الثواب والعقاب في القرآن الكريم ودورهما التربوي

Cover Image for الثواب والعقاب في القرآن الكريم ودورهما التربوي
نشر بتاريخ

الثواب والعقاب وسيلة من وسائل التربية التي يعتمدها القرآن لصيانة المجتمع من غوائل الانحراف والشذوذ، لتأديب الجاني وللترهيب من الجناية، ولحث المؤمن على أن يتمسك بدينه ودفعه إلى الاستزادة من العمل الصالح رغبة فيما عند ربه ورجاء عفوه ومغفرته. فالإسلام يضع من التشريعات والقوانين والإجراءات الاحترازية والزاجرة ما يضمن سلامة المجتمع وسلامة الأفراد من شتى المخالفات والجرائم. كما أن القرآن ذكر جملة من الحوافز والمكافآت لمن التزم شرع خالقه وابتعد عن الأخطاء والمخالفات وذلك بما يناسب طبائع الناس كافة ويعتبر الترغيب والترهيب حافزاً يدفع إلى التعلم الصحيح والفعل الحسن وتجنب الأخطاء، وترك القبائح، وتتنوع رغبات الناس في الأشياء المادية والمعنوية، وكلها ترجع إلى ما يحفظ عليهم صحتهم ويشبع غرائزهم ويلبي دوافعهم. وصراع الحياة واختلاف الطباع يوجب أن يكون للخير ثواب وللشر عقاب فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره 1 .

يجدر بنا بداية تعريف مفهومي الثواب والعقاب.

المطلب الأول: مفهوم الثواب

قال ابن فارس: (الثَّاءُ وَالْوَاوُ وَالْبَاءُ قِيَاسٌ صَحِيحٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ) 2 .

والمَثابةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثابُ إِلَيْهِ أَي يُرْجَعُ إِلَيْهِ مرَّة بَعْدَ أُخرى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً 3 .

يستفاد من التعريف اللغوي أن الثواب جزاء حقيقي وأصلي يرجع إليه المؤمن بعد حين من الدنيا ومن هنا قال الجرجاني: (الثواب: ما يستحق به الرحمة والمغفرة من الله تعالى، والشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: الثواب: هو إعطاء ما يلائم الطبع) 4 .

المطلب الثاني: مفهوم العقاب

قال ابن فارس: (الْعَيْنُ وَالْقَافُ وَالْبَاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ شَيْءٍ وَإِتْيَانِهِ بَعْدَ غَيْرِهِ. وَالْأَصْلُ الْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعٍ وَشِدَّةٍ وَصُعُوبَةٍ… وَمِنَ الْبَابِ: عَاقَبْتُ الرَّجُلَ مُعَاقَبَةً وَعُقُوبَةً وَعِقَابًا) 5 .

وجاء في لسان العرب: (عقب كل شيء وعقبه وعاقبته وعاقبه… واعتقب الرجل خيرا أو شرا بما صنع كافأه به، والعقاب والمعاقبة أن يجزي الرجل بما فعل سوءا، والاسم العقوبة، وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا، أخذه به، وتعقبت الرجل إذا أخذته بذنب كان منه) 6 .

وقد عرف الفقهاء العقوبة تعريفات مختلفة منها:

(زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر) 7 .

وعرفها بعض المعاصرين من أهل العلم بأنها: (الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع) 8 .

المطلب الثالث: الثواب والعقاب في القرآن الكريم

إن البشر ليسوا سواء؛ فمنهم من تفلح معه القدوة الحسنة في التربية، ومنهم من تنفعه الموعظة الحسنة والقول اللين، ومنهم من تكفيه القصة، وقسم لا بد من وقع السوط على جلده لردعه وتنبيهه. والقرآن الكريم لا يبادر إلى العقوبة في التربية إنما يقدم قبلها الترغيب في الثواب أو يقرنه معها للإشعار بأن العقوبة ليست مقصودة لذاتها وإنما هناك طوائف من الناس لا بد من إبراز السوط لهم والبعض الآخر لا بد من إيقاع السياط على جلودهم ليرتدعوا ويردعوا عن غيهم وعنادهم.

والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تحمل في ثناياها الثواب وأخرى تحمل العقاب لتكون النفوس بين هاتين الوسيلتين تتأرجح إن مالت النفس إلى الدعة والخمول والكسل قرّعتها آيات العذاب والعقاب، وإن أقبلت على خالقها ونشطت في طاعته سمعت آيات الوعد والثواب فزادت نشاطاً ورغبة في ذلك.

ففي الترغيب في الثواب يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله والنبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير 9 .

وفي مجال الترهيب يقول سبحانه: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون 10 .

وفي سورة النبأ مقابلة بين ثواب المؤمنين وعقاب الكافرين؛ يقول عز وجل في العقاب: إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا، إلا حميماً وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا 11 .

ويقول في الثواب: إن للمتقين مفازا، حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأساً دهاقا، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا، جزاء من ربك عطاء حسابا 12 .

ولقد وضح القرآن الكريم في العديد من الآيات ارتباط مبدأي الثواب والعقاب بعمل الانسان؛ قال تعالى: مَن عملَ صالحاً فلنفسهِ ومن أساءَ فعليها 13 . وقال سبحانه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوسُ نُزلاً 14 . وقال عز وجل: ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ أدفَع بالتي هي أحسنُ 15 . وقال: ومن يَعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخافُ ظُلماً ولا هضماً 16 . وقال: إنا لا نُضيعُ أجر من أحسن عملاً 17 .

وما أروع وما أبلغ ما جاء هتين الآيتين: فَمن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيراً يرهُ * ومن يعملْ مثقالَ ذرةٍ شراً يرهُ 18 .

لقد ذهب القرآن إلى أبعد من ذلك فاستخدم مصطلحاً تجارياً لتوصيل معنى الثواب والعقاب للناس حسب ذهنياتهم وحسب واقعهم الاقتصادي وشغفهم بتراكم أرباحهم ونقدهم ونعني به مصطلح القرض، فالعمل الصالح هو بمثابة قرض يُقرضه صاحبه لرب العزة ليناله مضاعفاً يوم الحساب:

قال تعالى: مَّن ذا الذي يقرضُ اللهَ قرضاً حسناً فيضاعفهُ لهُ ولهُ أجرٌ كريمٌ 19 .

وقال سبحانه: من جاء بالحسنةِ فلهُ عشرُ أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يُظلمونَ 20 .

ولتبيان أن الجزاء من جنس العمل قال الله تعالى: ﻫﻞ ﺟﺰاء اﻹﺣﺴﺎن إﻻ اﻹﺣﺴﺎن 21 وﻗال ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ: وﺟﺰاء ﺳﻴﺌﺔ ﺳﻴﺌﺔ ﻣﺜﻠﻬﺎ 22 .

وﻗﺪ ورد ﻣﺒﺪأ اﻟﺜﻮاب واﻟﻌﻘﺎب في كثير من كتب السلف ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮان آﺧﺮ ﻫﻮ (اﻟﺘﺮﻏﻴﺐ واﻟﺘﺮهيب)، اﻋﺘﻤﺎدا ﻋﻠﻰ ﻓﻄﺮة اﻹﻧﺴﺎن ورﻏﺒﺘﻪ ﻓﻲ اﻟﺜﻮاب واﻟﻨﻌﻴﻢ، ورﻫﺒﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎب واﻟﺸﻘﺎء وﺳﻮء اﻟﻌﺎﻗﺒﺔ. ﻓﻔﻲ اﻟﺘﺮﻏﻴﺐ وﻋﺪ ﺑﺎﻹﺛﺎﺑﺔ وﺗﺤﺒﻴﺐ ﻓﻲ اﻟﻄﺎﻋﺔ، وﻓﻲ اﻟﺘﺮﻫﻴﺐ زﺟﺮ ﻋﻦ اﻟﺰﻟﻞ واﻟﻤﻌﺼﻴﺔ وﺗﺨﻮﻳﻒ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ واﻵﺛﺎم.

المطلب الرابع: مقاصد الثواب والعقاب في القرآن الكريم

الثواب والعقاب أحد الأساليب التي استخدمها القرآن لحث المسلمين على فعل الخير ودفعهم إلى طريق الهداية والعمل وفق منهج الله ومن مقاصد التربية بهذا الأسلوب:

أولا: استمالة الوجدان، واستثارة الرغبة الداخلية للإنسان في ثواب الله عز وجل.

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا 23 .

ثانيا: تعديل سلوك الانسان على ضوء معرفته بالنتائج النافعة أو الضارة التي ستترتب على عمله وسلوكه.

قال الله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا 24 .

ثالثا: ردع المرتكب للعمل المرفوض وعدم تكراره مرة أخرى.

فالترهيب وعيد، وتهديد بعقوبة تترتب على اقتراف إثم، أو ذنب مما نهى الله عنه أو على التهاون في أداء فريضة مما أمر الله به، أو هو تهديد من الله يقصد به تخويف عباده، وإظهار صفة من صفات الجبروت، والعظمة الإلهية، ليكونوا دائما على حذر من ارتكاب الهفوات والمعاصي، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا 25 .) 26 .

وقال عز وجل: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ 27 .

رابعا: إخافة الغير ووعظه من سلوك الفعل المؤدي إلى العقوبة.

قال الله عز وجل: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 28 . وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 29 . وقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 30 .

خامسا: إتاحة فرصة الموازنة والاختيار للإنسان بين الثواب والعقاب باستخدام العقل.

ولهذا نرى كثيرا ما يعرض القرآن الكريم الترغيب والترهيب في سياق واحد، يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31 . وقال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 32 .

وهكذا تتقلب النفس بين هذين الأمرين، ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، فتسعى جهدها إلى الابتعاد عما يؤول بها إلى حال الكفار والمنافقين وهي حال الخسار والبوار وتحاول بكل ما أوتيت من قوة الاندفاع في طريق المؤمنين الموحدين العاملين لتفوز برضا الله وجنته، وهكذا تؤدي هذه الوسيلة من وسائل التربية دورها في صياغة حياة الفرد وتوجيهها الوجهة السليمة بإذن الله تعالى.


[1] الزلزلة / 7 – 8.
[2] مقاييس اللغة لابن فارس (مادة ثوب)، ج: 1، ص: 393.
[3] لسان العرب لابن منظور (مادة ثوب)، ج: 1، ص: 244.
[4] التعريفات للجرجاني، ص: 72.
[5] مقاييس اللغة لابن فارس (مادة عقب)، ج: 4، ص: 78 – 79.
[6] لسان العرب لابن منظور (مادة عقب)، ج: 1، ص: 619.
[7] الأحكام السلطانية للماوردي، ص: 325.
[8] التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة، ج: 1، ص: 609.
[9] التحريم، 8.
[10] هود، 15 – 16.
[11] النبأ، 21 – 30.
[12] النبأ / 31 – 36.
[13] الجاثية / 15.
[14] الكهف / 107.
[15] فصلت / 34.
[16] طه / 12.\
[17] الكهف / 30.
[18] الزلزلة / 7 -8.
[19] الحديد / 11.
[20] هود / 101.
[21] اﻟﺮﺣﻤﻦ / 60.\
[22] اﻟﺸﻮرى / 40.
[23] الكهف / 107-108.
[24] الإسراء / 18- 19.
[25] مريم / 71-72.
[26] أصول التربية الإسلامية وأساليبها لعبد الرحمن النحلاوي، ص: 231.
[27] الزمر/ 15-16.
[28] النمل / 69.
[29] آل عمران /175.
[30] الحديد / 16.
[31] المائدة / 98.
[32] فصلت / 46.