التربية وبناء الأخلاق في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين

Cover Image for التربية وبناء الأخلاق في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

فقه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله أن الخلل الذي وقع للأمة الإسلامية عبر التاريخ، إنما هو بسبب عدم تنزيلها للمنهاج النبوي على أرض الواقع، وبقاء أحلامها محلقة في الأماني المعسولة. فالناس وإن حفظوا القرآن لا يترجموه إلى أعمال وأخلاق، وإن قرؤوا السنة لا يسلكون كما سلك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام مسلكا قويما يجمع بين الذكر والجهاد والعدل والإحسان والتربية والأخلاق.. مسلكا سما بالصحابة إلى ذرى الإيمان والإحسان، ورفعهم إلى الخلافة في الأرض تنظيما ودولة.

فماهي التربية التي ترتقي بالمؤمن إلى الكمال الخلقي والخلافة في الأرض؟

وما هي معالم الجمع بين التربية والأخلاق في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين؟

وكيف يصدق الكمال الأخلاقي الكمال القلبي والإيماني؟

المحور الأول: التربية الإحسانية ومعالم الجمع بينها وبين الأخلاق في فكر عبد السلام ياسين

من مميزات المنهاج النبوي الذي جاء به الأستاذ عبد السلام ياسين أنه رباني الغاية والوجهة، شامل لكل مناحي الحياة، فهو عقيدة وتربية وأخلاق وسياسة واقتصاد وتنظيم وزحف.. فهو لم يكتف بالتنظير لمسألة التربية الروحية فقط من خلال نظرية المنهاج النبوي، بل وضع مشروعا تربويا متكاملا؛ يدعو المؤمن فيه إلى الإكثار من ذكر الله ومصاحبة الصالحين ومراقبة النفس وتزكيتها على الدوام. لذا نجده يحث في المنهاج النبوي، وغيره من الكتابات، على المواظبة على مجالس التربية والرباطات والاعتكافات والنصيحة والذكر والقرآن، لترقيق القلوب وتربية النفوس على التجرد من الأنانية والغفلة والنفاق والشح، وشحذ الهمم للانخراط في العمل الجماعي والتهمم بأمر الأمة.

تلك هي التربية الكاملة في نظرية المنهاج النبوي، التربية التي تسمو بالنفوس إلى معالي الأمور وترك سفاسفها، وتشحذ هممهم وتحرر إرادتهم ليطلبوا ما عند الله، وتخلصهم من قيود الدنيا وفتنها، وتوجههم إلى الاستعداد للآخرة ونعيمها.

وقد نهج الأستاذ ياسين نهجا حكيما في تنزيل المنهاج النبوي؛ إذ وصل ما انفصل في تاريخ الأمة وفكرها، فكان دائما يربط بين أعمال البر والتربية الإيمانية الكاملة، ويعتبر كمال الأخلاق من كمال الدين ومن تمام الإيمان. وفي هذا السياق يقول: “وامتلاك النفس وحملها على مكاره الشهوة والهوى ومحاب الله ورسوله، رأس الخلق، وكمال الأخلاق من كمال الدين” (1).

وهذا الفهم التجديدي العميق منطبق مع قصد البيان القرآني الحكيم: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة، 177).

أورد الأستاذ عبد السلام ياسين هذه الآية في كتاب تنوير المؤمنات في معرض حديثه عن الإحسان إلى الخلق، ليسائل المؤمنة طالبة الكمال ويصحح لها المسار ويرشدها إلى تطبيق هذه الآية وترجمتها إلى سلوك وأعمال وأخلاق، “أرأيت أخت الإيمان كيف ذكرت أعمال البر مباشرة بعد الإيمان القلبي بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين قبل الصلاة الزكاة” (2).

واعتبر أداء الصلاة والزكاة بناء لأركان بيت الإسلام، أما الإحسان إلى الخلق والجهاد بالمال والحنان فهو – في نظره – بناء من المؤمنة لصرح دين الأمة، وبهذا البناء تصل المؤمنة إلى أعلى المراتب ويكون لها الفضل في الدنيا والآخرة.

إنه تعظيم لما عظم الله عز وجل من رجل فقه كلام ربه ومنهاج نبيه. إنه فهم تجديدي تنويري قاصد جامع، يجعل التربية الصادقة والأخلاق الفاضلة هي الأصل والعماد، “ما نتحدث عن الرحمة والسكينة ومعاني القلب، وعن الكمال الروحي كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا لنؤكد أن تلك الأحوال الشريفة هي اللب وهي العماد” (3).

وللإبانة عن البعد التجديدي في فهم الأستاذ ياسين للأخلاق وحسن الخلق، أوظف بعضا من نصوصه التي تكشف عن عمق الرؤية وفساحة العقل المؤمن المسترشد بهدي القرآن والسنة:

1- حسن الخلق سلامة الدين في الدنيا وصلاح الحرث في الآخرة

“لكن المسلم لا يسلم له دين إلا إذا كان رحمة لا نقمة، لا يسلم له دين ولا يصلح له حرث آخرته إن ظلم وتكبر في الأرض” (4).

2- حسن الخلق شكر لله على نعمة الهداية للإيمان

“تشكر ربها على نعمة أن هداها للإيمان، فتتفجر ينابيع الخير في قلبها. تترجم الشكر والخير، عطاء من مالها وحنانها ووقتها واهتمامها ووقوفها بجانب اليتيم والمسكين والمقهور” (5).

3- حسن الخلق إصلاح في الأرض وتهييء للخلافة على منهاج النبوة

“إحسانك إلى الخلق تأسيس “للبعد” المرغوب، ومساهمة في إبطال هذا “القبل” المكذوب. والخلافة الثانية الموعد، والله عز وجل الموعد” (6).

4- حسن الخلق جهاد وبناء للجماعة المجاهدة

“إطعام مبرور وضيافة واجبة، وقرى مفروض وزكاة للبائس والمحروم. كل ذلك بر وصدقة ونفقة. ويتحول كل ذلك جهادا ترتقي به المؤمنة إلى ذروة سنام الدين إن وظفت الأموال ورصدت النفقة ونظمت الإسعافات بفعالية العمل الجماعي وفي مد الدعوة ونصر مسيرتها” (7).

كل هذه النصوص وغيرها تؤكد تلازم التربية والأخلاق في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله؛ فلا معنى للتربية الإيمانية في غياب الأخلاق، ولا قيمة للأخلاق في غياب الغاية العدلية والإحسانية.

المحور الثاني: الكمال الخلقي دليل صدق الكمال القلبي

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “الإحسان درجة فوق الإيمان، والاهتداء بالقرآن والاسترحام به والاستدلال بآياته الحكيمة وآيات الكون، لا يحق منه نصيب إلا بمقدار ما معنا من إحسان” (8).

يقر الإمام من خلال هذه القولة أن العبد لا يصل إلى مرتبة الإحسان إلا بعد التحلي بصفات أهل الإحسان، لذلك فهو يشترط على من يروم الصعود إلى مراتب الإحسان إحكام إسلامه الظاهر وإيمانه الباطن خلقا وطاعة وأدبا مع الله والناس وأداء للحقوق، وإلا كان كمن يبني على غير أساس، كما أخبر الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب الإحسان.

ولعل هذا ما جعله يشبه المؤمنة المتدينة المتبتلة العابدة القانتة الصالحة التي في نفسها ضيقة بالناس، بالجندي مبتور الأعضاء في ساحة القتال (9).

كما يشبهها في مقام آخر بالنموذج الكامل للإسلام الأعرابي الذي تمثله الشخصية المعتزة بذاتها المعجبة بأطرافها المتشنجة سيئة الظن بغيرها (10).

ويرى الأستاذ عبد السلام ياسين أن الأخلاق الجافية علامة على استمرار وبقاء الأعرابية في الإسلام رغم انقراض حضارة البدو ورعاء الإبل. لذلك ينصح بتلطيفها وتهذيبها بمجالسة أهل الإيمان لتعلم الأدب الإيماني كما تعلمه المهاجرون والأنصار في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الدروس الاستكمالية بمجالس “تعال بنا نؤمن ساعة” (11).

يفهم من هذا الكلام أن القرآن الكريم إذا كان أفضل منهج لصياغة القدوات، فإنه من المهم فهم المنهج القرآني من خلال ممثليه الذين طبقوه ووعوه وفهموه وغاصوا في أغواره. لذلك يؤكد الأستاذ ياسين على جند الله اتباع السلوك النبوي الذي سار عليه الصحابة أيام الخلافة الراشدة، وأن يهتموا بتربية أنفسهم وإصلاحها لتسمو في مدارج الكمال الأخلاقي، وأن يتخلقوا بأخلاق تحفظ استمرار الجماعة واستقرارها، باعتبارها جماعة حملت على عاتقها أمانة إحياء المنهاج النبوي، والتبليغ عن الله ورسوله وتغيير حال الأمة وإصلاحها وإقامة العدل والإحسان في الأرض.

وتحقيقا لهذه الغايات يلح الإمام رحمه الله تعالى في دعوة جند الله على التخلق بمكارم الأخلاق والانضباط بالقيم والمبادئ الإسلامية؛ كالرحمة والرفق والصبر والحلم والبذل والعطاء.. وغيرها من الأخلاق الفاضلة والنبيلة التي تثمرها التربية القرآنية والإيمانية والإحسانية، والتي تكون دليل صدق طالبي الكمال داخل الجماعة المجاهدة.

المحور الثالث: محاذير ومنزلقات تربوية وأخلاقية

يحذر الأستاذ عبد السلام ياسين طالبي الكمال من الوقوع في منزلقات تربوية وأخلاقية من شأنها أن تشل الحركة وتبطل الأعمال وتجعل الجهود غثاء كغثاء السيل. وأركز في هذا المقام على بعض منها:

1- عدم إخلاص النية لله عز وجل في كل أعمال البر والإحسان

لذلك نجده في كل خطاباته يدعو المؤمنين إلى مراقبة النفس عند كل عمل بر حتى لا تدخل النفس في دائرة النفاق والرياء “.. وراقبي نفسك ليكون كل ذلك في الله ولله، لا يدخل نفسك رياء فيبطل عملك” (12).

2- التمييز والانتقائية في معاملة الناس

وهذا منزلق خطير لا ينبغي لجند الله أن يقعوا فيه؛ فدعاة العدل  ينبغي أن يتمثلوه في سلوكهم وأخلاقهم، ومن تمام  العدل أن يسعد الناس جميعا بطيب أخلاقنا، ومن تمام الإحسان أن نعامل المحسن والمسيء بالإحسان. فذلك المحك وعلى ذلك الرهان “أن تتخلقي بالأخلاق الطيبة مع قريباتك وصديقاتك في دعة وهناء عيش هذا تمرين هين … أما أن تخرجي عن المألوف وتتعاملي مع الناس كافة بالهدوء واللين والتحمل الجميل دون أن يفتنوك أو يستفزوك. فهنا تتأكد أخلاقيتك بأدلة الامتحان، أو تظهر زائفة قشرية على محك التجربة” (13).

3- ممارسة الأستاذية على خلق الله

والتفاخر بما من الله من هداية وحسن خلق، والمن على الناس بالبر والإحسان، وادعاء الاستئثار بالفضل على جميع الناس بدعوى الانتماء إلى الجماعة والتربية الإحسانية وبركة الصحبة. وفي هذا كله إساءة إلى خلق الله وإجحاف في حقهم وإساءة للصحبة والجماعة؛ لأن الكمال الأخلاقي يقتضي الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ولذوي المروءات بمروءاتهم كما اعترف لهم صاحب الفضل والمروءة على الجماعة وعلى الأمة. الأستاذ عبد السلام ياسين حين قال: “إنه إحسان عطاء ورقة وشفقة على الضعيف تجده عند المسلمة والكافرة، كما تجد من المنظمات غير الحكومية في بلاد الغرب ما ينم عن المروءة المشتركة بين البشر” (14).

وخلاصة القول؛ استطاع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بصدق نيته وقوة جهاده وإخلاص وجهته وبتأييد من الله وتوفيق منه عز وجل، أن يضع يده على مكامن الداء والخلل الذي أصاب الأمة على مر التاريخ، فرسم لها طريقا جعل فيه فقه القلوب وطبها أهم علم وتطبيقه أهم عمل، طريقا لا تنفصل فيه التربية عن الأخلاق ولا تتزكى فيه الأخلاق إلا بالتربية.


المراجع:

(1) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 2، ط 1، مصر، ص51.

(2) تنوير المؤمنات، م. س. ص56.

(3) عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، ط/1، دار الصفاء، البيضاء، ص96.

(4) عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ط/1، مطبوعات الأفق، البيضاء، ص214.

(5) تنوير المؤمنات، م. س. ج2، ص56-57.

(6) نفسه، ص58.

(7) نفسه، ص59.

(8) عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص148.

(9) تنوير المؤمنات، م. س. ج2، ص49.

(10) نفسه، ص44.

(11) نفسه.

(12) تنوير المؤمنات، م. س. ج2، ص57.

(13) نفسه، ص 49.

(14) نفسه، ج1، ص221.