الإنسان في المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة.. (2) مقاصد تحرير الإنسان في الإسلام

Cover Image for الإنسان في المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة.. (2) مقاصد تحرير الإنسان في الإسلام
نشر بتاريخ

سلسلة مقالات

الإنسان في المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة

المقال الثاني / مقاصد تحرير الإنسان في الإسلام

تتسم الرؤية الإسلامية للإنسان بالإيمان العميق بقدرته على بناء ذاته وصناعة مستقبل أمته، من هنا فالرهان الحقيقي هو العمل على تحقيق المقاصد الكبرى التي تدور حول تحرير الإنسان، ليقود عجلة التغيير. وهذه المقاصد يمكن إجمالها في النقاط التالية:

الكرامة الإنسانية

يتميز المفهوم الإسلامي للكرامة الإنسانية بميزتي الشمول والعموم، فيكتسب بذلك عمقا وامتدادا في الزمان والمكان. ولعل من دقائق المعاني التي ينبغي أن ننتبه لها ما جاء في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون[سورة سبأ، الآية 28]. جاءت هذه الآية في صيغة العموم، حيث تشير إلى تكريم الله لبني آدم، حيث إن الإنسان مكرم، بصرف النظر عن أصله وفصله، دينه وعقيدته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم من أهل الأديان الأخرى، أو من لا دين له. كما أن التكريم الذي خص الله به الإنسان متعدد ومتنوع، ولكل نوع منه مظاهر لا حصر لها، وعن هذه الأنواع يقول فهمي هويدي: “إن الكرامة التي يقرها الإسلام للشخصية الإنسانية ليست كرامة مفردة ولكنها كرامة مثلثة: كرامة هي عصمة وحماية، وكرامة هي عزة وسيادة، وكرامة هي استحقاق وجدارة” 1.

1.      كرامة عصمة وحماية

تعد هذه أوسع الكرامات وأعمها، وهي طبيعية في الفرد غير مكتسبة، إذ ينالها منذ تكوينه جنينا في بطن أمه، فهي تضمن للإنسان حرمته ما لم ينتهكها بارتكاب ما يزيل عنه تلك الحماية. ولذلك جاءت التشريعات في الإسلام لتحقق الكرامة الإنسانية للجميع حتى مع الأعداء: فعن سليمان بن بريدة عن أبيه: “كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى االله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا؛ ولا تقتلوا وليدا” 2.

2.      كرامة عزة وسيادة

وهي كرامة فطرية كذلك تولد مع الإنسان، وهي تضمن لصاحبها  أن يعيش حياة هنية كريمة، ومن مظاهرها تسخير ما في الكون للإنسان، ويدل عليها قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[سورة الجاثية، الآية 13]، فالله سخر للإنسان “ما في السماوات من شمس وقمر ونجم وسحاب، وما في الأرض من دابة وشجر وماء بحر  وفلك، وغيره، يتمتع ذلك من المنافع، فكل ذلك يجري لمنافع الإنسان ومصالحه، لغذائه وأقواته وأرزاقه وملاذ ببعض ذلك كله، وينتفع بجميعه” 3.

3.      كرامة استحقاق وجدارة

هذه كرامة مكتسبة متعلقة بسلوك الإنسان وسيرته، يكتسبها بحسب عمله الصالح فتعلو وترتقي تبعا له، فتسمو بإتقان الإنسان لعبادة الله، مخلصا له، وكذلك بالعلم والمعرفة التي يعرف بها الإنسان ربه ونبيه ودينه، وهي التي أكرم الله بها رسوله وعلمه إياها ليعلمها الناس: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[سورة آل عمران، الآية 164].

المهمة الاستخلافية

انطلق تحديد المهمة الاستخلافية للإنسان في الأرض، مع اقتضاء مشيئة الله تعالى خلق الجنس البشري، وإخبار الملائكة بذلك: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ[سورة البقرة، الآية 29]. فالمهمة الأساسية للإنسان، التي تبرز الغاية الإلهية من خلقه هي كونه خليفة، بحيث يلزمنا الوقوف على دلالات هذه الصفة، واعتبارها حاكمة على الوجود البشري كله، ومهيمنة على غيرها من الصفات والمميزات الإنسانية الأخرى. فالله تعالى شاء أن يخلق الإنسان، ويعرض عليه أمانة تقرير مصيره وتشكيله بإرادته الحرة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، بحيث يكون في وسعه أن يتحمل مسؤولياته كاملة عن أفعاله. لذا فمفهوم الاستخلاف له ارتباطات عديدة، نذكر منها:

1.      ارتباط الاستخلاف بالمسؤولية

ينطوي مفهوم الاستخلاف على معاني تكليف المستخلف بأداء مهام محددة في نطاق الوسع البشري، وبهذا الفهم يكون الاستخلاف هو أن الله تعالى منح الإنسان مسؤولية الاختيار والفعل في مجال الحياة الدنيا، ليتولى محاسبته على اختياراته وأفعاله في الدار الآخرة. كما منحه مسؤولية إعمار الكون، ونتيجة لذلك فإن عليه تحمل هذه المسؤولية على الوجه الأكمل من خلال العمل الجاد قصد تســخير مؤهلات الأرض لما فيه خير للبشــرية، وبالمقابل يجب على المســلم الحذر من الزهد والســلبية؛ لأنهما يتنافيان مع المســؤولية المنوطة به. فليست من صفات الإنســان في الإسلام الاستسلام والخنوع، أو كونه آلة تحركها عوامل خارجية لا دخل فيها لإرادته، وإنما هو ـ قبل كل شيء المسؤول الأول عن صناعة حاضره ومســتقبله.

2.      ارتباط الاستخلاف بالأمانة

لا يمكن الحديث عن الاستخلاف دون ربطه بالأمانة. فالاستخلاف في الأرض وعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته أمانة. ويشترط في إقامتها في الأرض إقامتها في الأنفس، ليسهل حمل الناس عليها كما كان دأب الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وأمانة عمارة الأرض بالدين هو عهد أخذه الله على هذا الانسان وإِذَ اَخَذَ رَبُّكَ مِنۢبَنِےٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّٰتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيٰ أَنفُسِهِمُ، َلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَل۪يٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ[سورة الأعراف، الآية 172]،  وهذا النص دال على تحمل الإنسان أمانة الاستخلاف على نهج الإيمان؛ والتي هي مقصد قيمي تتفرع عنه بقية قيم الأمانة المعنوية منها والمادية.

3.      ارتباط الاستخلاف بمقاصد الشريعة الاسلامية

إن استخلاف الله الإنسان يعد استخلافا على شريعته، بحيث يطبق أحكامها في مختلف مجالات حياته. وبناء على هذا فكل مقاصد الشريعة تكون مربوطة بمقصد الاستخلاف، وتكون ممثلة له في الواقع اعتقادا وعبادة وسلوكا. فاختيار الإنسان طريق الإيمان هو في حد ذاته ممارسة استخلافية تأسيسية لكثير من الأفعال التعبدية والتصورات الفكرية التي حث عليها الشرع، وصارت من مقاصده المعروفة، مثل الأعمال القلبية كتوحيد الله وعبادته، وكل العبادات المفروضة من صلاة وصوم، وكل التكاليف الواجبة كالأمر بالمعروف والتزام العدل. وكل هذه المقاصد وغيرها تعد امتدادا لمقصد الاستخلاف، وتطبيقا سلوكيا له، فمن خلالها وعن طريق الامتثال لها وتمثلها في الفكر والسلوك، يترسخ مقصد أساسي واحد، هو المسؤولية الاستخلافية التي تتخذ صورا عدة، سواء كانت معتقدات قلبية أو التزامات سلوكية أو خليطا بينهما.

حقوق الإنسان

الإنسانية هي “نظرة خُلقية تُعْلي من شأن الإنسان وقدره، وتمنع كل ما يؤدي إلى امتهانه أو إذلاله، أو إخافته، أو الانتقاص من حريته، أو انتهاك حرمته أو عقيدته” 4، وهذا هو ما جاءت به شريعة الإسلام لتكريم الإنسان وللحفاظ على هذا التكريم، شرعت الأحكام التي تحمي الإنسان وتحافظ عليه قبل أن يولد وبعد ولادته إلى أن يموت وحتى بعد أن يموت. فالناظر في شريعة الإسلام يجد أن الهدف منها تحقيق مصالح الإنسان التي عليها قوام حياته وبها تكون سعادته في الدنيا والآخرة، ومصالح الإنسان تتحقق بحفظ ضرورياته وحاجياته وكمالياته، لذا أقر الاسلام كل أنواع حقوق الإنسان؛ فجاء بالحقوق الدينية والسياسية والمالية والاجتماعية والفكرية وغيرها. ويذهب محمد عمارة إلى اعتبار حقوق الإنسان في الإسلام ضرورات لا حقوق فيقول: “إننا نجد الإسلام قد بلغ في الإيمان بالإنسان وتقديس حقوقه حداً تجـاوز بـه مرتبة حقوق عندما اعتبرها ضرورات ومن ثم أدخلها في إطار الواجبات” 5. ويمكن تقسيم حقوق الإنسان في الإسلام إلى:

1.      الحقوق المدنية والسياسية

الحقوق المدنية والسياسية هي فئة من الحقوق التي تحمي الأفراد من التعدي من قبل الحكومات والمنظمات الاجتماعية والأفراد، والتي تضمن قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنية والسياسية للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد. ارتفع الإسلام بهذه الحقوق إلى مرتبة الواجبات والفرائض والضرورات؛ بحيث لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها أو يفرّط فيها؛ إنما هو ملزم بالحفاظ عليها؛ فكما يقول د. عمارة: “لقد تميزت نظرة الإسلام إلى الحرية عن نظرات كثير من الفلسفات والأنساق الفكرية الأخرى؛ فالحرية في النظرة الإسلامية (ضرورة) من الضرورات الإنسانية، وفريضة إلهية، وتكليف شرعي واجب؛ وليست مجرد (حق) من الحقوق الإنسانية، يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد” 6. ومن هنا كان واجبا على الدولة والمجتمعات والأفراد صيانة هذه الحقوق من كل اعتداء.

2.      الحقوق الاقتصادية

يقوم النظام الاقتصادي في الإسلام باعتباره جزءا لا يتجزأ من النظام الإسلامي، على مجموعة من المبادئ والقواعد الإسلامية الحاكمة على سلوك الإنسان ونشاطه التجاري، وعلى أساس تلك القواعد الكونية الإسلامية تنمو قاعدة “الحقوق” لاسيما الحقوق الاقتصادية. وقد أقر الإسلام مجموعة من الحقوق الاقتصادية، وهي حقوق مكفولة لكل شخص بوصفه طرفا في المجتمع، وهي حقوق ضرورية لصون كرامة الإنسان. وتتضمن عدة حقوق فرعية منها الحق في الغذاء الكافي، وفي السكن اللائق… وعلى هذا الأساس، يمكن تعريف الحقوق الاقتصادية في الإسلام بأنها مجموعة من الحقوق المادية التي أقرها الإسلام للمسلمين لتنظيم أمورهم، وإشباع حاجاتهم، بهدف الوصول إلى مستوى معيشي كريم، وذلك من خلال التوظيف الكامل للموارد البشرية والطبيعية، وتحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروات بما يحقق للفرد الحياة الكريمة الرغدة في الدنيا والفوز برضا الله في الآخرة.

3.      الحقوق الاجتماعية

إن غاية الإسلام الأساسية هي إقامة مجتمع سليم، ويتطلب هذا التوجه بطبيعة الحال الاهتمام برعاية الحقوق المتبادلة بين المجتمع وأفراده، وبذلك نجد الشرع قد عني بالحقوق الاجتماعية للإنسان. فالإسلام لا يصور الفرد المسلم إنسانا منعزلا، بل يصوره في جماعة تترتب عليهم حقوق متبادلة، لذا فالإسلام يقيم الحقوق الاجتماعية على أسس ثابتة، ويحدد لبلوغها وسائل معينة، وتتمثل أسس هذه الحقوق في التكافل الاجتماعي. فالإسلام وإن كان يعطي للفرد حريته في أجمل صورة، ويقرر له المساواة في أدق معنى، فإن هذا لا يعني أن يعيش الإنسان فوضويا، وإنما عليه أن يعمل للمجتمع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللدين قيمته، فتتبع مصلحته مصلحة المجتمع، وهذا هو جوهر مبدأ التكافل الاجتماعي.


[1] فهمي هويدي، مواطنون، ص81.
[2] أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ج 12، ص 398.
[3] تفسير الطبري ج20، ص147.
[4] يوسف القرضاوي، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ص 134.
[5] محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان ص ،14.
[6] محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان ص 17.