الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة.. (1) لوجود الإنسان اتجاه ومعنى

Cover Image for الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة.. (1) لوجود الإنسان اتجاه ومعنى
نشر بتاريخ

عندما نستعرض الفكر الإنساني الذي تناول تعريف الإنسان عبر تاريخ البشرية الطويل نصادف التعريفات المتقاطعة في بعض الجوانب والمتضاربة في بعضها الآخر، والمتباينة أحيانا. وهذه مسألة خلافية دائمة دوام الحياة لتعدد المعتقدات والثقافات واختلافها. فالمتأمل لأوضاع العالم في العصور المتأخرة؛ يجد أن الغزو الفكـري الـذي يهدف إلى دفع الناس للانحلال من أديانهم ومعتقداتهم؛ قد استفاد من كل ثغرة يمكن أن يدخل منها، بل قد يخلقها، ثم يزينها، لكي تلقى قبولا تنتشر من خلاله بين الناس. وإن من هذه المداخل التي استخدمت في العصور المتأخرة قضـية التنمية البشرية، حيث نالت أكثر مما تستحق من بحث ودراسـة؛ ورفـع قدرها حتى انتشرت في العالم كله؛ بل وبسطت هيمنتها اليوم في مجـال التربية والثقافة والعلوم في العالم بأسره. وكان لهذه النظرية تأثير عميق في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة، حيث نراه ونلمسه في أخلاق الناس.

وهذه القضية عندنا نحن المسلمين واضحة وجلية، حيث إن الحقيقة التي نجزم باعتبار عقيدتنا الإسلامية هي مركزية الإنسان في الإسلام. فلقد اختاره الله تعالى لحمل الأمانة التي حددها سبحانه بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (سورة الأحزاب، الآية 72). وهذا مما جعله المحور الأساسي الذي تقوم عليه عملية البناء والتنمية في المجتمعات الإسلامية، لذلك وهبه الله تعالى القدرات والمؤهلات العقلية والنفسية والجسدية ما يجعله أهلا لتحقيق العبادات وإعمار الأرض.

وهذا ما تتجه إليه الرؤية الإسلامية لمفهوم التنمية البشرية. فهي ليست مجرد سلوك اقتصادي أو اجتماعي وإنما هي وسيلة لعبادة الله، وعليها تتوقف العبادات الأخرى. فالمسلم إذا لم ينتج قوته ويكفي حاجته فلن يستطيع القيام بالعبادات الأخرى. ومن ثم فإن مفهوم التنمية في الإسلام له جوانب نفسية واجتماعية، وأهداف حضارية بعيدة المدى. والغاية الكبرى منها هي تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة بقصد تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة وتمكينه من أداء مهمته في الأرض وهي عبادة الله تعالى.

لكن مفهوم التنمية البشرية في المنهج الوضعي هو مفهوم اقتصادي في المقام الأول، وقابل للحسابات المادية، حيث يمكن قياس عائد الاستثمار في تنمية البشر بعائد الاستثمار في إنتاج السلع، الأمر الذي يساعد في تخصيص وتوزيع الموارد. وبهذا المفهوم تحول الإنسان “إلى عنصر من عناصر الاستثمار مثل المعادن والآلات، من شأنه أن يحول البشر لمدخلات ومخرجات وبذلك يجردهم من صفتهم الإنسانية” 1. وهذا الأمر نتج عنه النظرة المادية، وطغيان هذه المادة على القيم والمبادئ. في حين أن الإنسان اليوم يحتاج إلى من ينبهه إلى قيمته الأبدية، وإلى معرفة معنى وجوده في الدنيا، ليتحرر من قيد العبودية ليفعل هو لا أن يفعل به. وبذلك يمكن القول إن الإسلام قد سبق كل الاتجاهات ورسخ مبدأ “العمران الأخوي” الذي له اتجاه ومعنى: عمران لأن الله تعالى استعمرنا في الأرض واستخلفنا فيها، وأخوي لكي لا ينسى المسلم أنه أخ المسلم في الدين، وأخ الإنسان في الإنسانية.

فإذا فككنا مفهوم التنمية البشرية، نجد له أهدافا تكفل السعادة الدنيوية للإنسان، إذ تهتم بمستوى نموه في مختلف مراحل حياته لتنمية قدراته البدنية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ليس مما يعارضه الإسلام، ولكن المكون العلماني الذي تقوم عليه التنمية البشرية هو العائق الأساسي أمامها لتكون خطابا إسلاميا حقيقيا. حيث وجد في الإسلام نوع من الخطاب الهادف إلى ترقية الإنسان، كما في علم التزكية والتصوف، بل وفي علم السياسة والاقتصاد والاجتماع. لكن الترقية لم تكن غايتها مجرد الارتقاء الدنيوي، بل المراد منها الدار الآخرة. ومن ثم؛ فالإنسان هو جوهر المشروع التغييري، إذ هو المسؤول الأول على إرساء قواعده، وهو نقطة الارتكاز في كل التحولات التي شهدها ويشهدها العالم. وعلى قدر إيلاء الإنسان كفرد وكيان مستقل وكوحدة ضمن مجموعة الأهمية اللائقة به، يحصل نجاح أو فشل مختلف المشاريع المجتمعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. 

بناء على هذا؛ ما هو موقع الإنسان بين التصورات الفكرية السائدة عند رواد التنمية البشرية ومدرسة الفكر الإسلامي؟ هذا ما سيوضحه بإذن الله تعالى المقال القادم.


[1] حامد عمار، العوامل الاجتماعية في التنمية البشرية.