الأساس التربوي عند الإمام.. طبيعته ومكانته وآليات تصريفه

Cover Image for الأساس التربوي عند الإمام.. طبيعته ومكانته وآليات تصريفه
نشر بتاريخ

مقدمة

عندما نستقرئ ما كتبه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى من كتب ومؤلفات، وعندما نستمع إلى ما تحدّث به من دروس ومحاضرات، سنقف على ملاحظة مهمة، وهي: أن القاسم المشترك بين كل ما كتبه وكل ما تحدث به، والذي تكرر بشكل كبير وواضح هو: التربية. ومن هنا نفهم أن تركيز الإمام رحمه الله تعالى على التربية بشكل عام وعلى التربية الإيمانية والإحسانية بشكل خاص (التربية المنهاجية) له أهميته الكبرى في المشروع المجتمعي الذي حمله والذي نادى به وبشر به واستبشر به خيرا لهذه الأمة وكذلك للإنسانية جمعاء.

تركيزه رحمه الله تعالى على التربية كان إيمانا منه بأن هذه الأمة المستضعفة والمغلوبة على أمرها في حاجة إلى التربية، وأن غيابها هو ما أوصلها إلى ما وصلت إليه من الغثائية والاستضعاف. وإيمانا منه كذلك أن أيّ عمل كيفما كان كبيرا أو صغيرا، دنيويا أو أخرويا، فرديا أو جماعيا، وفي أي ميدان كان، لابد أن يتأسس على التربية، فـ”بداية السير التربية”، وإلا كان عملا ناقصا من حيث الروح والمعنى، ومن حيث الثمرة والنتيجة. يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2].

فكان كل ما كتبه الإمام رحمه الله تعالى وقاله وتحدث به حول التربية يمثل منهاجا تربويا أو مخططا في التربية يمتاز بنسق متكامل؛ فيه مدخلات عبارة عن برامج تربوية وموارد بشرية، وفيه عمليات عبارة عن مجالس تربوية منظمة وحيوية ونشيطة، وفيه مخرجات عبارة عن ثمار التربية ونتائجها، وفيه جهاز متابعة يخطط ويوجه ويتابع، وفيه تغذية راجعة لإصلاح الخلل والضعف والتقصير إن وجد. هذا المنهاج التربوي الذي قدّمه الإمام رحمه الله تعالى كما أسهم في بناء الجماعة وفي تخريج جيل من المربين والربانيين ممن لهم الكفاءة التربوية العالية، أصّل كذلك لعلم وفكر تربوي تنتفع منه الأمة رجالا ونساء في مشارق الأرض ومغاربها.

في هذا الموضوع أو المقال سنتحدث إن شاء الله عن موضوع التربية من خلال التعرف على طبيعة هذه التربية، وعلى مكانتها في الفكر المنهاجي، وعلى آليات تنزيلها وتنفيذها في الواقع.

تعريف التربية

في البداية وقبل الحديث عن طبيعة التربية وما بعدها دعنا نعطي لها تعريفا منهاجيا مبسطا، يقول الإمام رحمه الله تعالى في كتابه “المنهاج النبوي”: “التربية عملية على نجاحها يتوقف ميلاد المسلم إلى عالم الإيمان ثم نشوؤه فيه وتمكنه ورجولته”. انطلاقا من هذا التعريف يتضح لنا أن التربية التي يقصدها الإمام رحمه الله هي التربية التي تتم من خلال العلم والعمل، وأن ثمرتها هي انتقال وارتقاء من عالم إلى عالم، وأن وظيفتها هي التنشئة وتمكين الإنسان من بناء شخصيته الرجولية.

فالعملية إذا هي انتقال وارتقاء، وتنشئة ونماء، وتمكّن وبناء.

ويزيد رحمه الله تعالى لهذه التربية المنهاجية توضيحا فيقول: “التربية تنميةُ الإيمان والطموحِ. التربية صعود إراديٌّ وتصعيدٌ مستمر. التربية اقترابٌ من الكمال وتقريب. التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة” [1].

فالذي لا يفهم هذه المعاني لا يمكن له أن يفهم العملية التربوية برمتها في الفكر المنهاجي.

طبيعة التربية

عندما نقول التربية المنهاجية فإننا لا يمكن أن نصف هذه التربية إلا بأوصاف لها علاقة وارتباط بالمنهاج النبوي. فهي تربية قرآنية نبوية وإيمانية وإنسانية ومتوازنة. ماذا يعنى هذا الكلام؟

هي تربية قرآنية نبوية بمعنى أنها تستقي من القرآن أصولها وقواعدها، وتجعل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجها وطريقها ووجهتها، فهي تنحى منحاه، وتقتفي أثره، وتتأسى به في كل أقواله وأفعاله وأحواله. يقول الله تعالى: لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرا [الأحزاب: 21].

وهي تربية إيمانية لأنها لا تكتفي بالإسلام مرتبة بل تتوجه إلى الايمان فتجدده وتنمّيه وتقوّيه حتى يكون صاحبُه له مؤهلات للعمل وله استعداد للجهاد في سبيل الله، وله إمكانيات للفاعلية الإيجابية في المجتمع، وله قدرة على إعطاء القدوة الحسنة في السلوك والأخلاق والعمل الصالح. وبعد الإيمان يتطلع هذا المؤمن وهذه المؤمنة إلى الإحسان ومقاماته.

وهي تربية إنسانية بمعنى أنها متوجهة إلى الإنسان لبنائه في كليته، فهي تربية شاملة تربي فيه قلبه حتى يكون سليما، وعقله حتى يكون متنورا، وجسده حتى يكون جميلا، وجوارحه حتى تكون مستقيمة، ونفسه حتى تكون مطمئنة، وتحاول بكل هذا العمل التربوي أن تعيد فيه الترتيب الفطري بالشكل الصحيح، فيكون القلب هو الملك والعقل هو الوزير والجوارح هي الجنود المنفذة والنفس هي التابعة وليس المتبوعة.

وهي تربية متوازنة بمعنى أنها لا تغلّب جانبا على جانب آخر، فهي لا تُغلب الجانب القلبي على الجانب العقلي ولا على الجانب الحركي. لكنها تجعل ذلك كله في توازن مشروع، وإن كان الأمر في بعض الأحيان يقتضي إعطاء الأولوية للجانب القلبي لما له من أهمية في المعادلة التربوية وعمليتها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: “ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ”.

مكانة التربية

تكتسي التربية مكانتها العالية والسامية في السلّم العملي أو التنظيمي أو الفكري من خلال ما تؤديه من أدوار مهمة ووظائف عظيمة. التربية هي التي تحول الفكر إلى السلوك، وهي التي تجعل العلم قابلا للعمل، وهي التي ترقّي الإنسان في مدارج الدين من إسلام لإيمان لإحسان. وهي التي تجعل التنظيم إسلاميا، وهي التي تحفّز على الفعل الإيجابي في المجتمع وعلى الحركة والدعوة والجهاد. وهي التي تمنع الخلل والزلل أن يقع في المجالات الحيوية الأخرى من سياسة واقتصاد وتعليم وإدارة واجتماع. وهي التي تحرر الأفراد والأمة على حد سواء من أعظم العقبات: الأنانيات المستعلية، والذهنيات الرعوية، والعادات الجارفة. وهي التي تحدد الخلاص الفردي للإنسان عند الله عز وجل، والخلاص الجماعي للأمة في التاريخ، وتجمعهما لدى المؤمن والمؤمنة في همّ واحد لا يتجزأ.

فلهذه الاعتبارات ولغيرها مما لم نذكر، احتلّت التربية هذه المكانة المرموقة ونالت هذه الأولوية في الفكر المنهاجي عند الإمام رحمه الله تعالى الذي كان يؤكد دائما على أن “التربية أولا ووسطا وآخراً ولا آخر”. “التربية ثم التربية ثم التربية”.

الذي نفهمه من هذا الكلام أن التربية تأخذ من مساحة المشروع الذي جاء به الإمام رحمه الله ثلاثة أرباع، ويبقى الربع الآخر للشؤون الأخرى خاصة السياسية منها.

وتعتبر الخصال العشر (الصحبة والجماعة، الذكر، الصدق، البذل، العلم، العمل، السمت الحسن، التؤدة، الاقتصاد، والجهاد) المسطرة في المنهاج النبوي، والتي تضم بشكل مرتب ومنظم شعبَ الإيمان السبع والسبعين هي المجال المخصص والمفتوح للسلوك التربوي نحو اقتحام العقبة، يترقى به وعليه المؤمن والمؤمنة من إسلام يشترك فيه العامة، لإيمان يؤهل لسماع نداء الله تعالى بـ [يا أيها الذين آمنوا] بنية التنفيذ، لإحسان هو محطّ نظر ذوي الهمم العالية من الرجال والنساء.

آليات التنزيل

مادام أننا قلنا إن هذه التربية المنهاجية عملية فهي بالتأكيد لها آليات ووسائل لتنزيلها في الواقع وتثبيتها وترسيخها في صفوف الأفراد حتى تنجح وتحقق أهدافها وغاياتها. وهي آليات منها ما هو فردي المتمثل في الورد اليومي، ومنها ما هو جماعي المتمثل في المجالس التربوية.

فيما يخص الورد اليومي فهو عبارة عن برنامج ينظم للمؤمن والمؤمنة أوقات اليوم والليلة حتى تكون في ذكر الله تعالى وفي يقظة إيمانية دائمة بعيدا عن الغفلة والتسيّب. ويسميه المنهاج النبوي بــــــ”يوم المؤمن وليلته”. تتوزع هذه الأوقات على قيام الليل والاستغفار بالأسحار والصلوات المفروضة والرواتب وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى ودعاء الرابطة، وعلى العمل الحرفي والمهني والوظيفي بإتقانه، وعلى التواصل الأسري والاجتماعي، وعلى طلب العلم وتحصيله والتفقه في دين الله تعالى، وعلى الدعوة وخدمة الأمة وقضاياها العادلة.

أما المجالس التربوية، فهي عبارة عن محاضن منها ما يقلّ عددها ومنها ما يَكثر حسب نوعيتها، تنعقد في دوريات منظمة وببرامج متنوعة وفق الحاجات التربوية والتعليمية والتنظيمية. على سبيل المثال نجد مجالس تربوية أسبوعية وأخرى تعليمية، مجالس النصيحة، مجالس المرابطة، مجالس شهرية جامعة وغيرها.

إلى جانب الورد اليومي الذي هو يوم المؤمن وليلته، والمجالس التربوية هناك آليات أخرى لا تقلّ أهمية عما أوردناه آنفا، من ذلك عقد الأخوة، المحبة الإيمانية، عمارة المساجد، المدارس القرآنية والحديثية والفقهية والإحسانية، الزيارات والاستزارات لأهل السابقة والغناء والحظ من الله تعالى.

ومما يساعد على التربية أيضا ويَفتل في نجاحها بشكل كبير سَند الصحبة. فتكون هذه التربية بهذا السند المتسلسل عبر تاريخ الإيمان متصلة بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم وِراثة، وموصلة له دعوة وحالا. وهذا مما يُنهض الهمم للصّحوة واليقظة، ويحفّز الإرادات على العمل والدعوة والجهاد. يقول الإمام رحمه الله تعالى: “فإن كان سند الحديث يسلسل إلينا أوامر ووصايا نبوية ويحفظ الدين من الزيادات البدعية والأباطيل، فإن سند التربية والتسليك يهيئ تربة القلوب التي تسمع فتعي، فتنهض للتنفيذ” [2].

وللمزيد من المعرفة حول موضوع التربية من حيث الأهداف والشروط والمبادئ والأساليب، يرجى الرجوع إلى مقالنا الذي تم نشره في موقع الجماعة تحت عنوان “موضوع التربية في فكر الإمام المجدد” [3].

خاتمة

وفي الأخير نودّ أن نقول كلاما نحسبه مهما، أن المشكل الذي يواجه العلماء والمفكرين والدعاة اليوم أكثر مما مضى هو الكيفية التي يتم بها ربط الفكر بالسلوك، أو كيفية تحويل الأفكار إلى سلوك وإلى واقع. حقيقة إنه لرصيد ضخم جدّاً ما يُنتجه المفكرون والدعاة والعلماء كل يوم من حلول لمشاكل الإنسان في حياته الإيمانية والاجتماعية، وما ينصحون به من توجيهات علمية، وما يصفونه من وصفات تربوية تُبثّ عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية وبأحدث الوسائل التكنولوجية. ولكن بالرغم من ذلك الرصيد الضخم لم يحدث التغيير المطلوب في السلوك والواقع. والسبب في ذلك راجع إلى غياب تلك الحلقة التي تربط بين الفكر والسلوك والواقع. حتى وإن استحضرها البعض اسما ورسما لكنها غابت فعلا وعملا. وهذه الحلقة هي التربية. الأمر الذي انتبه له جيدا الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وجعله أولى أولويات تصوره المنهاجي. يقول رحمه الله تعالى في كتابه “سنة الله”: “فالتربية ثم التربية ثم التربية هي المطلب المحوري في الأمة” [4]. التربية أولا وأخيرا ولا آخر. فكانت التربية التي تُمارس من خلال مجالس تربوية وتعليمية وغيرها هي العامل المهم والحاسم في ترجمة وتحويل فكره المنهاجي إلى سلوك منهاجي تحمله الجماعة وأعضاء الجماعة وكل من اقتنع بأهمية هذا الفكر وتعاطف معه.

نقول هذا لنؤكد أن حديثنا عن نجاح المشروع الإسلامي المجتمعي في غياب هذه العملية التربوية الشاملة والكاملة سيبقى مجرد أفكار تحوم في جوّ سمائنا ولا تنزل إلى واقع أرضنا.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه، والحمد لله رب العالمين.


[1] عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، ص: 84.
[2] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 364.
[3] ينظر: https://www.aljamaa.net/posts/145939
[4] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص: 47.