الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (1)

Cover Image for الدعوة جزء من ماهية الإمام المجدد عبد السلام ياسين (1)
نشر بتاريخ

1) مدخل

كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله عز وجل صاحب رسالة ودعوة طيلة مراحل حياته، مثلت جزءا لا يتجزأ من شخصيته، امتزجت بها واندمجت في كل تفاصيلها؛ في حركاته وإشاراته وأقواله وأفعاله… فحيثما دققت النظر في مراحل هذه الحياة المباركة وجدت الدعوة حاضرة بارزة:

· دعوة عامة إلى المثل الإنسانية الراقية من إخلاص في العمل وإتقان له، أثناء ما تولاه من مسؤوليات بوزارة التعليم.

· ثم دعوة إلى اتباع شيخ منور القلب زمن انتمائه إلى الزاوية البوتشيشية.

· ثم دعوة إلى توبة عمرية خص بها الحاكم.

· ثم دعوة وحوار مع النخبة المثقفة المغربية.

· وأخيرا، وهي أسماها، دعوة إلى الله دلالةً عليه وحَمْلاً لهَمِّ هداية الناس، دعوة إلى الله قضّ همها مضجع الإمام وجسدتها حركة دؤوبة آناء الليل وأطراف النهار، غذاؤها جلسات ذكر وسجدات في جوف الليل، وروحها تربية إيمانية إحسانية لا حياة دونها ولا رواء، بل عمه وأوهام، باطنها قلب مفعم بالرحمة على خلق الله، وظاهرها وجه صبيح وبسمة مشرقة وقدوة ماثلة ومجالسة نافعة، وقوامها إرادة لا تنثني واقتحام لا يتلجلج، وثـمرتـها رحمة تسعى بين الناس وخدمة تأسو جراحهم وتُنفّس كربهم…

يقول في ذلك الأستاذ محمد شفيق في رسالته للإمام سنة 1995: “أخي في الإسلام والمواطنة والإنسانية، السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد، ها قد تطوعت أنت منذ ثلاثة عقود من الأعوام ونيّف للدفاع عن حرمة الإسلام، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وها قد ذقت الأمرّين، وقاسيت ما لا يطاق، فتجلّدت وصبرت. لقد كنتُ -شهد الله- أعلم أنك ستصابر وتواجه وتجاهد، لأني رأيتك تبحث عن طريقك متجها هذه الوجهة، مصمما العزم مستهينا بالعقبات والصعوبات. فبادلتني الرأي وحاورتني وحاورتك ساعات وساعات.” 1

صدق الإمام رحمه الله عز وجل في دعوته إلى الله تمام الصدق، وملكت عليه لبه، وانشغل بها تخطيطا وممارسة وتربية، وبذل فيها جهده ووقته وماله وما له؛ لم يشغله عنها شاغل في أهنأ الأوقات وأحلكها، وفي أوسع الأحوال وأضيقها.

– فما هي أبرز تجليات هذه الروح الدعوية في حياة الإمام رحمه الله تعالى؟

– وكيف بث هذه الروح في صفوف الجماعة التي أسسها؛ جماعة العدل والإحسان؟

2) الدعوة إلى التميز والتألق سنوات مسؤولياته في سلك التعليم

عُرف الإمام خلال مساره الوظيفي بمجموعة من الصفات، منها الاستقامة والطموح والجدية والصرامة في الأداء المتقن لمهامه… هذه الصفات كانت سيماها ظاهرة على وجهه لا يخطئها الناظر، كما تجلت في شخصيته كل مواصفات القيادة والكاريزما والقدوة والمسؤولية، مما أعطاه ذلك تأثيرا قويا على العاملين معه والمتتلمذين على يديه، وجاذبية آسرة جعلته محط أنظارهم وبوأته مكانة خاصة في قلوبهم واحتراما وتقديرا…

لقد التحق الإمام رحمه الله تعالى بسلك التعليم الابتدائي سنة 1948 معلما بمدرسة بمدينة الجديدة، وعمره حينها تسعة عشر سنة، وترقّى في مساره المهني، في بضع سنين قبل الاستقلال وبعده، من معلم إلى أستاذ للغة العربية والترجمة، إلى مفتش، إلى مفتش إقليمي، إلى مدير مدرسة المعلمين، إلى مدير مركز تكوين المفتشين…

ولما استقلّت البلاد سنة 1956، وواجه المسؤولون “معضلة” “تعميم التعليم” الذي كان يقتصر في زمن الاستعمار على نخب محدودة، كان الإمام ممن تصدّوا لمعالجتها، وساهم بشكل كبير في بناء المنظومة التعليمية بالبلد وإعداد أطرها… يقول أحد تلامذته، القاضي عبد العزيز توفيق: “كان من أركان التعليم في وقت كان التعليم إبان الاستقلال في بدايته، كانت الظروف صعبة.” 2، ويقول د. عبد الله ساعف: “أعطى الكثير للمنظومة على عدة مستويات، وقد تابعت ذلك بشكل دقيق في الستينات وجزء من السبعينات… أتاحت لي المسؤولية… فرصة الاطلاع على رصيده في بني ملال بخط يده…” 3.

وتولى رحمه الله عز وجل في السنين الأولى لاستقلال البلاد مسؤوليات متنوعة، وكان حيث ما حلّ حلّت الجدية والإصلاح والفاعلية، وهكذا حين عين مفتشا إقليميا ببني ملال وجد تعليما في حالة مزرية؛ سوء تسيير ورداءة تدبير وانعدام ضمير مهني، وترتب عن ذلك تدن للمستوى العام للتعليم بالمنطقة وتفاقم مشاكله… فعكف على إصلاح ما فسُد، وما هي إلا شهور حتى تغيرت الأحوال وظهرت نتائج سارة، يقول الأستاذ علي سقراط رحمه الله عز وجل عن هذه المرحلة، وهو يومها مدير بإحدى مدارس المنطقة: “جاء أخونا وتقبل وظيفته الجديدة بالعزم والحزم والاتكال على الله، فقام بعمل جاد إصلاحي عام، فنظم ورتب وحمل الجميع على الجادة، فظهرت بوادر العمل ونتائج الاجتهاد…” 4

ويقول الدكتور عبد الهادي بوطالب 5: “… كنت اطلعت على بعض التقارير التي كان يكتبها بصفته مفتشا للتعليم، وكان تقييمه فيها لسلوك المعلمين البيداغوجي بالمدارس التي كان يزورها للتفتيش موضوعيا وسليما، ويمكن لي أن أقول: أنه كان إطارا جيدا في وزارة التعليم “ 6

وتركت شخصية الإمام الفذّة هذه وأخلاقه الراقية بصمة واضحة في أجيال رجال التعليم التي تخرّجت على يديه، والتي ساهمت في بناء المدرسة المغربية. فقد عُرف بين تلامذته بالاحتضان الأبوي والتوجيه الهادف والسعي الدائم لتزويدهم بالعلم النافع والخبرة الكافية، يقول عنه تلميذه الأديب والمؤرخ الأستاذ محمد السعيدي الركراكي: “إذا استثنينا دروس الأربعاء وجدنا نفوسنا نعيش مع المدير كما يعيش الأصدقاء سواء بسواء…” 7.

ويقول الدكتور عبد الله الحمودي 8: “كنت طالبا بمراكش في الستينات وقد قابلته حينما كان مديرا لمدرسة تكوين المعلمين بمراكش، وأحتفظ بتلك الذكرى لإنسان بشوش ومربي -بالمعنى البيداغوجي- منشغل بقضايا الفكر، وبتعليم الجيل الجديد، وهذه الذكرى غالية بالنسبة لهم.” 9.

وفي روايته “الطيبون” التي تحكي عن جزء من سيرته الذاتية، عبْـر شخصية قاسم التي تمثل كاتب القصة، وشخصية النوري التي تمثل الأستاذ عبد السلام ياسين، يقول الدكتور مبارك ربيع 10: “كان النوري أستاذا لقاسم في فترة دراسته الثانوية، ولكنه لم يكن أستاذا فقط، بل كان نابغة استطاع أن يؤثر في ذهن تلميذه تأثيرا لم تستطع محوه الأيام” 11.

ونال رحمه الله بفضل ذلك الحظوة بينهم والاحترام والاعتراف، فأحبه الكثير منهم وارتبط به واتخذه قدوة، يقول الدكتور عبد الغني أبو العزم 12بهذا الخصوص: “هذه الجدية أكسبته احترام البعض وحب البعض الآخر، وأشهد الله أني من الذين أكسبهم حبه، فإني أحبه كثيرا وسأبقى” 13.

وكان رحمه الله تعالى يدفع طلبته دفعا لطلب أسمى درجات التفوق والتميز. “كان دوما ينشد النموذج الأعلى في أرقى مستوياته، ولا شيء غير ذلك” 14، وبفضل الله، ثم جهود الإمام وتوجيهه، حقق الكثير منهم الريادة في ميادين التعليم والثقافة والفكر والسياسة، وتبوأوا مناصب مهمة في الدولة. يقول د. أبو العزم: “ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن الفترة التي قضاها أستاذنا مديرا ومدرسا بمدرسة المعلمين كانت ذات أثر معتبر في مسار كثير من الأطر التعليمية ومن النخب المثقفة ومن الشخصيات السياسية ومن عامة المتعلمين بعد ذلك في كل أرجاء البلاد” 15

كان الإمام رحمه الله تعالى رجل قول وفعل، يدعو للمعالي بالحال والمقال في كل ما أقبل عليه أو باشره… وكانت تتجلى فيه الكثير من صفات المربين الخبراء الأكفاء والدعاة البارزين… رحمه الله عز وجل رحمة واسعة.


[1] “حوار مع صديق أمازيغي”، ص11، مطبوعات الأفق، سنة 1997.
[2] “عبد السلام ياسين، الإمام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ص68
[3] من كلمته في الذكرى الأولى لرحيل الإمام عبد السلام ياسين في دجنبر 2013، بتصرف
[4] “مذكرات” لعلي سقراط، ص26، من كتاب “عبد السلام ياسين، الإمام المجدد” لمحمد العربي أبو حزم.
[5] تقلد عدة مناصب وزارية، وعمل سفيرا بعدة بلدان، وكان مستشارا للملك الحسن الثاني
[6] “نصف قرن في السياسة”، ص 322-323.
[7] “هداة أناروا طريقي”، محمد السعيدي الركراكي، ص 127.
[8] أستاذ الأنتروبولجيا بجامعة برنستون بالولايات المتحدة، وله مؤلفات عدة منها كتاب “الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة”
[9] من كلمة له في الذكرى الأولى لرحيل الإمام رحمه الله.
[10] أستاذ جامعي وعميد كلية الآداب بالرباط، قاص وروائي ومن مؤسسي اتحاد كتاب المغرب
[11] “الطيبون”، مبارك ربيع، 1972.
[12] سياسي يساري ولغوي وكاتب روائي، أصدر عدة مؤلفات في تحقيق التراث والترجمة واللسانيات، وله عدة روايات
[13] ” الضريح الآخر”، عبد الغني أبو العزم، ص 127.
[14] المصدر السابق، ص 108
[15] “عبد السلام ياسين، الإمام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج1، ص106.