الإرادة الفردية والجماعية في تأسيس وتنزيل أخلاقيات وقوانين مواجهة العنف الدولي

Cover Image for الإرادة الفردية والجماعية في تأسيس وتنزيل أخلاقيات وقوانين مواجهة العنف الدولي
نشر بتاريخ

مقدمة

تطرح اليوم العديد من الأسئلة الرئيسية حول العنف والعدالة على المستوى الدولي، تم تحديدها من خلال تجارب الدول والمجتمعات؛ ويبرز ذلك من خلال التأمل في جهود المطالبين بالعدالة الدولية الحالية الساعية إلى تجاوز العنف في عدد من القضايا التاريخية. ولعل من المسائل المثارة، مسألة صعوبة إعطاء تعريف معياري للعنف على المستوى الدولي، وأيضا صعوبة ملاءمة تنزيل معايير مناهضة العنف من منطقة ثقافية إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى. ومن خلال المقاربة التاريخية تطرح على المستوى الدولي تباين مواقف الدول تجاه عملية إنشاء عدالة جنائية دولية تهدف إلى تنظيم استعمال القوة والتعنيف، وذلك بالنظر إلى القضايا السياسية وقضايا السيادة، حيث إن معظم الدول التي ارتكز بناؤها على السيادة القضائية الوطنية، تعارض التخلي عن جزء منها لصالح العدالة الجنائية الدولية.

فبالنظر إلى مستوى العلاقات الدولية في القرن الماضي، نجدها قد اتسمت بكثافة وحجم العنف المستشري سواء عنف الحروب الداخلية أو الخارجية، وخاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعض الحروب الأهلية أو الحروب المشروعة لإنهاء الاستعمار وتحرير الأوطان، وغيرها من النزاعات المسلحة.

وفي مواجهة هذا العنف المتعدد الأوجه، ما تزال الاستجابة السلمية لإقرار العدالة على المستوى الدولي ضعيفة، حيث إن ضمان تسوية النزاعات بين الدول من خلال محكمة العدل الدولية في لهاي، الهيئة القضائية التابعة للأمم المتحدة المنشأة بموجب المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة – عندما تعترف الدول بسلطتها – تبدو صعبة المنال، ذلك أن كثيرا من الدول تعتبر الاعتراف بالقضاء الدولي نوعا من الاعتداء على سيادتها من خلال الاضطرار إلى الاستماع والحكم على الجرائم التي يرتكبها مواطنوها، وأحيانا قادتها.

ومع ذلك، تستمر الشعوب والمجتمعات الممزقة والمصابة بالجروح بسبب العنف في رفع مطلب العدالة، ويمكن للقضاء المصحوب بالعفو وإقرار الحقوق والتعويض عن الأضرار، أن يقوم بدور رئيسي في حل النزاعات وفي عمليات المصالحة. في هذا الإطار، سنة 1998، تم تنظيم حملة مؤيدة للمحكمة الجنائية الدولية تحت شعار “لا سلام بدون عدالة” بمعنى “لا مصالحة حقيقية دون عدالة” وفقاً لبيير هاسنر، حتى لو كان العفو أو الإفلات من العقاب في بعض الأحيان بعد الاعتراف بارتكاب العنف هو الطريق المحتمل نحو السلام، وهذا هو الهدف الأساسي للعدالة الدولية التي تقع عند نقطة التقاء بين السياسة والعدالة.

مما لا شك فيه أن نهاية الحرب الباردة تمثل نقطة تحول مهمة في مسعى إنشاء عدالة دولية في بعض الدول من خلال إنشاء المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغوسالفيا السابقة ورواندا وخاصة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية؛ فلم تعد الدول الأطراف الوحيدة المحتكرة للمتابعة القضائية، بل أضحت جهات أخرى فاعلة، لا سيما المنظمات غير الحكومية، التي عملت على تعزيز العدالة الدولية من خلال الاعتراف بحقوق الضحايا ووضع المعايير الدولية لتعريف العنف؛ وفي هذا السياق أيضا يأتي رفع مئات المحامين بدعوى أمام محكمة العدل الدولية قبل أشهر ضد ما يقع من طرف الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكذا الدعوى الجريئة لجنوب أفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية من أجل اعتبار ما يقع في غزة ضد الفلسطينيين في الحرب الدائرة حاليا، إبادة جماعية تستحق المتابعة القضائية.

المحور الأول: في المواقف النظرية والمبادرات الشخصية

شكلت الحرب، للأسف، على مدار التاريخ أحد الخيارات الغالبة لحل النزاعات، مما أدى إلى تفشي ثقافة الحرب وإلى تأسيس منطق العنف، وقد أثار موضوع الصراع بين العنف والسلم جدالا واسعا جسدته كتابات أهم فلاسفة الفكر والمدافعين عن السلام.

فالحديث عن العنف أمر ملح في عصرنا الذي يشهد حالة إقصاء ممنهج للسلم، حيث نلحظ هيجانا منقطع النظير للحروب واضطهاد الأفراد والمجموعات والشعوب. والباعث الأول الغالب لهذه الحروب هي رغبات الأنظمة السياسية، التي تتسم بحب القوة لدرجة غير معقولة، والذي يتحول إلى حب السيطرة، ثم يتحول تدريجيا إلى جنون العظمة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى إنشاء عالم يسوده الخوف والكراهية واللاسلم.

عند الفلاسفة اليونانيين:

 – كتابات أفلاطون وأرسطو في مضمونها نجدها رافضة لأي شكل من أشكال العنف؛ فقد حاول أفلاطون أن يغير من حكم “ديونيزيوس” الحاكم الطاغي باتباع الفضائل والعدل، إلا أن هذا الأمر لم يعجب الحاكم “ديونيزيوس” واعتبره تدخلا في شأن المدينة، فعنف الحاكم أفلاطون وأمر بتعذيبه الجسدي والنفسي، حتى عرضه كما يحكى للبيع في السوق .

– عند إيمانويل كانط، نحو إشعاعية كونية للسلم، يعد كتاب كانط Kant.E 1724-1804)) “مشر وع للسلام الدائم” الصادر في سنة 1795 م من أبرز كتبه في الفلسفة السياسية، وذلك لما يحمله من أفكار فلسفية تدافع عن قيمة وأهمية السلم العالمي. من أقواله: “السلام الدائم موجود فقط في المقبرة”.

– جون لوك: “حين أرى الظلم في هذا العالم، أسلي نفسي بالتفكير في أن هناك جهنم تنتظر الظالمين”. “العنف هو الرد الأخير للعقلاء، والأول للجهلة”.

– برتراند راسل: “الإنسان يجب أن يتعلم المصالحة العامة للجنس البشري، الذي يصبح فيها الكل واحدا مع إمكانية حفاظ كل واحد على عاداته وتقاليده حتى نخلق التنوع، فبهذا نفتح طريقا إلى عالمية الحرية أو التعاون العالمي رفيعا في الفكر والعلوم وساميا بالعدالة التي لا يمكن للإنسان أن يرجو السعادة من دونها”.

– جون ستيوارت ميل: “العنف هو سوء استخدام القوة، ولا يمكن أن يكون مبررا لأي سبب كان”.

في العصر الحديث

– عام 1980م قال عالم التاريخ الشهير “ميله  Meeilli” الإيطالي الشهير “لحسن الحظ ألا ينجب عالمنا أولئك الذين يدقون طبول الحرب ويحرقون لها البخور فقط، بل إنه ينجب أيضا الذين يفكرون في السلم والذين يؤسسون لفلسفة السلم، فهم لا يخترعون مفهوم السلام فقط بل يضعونه في موضع التنفيذ”.

– المهاتما غاندي: “الفقر هو أسوأ أشكال العنف”. “اللاعنف هو سلاح الأقوياء”. “اللاعنف والحقيقة لا ينفصلان ويرتبط كل منهما بالآخر”.

– مارتن لوتر في القرن 15: “ما يزال لدينا خيار اليوم: إما التعايش السلمي، أو إفناء بعضنا بعضا بشكل عنيف”. “الانتصارات المؤقتة تتحقق بالعنف، إلا أنها لا تجلب سلاما دائما أبدا”. “إننا نتبنى أساليب اللاعنف لأن غايتنا هي مجتمع متصالح مع نفسه”.

– مارتن لوثر كينغ جونيور: “العنف لا يحل شيئًا، إنه يزيد فقط من الفوضى، والفوضى لا تجلب إلا الخراب”. “العنف يولد العنف، والكراهية تولد الكراهية، ولكن الحب يولد الحب والسلام يولد السلام”.

– نيلسون مانديلا: “العنف هو لغة غير المدركين للغة الحوار والمفاوضات”.

– جيمس بيل: “العنف يظهر الضعف، بينما اللاعنف يظهر القوة الحقيقية للإنسان”.

في القرآن الكريم

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْم كَافَّة (البقرة 208). وقال عز من قائل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (الإسراء 70).

في الأحاديث النبوية

(ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه).

(لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ).

أقوال الفلاسفة المسلمين

قال ابن رشد: “الجهل يؤدي إلى الخوف، الخوف يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى العنف، هذه هي المعادلة”.

أقوال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله

“وأخص صفات الجاهلية الجهل بمعنى العنف، وما العنف إلا وضع القوة في غير موضعها” (كتاب “الإسلام غدا” ص 78).

أعود لأيقونة النضال مارتن لوثر كينغ جنيور كنموذج معاصر لمدافع عن السلام والحقوق والذي كرس حياته كلها من أجل ذلك، بل بذل هذه الحياة من أجل المعاني العظيمة للحق والسلم، إذ قتل ظلما وعدوانا من أجل ذلك. كيف أثر مارتن لوثر كينغ على حياة الأميركيين من أصل أفريقي؟

“لدي حلم” أشهر خطاب ألقاه مارتن لوثر كينغ جونيور، في عام 1963، ليشكل رمزا للنضال من أجل الحقوق المدنية ومحاربة التمييز العنصري.

وفي العام الذي تلا هذا الخطاب صدر قانون الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ليحصل كينغ على جائزة نوبل للسلام، وبعد عقود على هذا الخطاب تأثرت حياة الأميركيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة، خاصة في مجالات التعليم والاقتصاد، بحسب ما تظهر بيانات مكتب الإحصاء الأميركي.

كرس كينغ حياته للنضال السلمي واللاعنف في سبيل تحقيق المساواة العرقية في الولايات المتحدة، ويشكل الأميركيون من أصل أفريقي حوالي 12 في المئة من السكان في الولايات المتحدة، أو ما عديده 41 مليون نسمة، وفق بيانات 2020. وتكشف البيانات الأميركية أن النضال الذي خاضه مارتن لوثر كينغ جونيور أدى إلى ارتفاع نسبة الطلاب الأميركيين من أصل أفريقي الذين ينهون مرحلة الثانوية مما كانت نسبته 25.7 في المئة في عام 1964 لتتجاوز الـ90 في المئة في 2021.

الأميركيون السود والتعليم

والتحق نحو 2.72 مليون أميركي من أصل أفريقي بالجامعات، في عام 2021، مقارنة مع 306 آلاف شخصا في عام 1964.

المشاركة في الانتخابات

وفي عام 1964 شارك نحو 59 في المئة من الأميركيين من أصل أفريقي الذين تتجاوز أعمارهم 21 عاما في الانتخابات الرئاسية. وفي عام 2020 ارتفعت نسبة مشاركة أولئك الذين تتجاوز أعمارهم 21 عاما لنحو 63 في المئة.

وقد ساهم مارتن لوثر كينغ جونيور في تغيير وجه أميركا فيما يتعلق بحقوق الأميركيين من أصول إفريقية.

المشاركة في سوق العمل

يبلغ عدد الشركات والاستثمارات التابعة لأشخاص من الأميركيين السود حوالي 141 ألف شركة، بينها أكثر من 38 ألف منشأة طبية. وتظهر البيانات أن نحو 35 في المئة من الأميركيين من أصل أفريقي يعملون في وظائف إدارية ومهنية بالإضافة لمن يعملون في قطاع المبيعات وبرمجة الحاسوب والتعليم. ويعمل نحو 22 في المئة من الأميركيين من أصل أفريقي في قطاعات مهنية، مثل الشرطة وغيرها. 

وكان مارتن لوثر كينغ يترأس الصلاة في الكنيسة. وكان يقول أننا “خلقنا متساوين وعلى الصورة التي أرادها الله”. وأقر بأنه لا يزال هناك “الكثير من العمل في سبيل العدالة الاقتصادية والحقوق المدنية”. وفعلا ما يزال الأمر كذلك إلى اليوم، ونحن نرى هذا الصمت الدولي أمام العنف الرهيب الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة في جرائم قتل مروعة تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ والمستشفيات والمدارس والجامعات. ما كان لهذا أن يقع لو كانت للعالم كلمة واحدة وموحدة تدعم السلم بقوة، وتمنع الظلم عن المضطهدين، وتحفظ حق الشعوب في استقلالها الحقيقي والتام على كامل أراضيها، وتقيم العدالة في الأرض بشكل متساو للجميع بغض النظر عن أديانهم أو أعراقهم أو ألوانهم أو آرائهم ومواقفهم السياسية.

خطابه من بين الخطب الأكثر شهرة في الولايات المتحدة

طالبت كلمته المعدة سلفا بأن يفي الأميركيون بوعد دستورهم ويقدموا المساواة للمواطنين من أصل أفريقي، كما يقول جوناثان إيغ، الذي نشر كتابه عن سيرة كينغ الذاتية بعنوان “كينغ: مسيرة حياة” في هذا العام. في أغسطس 1963 ألقى كينغ خطابه الشهير الذي أصبح مرجعا في النضال من أجل هذه الحقوق

“لدي حلم”.. 60 عاما على خطاب مارتن لوثر كينغ الشهير الذي غير أميركا.

لوثر كينغ “لدي حلم” الذي ألقاه قبل ستة عقود

قال زعيم الحقوق المدنية، في واحدة من العبارات المتكررة العديدة التي تشير إلى حلمه في المساواة “لدي حلم بأن أطفالي الأربعة الصغار سيعيشون يوما ما في أمة لن يتم الحكم عليهم فيها من خلال لون بشرتهم، وإنما من خلال محتوى شخصيتهم..

أصبح الخطاب أحد أشهر الخطب في القرن العشرين وحجر زاوية في الثقافة الأميركية، وبينما عبّر كينغ عن بعض المشاعر دون تحضير، فقد اختار كلماته بعناية. يقول إيغ: إن عبارة ‘لدي حلم’ تعني “أنه يدعو إلى الوطنية. ويدعو إلى الإيمان الديني. إنه يستدعي أفضل غرائزنا”.

دفع مارتن لوثر كينغ جونيور حياته ثمنا لتحقيق العدالة التي آمن بها، إذ اغتيل، في الرابع من أبريل عام 1968، في موتيل لوريان في ممفيس على يد محكوم سابق يدعى جيمس إرل راي، الذي صوب بندقيته تجاه غرفة كينغ وانتظر خروجه.

بعد حوالي أسبوع من وفاته، وقع الرئيس الأميركي آنذاك، ليندون جونسون، قانون الحقوق المدنية الذي يضمن الحرية والمساواة بين الأعراق والألوان والجنسين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، ويلزم الإدارة الفيدرالية بتنفيذ بنود ذلك القانون.

“لدي حلم”، عبارة محفورة اليوم على درج النصب الذي أقيم في المكان الذي ألقى فيه مارتن لوثر كينغ خطابه، ومكتوبة على الصفحة الأولى للقوانين حول الحقوق المدنية التي أصدرها الرئيس جونسون.

المحور الثاني: المسارات الأخلاقية والتشريعية لمواجهة العنف الدولي

1- عدالة دولية غير فعالة

من نهاية القرن التاسع عشر إلى غاية الثالثينيات، أقرت اتفاقيات لهاي الدولية لعامي 1899 و1907 تجريم بعض أعمال العنف. وفي سنة 1920، لم يتم مقاضاة قيصر ألمانيا ويليام الثاني الذي لجأ إلى هولندا؛  بالمقابل، عهد الحلفاء إلى ألمانيا بمهمة محاكمة المسؤولين عن الفظائع الألمانية التي ارتكبت في بلجيكا خلال غزو عام 1914، لكن المحاكمات التي أجريت في اليبزيغو سنة 1921 انتهت بالفشل نظرا لوجود عدد قليل من المتهمين ناهيك على أن الأحكام الصادرة في حقهم كانت خفيفة للغاية.

وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، دافع الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان عن فكرة وجود آلية قضائية جنائية دولية دائمة، كما تم بعد ذلك تطوير مشاريع نظرية من قبل متخصصين في القانون الدولي. لكن ظلت عصبة الأمم ومحكمة العدل الدائمة المرتبطة بها عاجزتين عن تفعيل المعالجة القضائية فوق الوطنية للعنف بين الدول أو حتى داخل الدول.

إضافة إلى ذلك، نصت الاتفاقية الموقعة في نونبر 1937 على إنشاء محكمة جنائية دولية قادرة على محاكمة مرتكبي الجرائم الإرهابية، لكن هذه الاتفاقية لم يتم التصديق عليها، ولم يتم تطبيق بنودها.

2- بعد الحرب العالمية الثانية

كانت من أحد أهداف الحرب التي طرحها الحلفاء محاكمة النازيين عن جرائم الحرب التي ارتكبوها أمام محاكم دولية وهو ما تم أجرأته فعليا؛  وقد أضحت محاكمات نورمبرغ (نونبر 1945 – أكتوبر 1946) وطوكيو (مايو 1946 – نونبر 1948) التي نظمت بعد الاستسلام الألماني والياباني، المرجعين الإلزاميين للفقه الدولي، خاصة فيما يتعلق بتعريف الجريمة ضد الإنسانية الواردة في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية بنورمبرج والصادر في 8 غشت 1945.

إلى جانب ذلك، ظهرت أصوات منددة بحالات الطوارئ التي شهدتها السياسة الدولية والتي أثرت على محاكمة القادة النازيين واليابانيين، حيث اتفق الفقهاء والمؤرخون على أن المحاكم العسكرية الدولية التي تم إنشاؤها مارست العدالة لفائدة الفائزين في الحرب.

وقد ركزت الانتقادات الموجهة لهذه المحاكم بشكل رئيسي على عدم الالتزام بمبدأ “لا شيء بلا شرط” والذي يحظر إدانة أي شخص بجريمة لم يسبق تجريمها بنص محدد.  زيادة على ذلك، لم يتمكن الضحايا من رفع دعوى مدنية، الأمر الذي لم يلب المطلب الاجتماعي للعدالة. وأخيرا، وهو ما يثير الاستغراب محاكمة المتهمين على أفعال ارتكبها أيضا الحلفاء مثل عدم إدانة الأدميرال “دونيتز” عن جرائم حرب الغواصات التي ارتكبها.

 ومع ذلك، فقد شكلت العدالة الانتقالية تجربة مهمة لا يمكن رفضها لمجرد أنها كانت عدالة المنتصر، ذلك أن ما يسمى “بمحاكمة الأطباء” التي عقدت في نورمبرغ في غشت 1947 أمام محكمة عسكرية أمريكية حصرية، قد أرست المبادئ الأولى لأخلاقيات علم الأحياء، وخاصة في مسائل التجارب الطبية.

لكن في المقابل، لا ينبغي اختزال المحكمة العسكرية الدولية التي أقيمت بعد الحرب العالمية الثانية فيما نفذه المنتصرون، بل يمكن اعتبارها أيضًا قد وضعت أسسا لقانون القضاء الدولي، حيث ابتكرت مفهوم المسؤولية الفردية عن جرائم الحرب غير القابلة للتقادم للمجرمين.

إضافة إلى ذلك، تمت المصادقة على اتفاقيات جديدة مهمة عملت على تقديم تعريف محدد للجرائم الدولية، بما في ذلك الجرائم ضد الإنسانية (اتفاقية 9 دجنبر 1948)؛ وفي نفس الوقت تم طرح فكرة المحكمة الجنائية الدولية.

وفي الخمسينيات من القرن الماضي عملت لجنة القانون الدولي على تطوير عدة مشاريع لكنها باءت بالفشل.

وفي خضم الحرب الباردة، عملت القوتان الدوليتان الكبيرتان على تعطيل العدالة الدولية نظرا لما تشكله من تحد يقلص من مجال المناورة أو المخاطرة بالاتهامات المتبادلة فيما بينهما، في هذا السياق يفهم لماذا تظهر فترة الحرب الباردة كقوسين يحدان من مناهضة العنف الدولي. وهو ما تسبب في إعاقة التقدم نحو العدالة الدولية.

3- الوضع الدولي ابتداء من التسعينيات والضرورة القضائية الملحة

عادت مسألة الأولوية القضائية الجنائية الدولية والدائمة إلى الظهور في أوائل التسعينيات، عندما تلاشت الحرب الباردة. فبعد حرب العراق عام 2003، تمت محاكمة صدام حسين أمام المحكمة العراقية الخاصة التي أنشأتها الولايات المتحدة، في تجاهل لمحاكمة دولية محايدة وعادلة، وحُكم عليه بالإعدام في دجنبر 2006. ثم محاكمة الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في إقليم يوغوسالفيا السابقة منذ عام 1991، حيث نظرت المحكمة في المذابح التي وقعت وتهجير السكان والاغتصاب وغيرها من الأعمال المرتكبة لأغراض التطهير العرقي. وأيضا في 8 نونبر 1994 صدر عن مجلس الأمن قرار رقم 955 والقاضي بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا مقرها أروشا (تنزانيا)، والتي اختصت بالنظر في جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها التوتسي في الفترة الممتدة ما بين أبريل ويوليوز 1994.

وعلى الرغم من كل الصعوبات والانتقادات الموجهة للمحاكم الجهوية المختصة، تبقى هذه الأخيرة تجربة ساهمت في تسليط الضوء على حدود العمل القضائي الدولي في مواجهة العنف.  

مع ذلك، لا ينبغي أن نقلل من الدور الذي لعبته، باعتبارها تمثل نقطة تحول مهمة، نحو إنشاء آلية قضائية دائمة؛ من شأن تفعيلها أن يدفع المجتمع الدولي تدريجياً إلى النظر في نقل الاختصاص الممنوح للمحاكم المختصة والمنحصرة مكانيا وزمانيا إلى محكمة دائمة يمتد اختصاصها ليشمل العالم أجمع. وفي هذا الإطار، تم التوقيع على نظام روما الأساسي في يوليوز 1998، والقاضي بإنشاء محكمة جنائية دولية؛ وقد دخلت المعاهدة حيز التنفيذ في يوليوز 2002 بعد التصديق عليها من قبل 60 دولة.

ويمكن الإشارة إلى أن نهاية الحرب الباردة أتاحت إنشاء آلية قضائية دولية في أقل من عقد من الزمن، لكن في الوقت نفسه، شهد العالم تفاقم الصراعات والنزاعات واتخذ العنف الدولي أشكالا متعددة حتى داخل الدولة، وهنا يطرح التساؤل حول كيفية تعامل العدالة الدولية مع هذا النوع من العنف؟

4- أدوار جديدة للجهات الفاعلة في العدالة الدولية لتجاوز العراقيل

نظرا للتعثر الذي شهدته العدالة الدولية، عملت بعض الدول على منح نظامها القضائي الوطني آلية قضائية عالمية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية المفترضين في الخارج بغض النظر عن جنسيتهم، سواء مرتكبي الجرائم أو المتهمين أو الضحايا.

في هذا الشأن، نذكر نموذج دولة بلجيكا التي أصدرت قانون عام 1993؛ بموجبه فتحت المجال لما يسمى بالدبلوماسية “الأخلاقية”؛ كما منحت دول أخرى لمحاكمها المختصة الآلية القضائية العالمية، وإن كان تنفيذها بدرجة أقل على غرار سويسرا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وغيرها.

وفيما يتعلق بالعدالة الدولية الرسمية، فهذه الأخيرة تواجه عددا من التحديات، حيث تتعرض للضغوط الممارسة من قبل الدول، إضافة إلى رفض التعاون أو التنفيذ الشاق لأوامر الاعتقال، وما إلى ذلك.

إضافة إلى أن الدول تمتلك النفوذ المالي الذي يخول لها إبطاء عمل المحكمة الجنائية الدولية، وفي هذا الإطار كثيرا ما تم التنديد بنقص الموارد المالية للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.

5- المنظمات غير الحكومية حافز للعدالة الدولية

 إن عولمة صور العنف المرتكب في جميع الدول تساهم في نشر الوعي وإدراك الحاجة إلى ضرورة محاكمة المسؤولين، وفي الرفع من القيم الأخلاقية لدى المجتمعات. في هذا السياق يبرز الدور المهم الذي قام به الرأي العام الدولي عبر المنظمات غير الحكومية في تكريس العدالة الدولية.

ففي سنة 1993، قامت المنظمات غير الحكومية المجتمعة في فيينا بصياغة إعلان يدعو إلى إنشاء محكمة جنائية دولية. وفي الفترة الممتدة ما بين سنة 1996 إلى سنة 1998، اغتنمت المنظمات غير الحكومية فرصة انعقاد دورات اللجنة التحضيرية المكلفة من قبل الأمم المتحدة بإنشاء مشروع لمحكمة دولية لإسماع صوتها؛ حيث تمكنت هذه المنظمات من إنشاء تحالف دولي لغرض إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. وفي المجمل، قامت أكثر من 2000 منظمة غير حكومية (من منظمات حقوق الإنسان، ومناهضة التعذيب، وحقوقيون بلا حدود، وما إلى ذلك..) بممارسة الضغط على الدول من أجل التوصل إلى اتفاق، من خلال اقتراح الحلول، أو إدانة التنازلات، الأمر الذي ساهم في تجنب الأسوأ في كثير من الحالات، وبذلك نصبت المنظمات غير الحكومية نفسها فاعلا أساسيا في العدالة الدولية.

 في هذا الصدد، استطاعت المنظمات غير الحكومية الحصول على ضمانات بخصوص نزاهة عملية التعيينات في مناصب المحكمة الجنائية الدولية، حيث اشترطت ضرورة تعيين موظفي المحكمة وفقًا لمعايير الكفاءة المنصوص عليها في نظام روما الأساسي وليس تبعا للاعتبارات السياسية.

أيضا، يبرز دور المنظمات غير الحكومية كأصحاب مصلحة في الإجراءات القانونية الدولية من خلال تمثيل ضحايا العنف، حيث تعمل على إثارة التعاطف وتعبئة الرأي العام. وأيضا إمكانية تقديم دلائل على الجرائم المرتكبة؛ ناهيك على أنها تدق بانتظام ناقوس الخطر بشأن المآسي التي تحدث بعيدًا عن وسائل الإعلام، أو التي قد تتلاشى في غياهب النسيان.  كما أن هذه المنظمات تناضل من أجل حصول الضحايا على حقوق جديدة في الإجراءات التي بدأتها المحكمة الجنائية الدولية؛ ففي يناير 2006، اعترفت المحكمة بحق 06 ضحايا في المشاركة في الإجراءات المرفوعة بشأن جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي هذا السياق، رحبت المنظمات غير الحكومية، ولا سيما الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، بهذا القرار باعتباره يمثل تقدماً كبيرا، يساعد على حصول الضحايا على الحق في التمثيل، ويمكنهم من الحصول على التعويض عن معاناتهم.

فوفقاً للمنظمات غير الحكومية، ينبغي أخذ مصالح الضحايا بعين الاعتبار على أنها الكفيلة وحدها بتحقيق المصالحة المأمولة؛ في مقابل مصالح المتهم الذي يعمل على إزالة آثار الجريمة، وترهيب الشهود، وتغييب العدالة الدولية.

في هذا الباب، واجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسالفيا السابقة محاولة محو الأدلة، وتدمير الوثائق، وتراجع الشهود… كما أن الموتى أصبحوا مرة أخرى ضحايا للعنف، فقد تم إخفاء جثث الضحايا، ونقلها من “المقابر الجماعية الأولى” إلى “المقابر الجماعية الثانوية” لتغطية آثارهم. فيجب إذن على العدالة الدولية أن تثبت أنها تقدم مساهمة حاسمة.

6- انتهاكات القانون الإنساني والمسؤولية الفردية

أشار مؤتمرا لهاي في عامي 1899 و1907 إلى “قوانين إنسانية” للحد من عنف الحرب. واليوم، أصبح هدف المحكمة الجنائية الدولية ينصب على محاكمة جرائم “انتهاكات القانون الإنساني”؛ على عكس المحاكم المختصة التي تم إنشاؤها بعد وقوع هذه الجرائم، ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية تقوم بدور وقائي، حيث تتابع الأفراد الذين يرتكبون أفعالًا تقع ضمن نطاق المحكمة، رغم كون دولهم لم تلتزم بالنظام الأساسي.

إن مسألة المسؤولية الفردية في أعمال العنف أو الجرائم الجماعية لها أهمية قصوى. وهذا الأمر، رغم كونه يعد كلاسيكيا، إلا أنه لا يقل أهمية في تحديد هوية المتهمين، وقد عملت المحكمة على متابعة فقط الأفراد الذين يعملون لدى الدولة التي صادقت على نظام روما، وهو ما يمكن أن يثير الكثير من الانتقادات حيث ينطوي على مسألة البعد السياسي، سواء للتعليمات أو المحاكمات.

ففي عامي 2002 و2003، تم تقديم أكثر من 1000 شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يطرح مشكلة أخرى تتعلق بفعالية المحكمة، ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية لم تشرع في عقد أولى جلساتها في لهاي إلا في مارس 2005، ولم تشرع في عملها إلا في يونيو 2005، وذلك بعد إحالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث فتح المدعي العام تحقيقًا في الجرائم المرتكبة في دارفور، كما أصدر أولى مذكرتي اعتقال ضد اثنين من زعماء المتمردين الأوغنديين المتهمين على وجه الخصوص باختطاف 25 ألف طفل، تم استخدامهم كجنود أو عبيد.

أكيد أن عيوب المحكمة الجنائية الدولية كثيرة جدا، خاصة ما يتعلق بخضوعها للضغوطات السياسية الدولية، إلا أن وجودها يشكل خطوة مهمة من أجل إقامة عدالة دولية تردع المجرمين عن تنفيذ أعمال العنف أو الأمر بها. وهكذا، فمع قيام المجتمع الدولي على أساس احترام القانون، قد يتوقف العنف والحرب ويحل السلام على المستوى الدولي.

يقول روس بروت: “عندما أقوم ببناء فريق فإني أبحث دائماً عن أناس يحبون الفوز، وإذا لم أعثر على أي منهم فإنني أبحث عن أناس يكرهون الهزيمة”.

وأنهي بقولي: المهم أن يشق الإنسان دائما عمله ونضاله بكل إرادة وحرص وإخلاص وإصرار ضمن فريق طموح، من أجل الحق والكرامة والحرية والسلام والعدالة.

المداخلة الكاملة للأستاذ محمد حمداوي في ندوة المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري ببرشلونة السبت 24 فبراير 2024