التوبة ابتداء وانتهاء

Cover Image for التوبة ابتداء وانتهاء
نشر بتاريخ

التوبة مفهوم محوري في أدبيات جماعة العدل والإحسان، فهي حسب ما جاء في تعريفها: جماعة تتوب إلى الله.

جماعة تتوب.. استعمال الفعل المضارع هنا له دلالته المهمة، فلو قلنا جماعة تابت فسنكون قد قطعنا مع كل الأخطاء والخطايا وصرنا ملائكة تمشي فوق الأرض.. ولكن، هي جماعة تتوب؛ فالتوبة لازمة لا تنقطع، مما يعطي الحق لكل منتسب إلى هذه الجماعة في أن يكون من المجتمع وأن يحفظ له حقه في بشريته فلا يلام على طهر الملائكة… بشر كالبشر يخطئون، لكنهم يتوبون. وهذا المبتدأ وهو كذلك المنتهى… فالاستمرارية شرط.

غير أن هذه التوبة تتم على مستويين: فردي وجماعي.

التوبة الفردية

أن تكون عبدا لله بكل بساطة، وإن كان مفهوم العبودية لله عز وجل له من العمق ما يجعلك تكرس كل حياتك لله… لكن الاصطباغ بفعل التوبة لصيق بك في كل وقت وحين، تتوب من الذنب، وهذه أولها، ثم تتوب من الغفلة عن شرع الله، وتتوب من كثرة التفاتك إلى غير الله..

التوبة غسيل لتعثرات يومك تجبّ ما قبلها، فلا يبيت المؤمن إلا وقد راجع نفسه ونظر إلى برنامج يومه؛ يستحسن فيه ويستقبح منه، ثم يتوب ويمني نفسه بألا يعود، على أن ترد المظالم لأهلها إن رامَ أن يتوب توبة نصوحا.

كيف السبيل إلى توبة فردية؟

تعلمنا من مرشدنا ووالدنا الروحي، الإمام عبد السلام ياسين، أن تكون لنا في يومنا وليلتنا حصص للاستغفار.. أن تجلس متوضئا ومستقبلا القبلة.. تتطهر ظاهريا ثم تجلس لتتطهر باطنيا، زيادة من أدب.

الاستغفار مغتسل القلب من نكته السوداء المتراكمة عليه، لا تستعظم ذنبا كيف ما كانت جراءته، المهم التوقف الفوري ثم البكاء على الله ليمحو خطيئتك ويقبلك.

في عرف العابدين: “وما يزالُ يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحِبَّه”[1]، وفي عرف التائبين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]. شرف هذه المحبة غال وعظيم، فلا تبرح باب التائبين؛ ندم عما فات، وإقلاع فوري عن الذنب، ثم انطلاقة جديدة… والله لا يمل حتى تملوا[2].

من بين أهم مفاتيح التوبة؛ الاستغفار. تتعدد صيغ الاستغفار بتعدد ما يسر الله أمر التوبة على عباده؛ فإنه من أتى الله يمشي أتى الله إليه هرولة، ومن أتى الله بقلبه طويت له الطريق. انوِ التوبة بصدق وانتظر أن يحملك الله إليه حمل الكرام عليه.

مما يوصى به سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ، وهو “أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ” [3].

ثم تتوجه بقلبك، وقد أحسنت الظن بمولاك أن الله يستقبلك وقد دخلت عليه فقيرا منكسرا تائبا بين يديه: “رَبِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليَّ، إنَّكَ أنت التوَّابُ الرحيمُ” [4]. تستغفر لك ولوالديك ولأمة سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [إبراهيم، من الآية 41].

والأدعية القرآنية الواردة في الاستغفار كثيرة جدا، ولها من الأسرار ما لا ينقدح إلا بالمداومة؛ أحدها البركة في الرزق، والأرزاق منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، وكلاهما إن لزمت الاستغفار رزقت من حيث لا تحتسب.

لا يكفي الاستغفار وحده، وإنما ركيعات للتوبة ترمم بها روحك وترفع قلبك وتطيل الحديث بينك وبين ربك. إن لم تتب من ذنب، فَتُبْ من بُعد طال بك عن ربك، تبْ من زمن قضيته في الدنيا تلهث وراء سرابها فلم تجاوز نصيبك، ولو أنك جلست في محراب التائبين لسعدت بمحبة الله لك وازددت منه قربا. تذكر.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ… الله يحبك فهلا تبت إليه.

التوبة الجماعية

أما هذه فلها برنامج خطط له المرشد رحمه الله تعالى؛ فهي توبة مشروطة بحضور جماعي ينجمع فيه الأفراد في الله في محطات تربوية لا غنى لعضو عنها، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف، 28]؛ مجالس ورباطات ومعتكفات.. يتزود فيها المحب من قلب أخيه، وتقتات الأرواح من واردات حديثة عهد بربها، فـ“أحَبُّ الطعامِ إلى اللهِ ما كَثُرَتْ عليه الأيْدِي” [5] فكيف بطعام الروح، وطوبى لعبد نام وأخوه يدعو له [6]…

محطات هي بمثابة مغتسل روحي جماعي، يخرجون منه وقد نفضت عنهم الملائكة تراب البعد، وحطت أجنحتها لهم تضع عنهم ما تراكم على ذمتهم من غفلات، تتصافح الأرواح وتتصافى فتتحقق لهم بإذن الله توبة من كل المكدرات والمشوشات، وتبدأ عند الجميع انطلاقة جديدة مكسوة بالصفاء والمحبة، وهمة تزداد علوا ويقينا بأن اقتحام العقبة أيسر على قلوب وجهتها الله.

التوبة لباس الروح؛ لا غنى لسالك أو طالب وجه الله عنه، هو لب التربية ابتداء ووسطا وانتهاء… بل لا انتهاء ما دامت الروح تسكن الجسد، ولسان حال محطات الذكر أن تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور، 31] وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر، 65].

ابحث إذاً عن صحبة تربطك بالله وتكشف لك حقيقة نفسك التي بين جنبيك، تطيبك ثم تأخذ بيدك إلى باب الكريم وتقول لك ها أنت وربك، إن وفقت إليها فاشدد على قلبك بحبل من المحبة؛ طرفه عندك وطرفه الآخر عند الله، ولا تفرط فيه، وكلما دارت بك الدوائر تفقد الحبل واطرق باب النجوى فـإِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل، 6].


[1] من حديث: “إنَّ اللهَ جلَّ وعلا يقولُ: مَن عادى لي وليًّا فقد آذاني وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افترَضْتُ عليه وما يزالُ يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحِبَّه فإذا أحبَبْتُه كُنْتُ سمعَه الَّذي يسمَعُ به وبصرَه الَّذي يُبصِرُ به ويدَه الَّتي يبطِشُ بها ورِجْلَه الَّتي يمشي بها فإنْ سأَلني عبدي أعطَيْتُه وإنِ استعاذني أعَذْتُه وما تردَدْتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه ترَدُّدي عن نفسِ المؤمنِ يكرَهُ الموتَ وأكرَهُ مَساءَتَه” (الراوي : أبو هريرة |  المحدث   ابن حبان |  المصدر : صحيح ابن حبان |  الصفحة أو الرقم: 347 ).

[2]  من حديث: “إِنَّ اللهَ تعالى لا يَمَلُّ حتى تَملُّوا” (الراوي : أبو هريرة |  المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 1859).

[3] من حديث: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي؛ فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ. قالَ: ومَن قالَها مِنَ النَّهارِ مُوقِنًا بها، فَماتَ مِن يَومِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ، ومَن قالَها مِنَ اللَّيْلِ وهو مُوقِنٌ بها، فَماتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ” (الراوي: شداد بن أوس |  المحدث: البخاري |  المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم:  6306). 

[4] الراوي : عبد الله بن عمر |  المحدث : الوادعي |  المصدر : الصحيح المسند |  الصفحة أو الرقم: 751.

[5] الراوي : جابر بن عبد الله |  المحدث : الألباني |  المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 171.

[6] إشارة إلى حديث: “دُعاءُ الأخِ لأخِيهِ بِظَهرِ الغيْبِ لا يُرَدُّ” (الراوي : عمران بن الحصين | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 3379).