسة الصباحية بجلسة للإمام ومجلس الإرشاد مع وفد كلّ مدينة على حدة يسأل عن سير الدعوة، فيوجه ويقترح ويشجع ويبارك.

5-‌ه)   التدريب على الدعوة

كان الإمام رحمه الله يعقد في بداية العمل لقاء أسبوعيا ببيته اصطلح عليه بـــ”مجلس الثلاثاء”، وكان مما يسأل عنه الإمام ويتابعه في “مجالس الثلاثاء” السالفة الذكر، ما تعورف عليه بــــ”الجولة الدعوية”، فقد كان رحمه الله يدفع الحاضرين دفعا “باش يصوروا عشاهم” 1، ليخوضوا تجربة شخصية في الانفتاح على الناس والتواصل معهم ومبادأتـهم بالكلام، فيسأل رحمه الله كل فرد فرد بمن اتصل وماذا قال وقيل له وبما شعر…

وكان ممن يحضر هذه المجالس ثلة من الطلبة من مدينة طنجة؛ الإخوة إبراهيم أكورار ومحمد العربي الطبلة ومصطفى السباعي، وكان هؤلاء يشاركون كباقي أعضاء المجلس في الجولات الدعوية بحي المحيط ووسط مدينة الرباط… وفي العطل الجامعية، كانوا يعودون إلى طنجة مشحوذين بروح “الجولة الدعوية”، فيتصلون بمن يعرفون ومن لا يعرفون… فشاركوا بذلك في تأسيس العمل بالمدينة ونشر الدعوة بنواحيها…

ومما يحكيه الأخ الطبلة رحمه الله عن هذه الحركة، أنهم كانوا يسافرون إلى المناطق والمدن المجاورة لطنجة، ويتصلون برواد المساجد بعد الصلاة ويحدثونهم عن الجماعة…

5-‌و)   الدعوة القطاعية

بعد مرحلة التأسيس، انتقلت الجماعة في سعيها المتواصل لتطوير عملها وأساليبه إلى مرحلة اتسمت على المستوى التدبير والتنظيم بالمأسسة، فأنشأت أجهزة ومؤسسات تخصصية تتصدى لشتى مجالات العمل ومنها القطاعات (التلاميذ، الطلبة، رجال التعليم…). وكان من أهم ما نصت عليه القوانين التأسيسية لهذه القطاعات نشر الدعوة وسط المنتمين للقطاع…

يحكي الأستاذان عبد القادر الفتوح وعبد الخالق الأنباري في هذا الشأن: “عقد لقاء تأسيسي لقطاع “رجال التعليم” للجماعة بمراكش في صيف 1987، وتم الاتفاق فيه على أن يبلغ كل واحد منهم الدعوة إلى عدد من رجال التعليم وعدد من التلاميذ… وفي صيف سنة 1988 عقد اللقاء العام لرجال التعليم بمدينة سلا وحضره الإمام رحمه الله، وانتظر الحاضرون أن يسأل عن الحصيلة، غير أنه بعد التذكير ببندي الاتفاق، اكتفى رحمه الله بقول ما معناه: “تتذكرون ما اتفقنا عليه في لقائنا السابق، فليحاسب كل منا نفسه، ما فعل وما لم يفعل”… وفي مساء نفس اليوم عُقد لقاء “للمجلس التنفيذي” وجلس الإمام إلى أعضاء المجلس من رجال التعليم، وقال لهم: “أما أنتم فأسألكم عن النتائج””. وما قاله الأستاذان الأنباري والفتوح عن قطاع رجال التعليم يسري على باقي القطاعات…

ويحكي الدكتور الصادق الرمبوق 2 عن نشر الدعوة في صفوف الطلبة بالجامعة بتطوان في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ويقول: “عند التحاقنا بهذه الكلية، كان من همومنا الكبرى نشر دعوتنا في صفوف الطلبة وتعريفهم بالجماعة؛ وقد كنا، نغتنم فرصة أي لقاء أو جلسة أو نشاط… لتبليغ الدعوة، وكنا نستدعي من نتواصل معهم من الطلبة لحضور جلسات نتداول فيها إحدى هموم الساحة الطلابية، ونعرفهم بالجماعة، وتنتهي بختمة قرآنية ودعاء، وكانت هذه الجلسات تترك أثرا طيبا جدا لدى الحاضرين… وكان من ثمرات ذلك، بفضل الله عز وجل، انتشار الدعوة في صفوف كثير من الطلبة والطالبات”.

5-‌ز)    نماذج دعوية متميزة

وأختم هذا الفقرة بنموذجين من جيل رجالات الجماعة المؤسسين؛ الأستاذ أحمد آيت عمي، والأستاذ إبراهيم عدي حميد رحمه الله عز وجل الملقب ببلال.

· فتح العمل بالمدن والمناطق العذراء؛ نموذج الأستاذ “أحمد آيت عمي”:

التحق الأستاذ أحمد آيت عمي بالجماعة سنة 1983، وبعد تخرجه من كلية العلوم بالبيضاء، التحق بالمكتب الشريف للفوسفاط بمصلحة المشتريات والتوريدات. وسنة 1986، طلب إليه الإمام رحمه الله الانتقال إلى مدينة الجديدة التي لم يكن للجماعة بها عمل، وعقد معه جلسة توجيهية يحثه فيها على نشر الدعوة بها؛ وقد كان هذا دأب الإمام كلما انتقل أخ إلى مدينة لم يكن للجماعة فيها وجود، سواء عيّـن بها في إطار مهنته أو طلب إليه الإمام ذلك.

يقول ذ. أحمد آيت عمي حفظه الله: “بعد استقراري بمدينة الجديدة سنة 1986 بطلب من الإمام رحمه الله، جلت على مساجد المدينة للتعرف على روادها والتعريف بدعوة الجماعة، ولكن لم أجد إلا خوفا ونفورا… وكنت كلما زرت الإمام وبـثـثت إليه شكواي وما أجده من صعوبات وإعراض قال لي: “عليك بالصبر، إن شاء الله ستجد في حي من الأحياء رجالا يستجيبون لدعوتك ويشدون عضدك”، فترتفع معنوياتي من جديد وأجدد العزم وأعيد الكرة، وهكذا بفضل الله عز وجل ثم مواساة الإمام رحمه الله وتشجيعه تأسست أول أسرة بالمدينة ثم صارت شعبة فجهة… ولله الحمد والمنة”. وعلى هذا المنوال انتشرت الدعوة بأكادير ونواحيها على يد الأستاذ عبد الهادي بلخيلية 3، وبتطوان على يد الأستاذ إبراهيم أكورار، وبخنيفرة على يد الأستاذ بنسالم باهشام وبخريبكة وبولمان والحاجب وغيرها من المدن والقرى…

· الأستاذ “إبراهيم عدي حميد” رحمه الله: حركة لا تفتر

كان بلال من أوائل من التحقوا بأسرة الجماعة بعد تأسيسها، وكان رحمه الله يكن حبا عميقا للإمام، وكان حين يسأل عنه يقول: “أنا مقصر في حق الرجل وفي حق ما يطلبه الرجل، فكيف لي أن أتكلم عنه فأوفيه حقه. نسأل الله أن يتجاوز عنا” وتنهمر الدموع من مقلتيه.” 4.

ولما التحق بلال بجماعة الأسرة تفانى في الدعوة إليها وخدمتها وبذل الغالي والنفيس من أجل توسيع دائرة المتفيئين بظلالها، فساهم رحمه الله 5 في بناء العمل بمدينة البيضاء وفي عدة مدن أخرى، وكان كلما نودي استجاب، فقام بطلب من إخوانه بزيارات دعوية لعدة مدن كميدلت وآسفي وأكادير وفاس ومدن الشمال… لا يتوانى ولا يتردد رغم قلة ذات اليد والمرض…  

تقول عنه زوجه السيدة زهرة: “موطور بلال مكانش كيريح” (دراجة بلال النارية لم تكن تعرف التوقف)، يتنقل طوال اليوم من حيّ إلى حيّ، ومن دار إلى دار، يطوف على الإخوان. وفي الأيام الأخيرة من حياته ورغم أن المرض اشتدّ به، لم يكن محرك دراجته يهدأ أثناء النهار وساعات من الليل طوال” 6.

ويقول عنه أحد رفاق دربه: «كانت له دراجة نارية قديمة كان يتحرك بها في الدعوة، وكان يركبها في الشتاء والبرد القارس، وكان من شدة فرحه بما سخّر الله له القيام به من شؤون الدعوة والتحرك في سبيل الله أنه مرةً وهو ممتطيها، وقد بلّل المطر لباسه ووصل جلده، استشعر فضل الله عليه واصطفاءه إياه، فبدأ يبكي فرحا بنعمة الله عليه«.

هكذا كان الرعيل المؤسس للجماعة صدقا وتفانيا في خدمة دعوة الله، فقد كانت الدعوة ودلالة الناس على الخير همّهم وشغلهم في أيّ حال وكيفما كانت الظروف من ليل أو نهار، في العسر أو اليسر، وفي حال الصّحة والمرض، وفي الأمن أو في الخوف، في البيت أو في السوق، وفي الإقامة أو السفر، لا يصدّهم عارض أو معارض، ولا يأبهون بكيد كائد أو حسد حاسد…

الخاتـمة

منح الإمام رحمه الله عز وجل طيلة حياته الكريمة المسألة الدعوية اهتماما خاصا، بل مثلت الدعوة جزءً من ماهية شخصيته لا تنفصل عنها، حاضرة ماثلة في كل حركاته وتحركاته، ومواقفه وأنشطته، حمل همها وعاش لها بكل ذرة من ذرات جسده الشريف، وفي كل ثانية من ثواني عمره المبارك… فالدعوة وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من بعدهم، وأعظم مهنة وأشرفها… ولا يسع من ارتضى المنهاج النبوي سبيلا، وطلب وجه الله عز وجل ورضاه غاية، إلا أن يعطيها بغير حساب ويهبها بغير حدود…

كان الإمام رحمه الله تعالى داعية إلى الله بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فابتلي في سبيلها أشد الابتلاء وأوذي بشتى أنواع الإيذاء، سجنا وحصارا وتفقيرا وتشنيعا… ولم يصرفه ذلك عن دعوته ونهجه طرفة عين، فظل صامدا في وجه الأعاصير ثابتا على نهجه متمسكا بدعوته إلى أن التحق بالرفيق الأعلى. رحمه الله عز وجل وأسكنه فسيح جنانه…

وبعد تأسيس جماعة العدل والإحسان، بث هذه الروح في صفها، فاحتلت الدعوة موقع الصدارة ضمن انشغالات الجماعة وفي برامجها، لم يثنها عن ذلك كيد الكائدين ومكر الماكرين. فخططت لها وابتكرت وجددت في أشكال تدبيرها وأساليبها لتجاوز الحصار المضروب عليها، فنتج عن ذلك بفضل الله عز وجل انتشار واسع للدعوة وحضور متميز ومعتبر في المجتمع… وأخرجت، استغفر الله، أخرج الله جلّ شأنه بها، رجالا ونساءً طابت أنفاسهم بذكر الله، ولا نزكي على الله أحدا، ورقّت قلوبـهم بمناجاة الليل، وفاضت بحب الخير للناس، وشغل هـمّــهم نشر دعوة الله، فكانوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، يسعون في مصالـح الناس وقضاء حوائجهم ما استطاعوا، إعانةً للمحتاج، ومساعدةً للضعيف، وإرشادا للضال، ودلالةً على الخير، لا يريدون منهم جزاءً ولا شكورا…

كما أسهمت هذه الدعوة إلى جانب حركات جادة أخرى في انتشال العديد من الشباب التائب من وهدة فهم ضيق معوج للتدين، ومن الهامشية والسرية وما نتج عنهما من اضطراب وتكفير وتعصب في العلاقات بالناس بدءًا بالوالدين الأمّيين والأخت التي لا ترتدي الحجاب والقريب الذي لا يصلي والجار الذي يدخن… فقد انساق الكثير من الشباب المؤمن في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته إلى مثل هذه الأفكار. فكان للإمام رحمه الله في تلك الظروف المضطربة موقف واضح من هذه المغالاة التي جنت على الدعوة الإسلامية مآسي وفواجع. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “أُمِرْنا في الدين بالتيسير والتبشير، فهذا رفق يقابله عنف فقيهٍ يـكفر المسلمين، وداعٍ لا يفتح أبواب التوبة، ومشتاق لحكم الإسلام يتصوره ويصوره وجها حانقا، وسيفا مصلتا، وقلوبا لا ترحم… ليس التحويل الإسلامي مسرحا يرفع معه ديكور ليوضع ديكور، ويـخرج المجرمون ليدخل الأتقياء البررة”، لا إله إلا الله محمد رسول الله.


[1] “ليكسبوا عشاءهم” أي يبلغوا الدعوة ويتواصلوا مع الناس.
[2] أستاذ الفلسفة وشاعر.
[3] عضو في مجلس إرشاد الجماعة.
[4] “من المؤمنين رجال… نماذج معاصرة”، للأستاذ المهندس أبي بكر بن الحسن بن الصديق، مطبعة جودة، 2021.
[5] بمعية رفيق دربه الأستاذ عبد الجبار عبد الهادي وكانت تجمعهما أخوة استثنائية.
[6] المصدر السابق.