مجلس الإحسان |27| من أصحب يا رب؟

Cover Image for مجلس الإحسان |27| من أصحب يا رب؟
نشر بتاريخ

تحدث الأستاذ عبد الكريم العلمي في المجلس السابق عن أنواع السلوك وعن رجاء الإمام المرشد رحمه الله أن يكون سلوك السالكين إلى الله عز وجل فيما يستقبل من زمان أن يكون سلوكا جهاديا جماعيا كما كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم وهم في حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي المجلس السابع والعشرين “من أصحب يا رب؟” يواصل الأستاذ العلمي قراءته في كتاب الإحسان للإمام المجدد رحمه الله فيقول:

“بسم الله الرحمن الرحيم. رب انصرني بما كذبون. يا ولي الإسلام وأهله، ثبتني به حتى ألقاك”.

ينبغي أن نضع الحديث عن الصحبة وأنواعها في سياق الجهادي وأول شروط هذا السلوك الجهادي هو الصحبة والجماعة.

في هذا المبحث “من أصحب يا رب” يمكن تقسيمه إلى ثلاثة محاور:

1-                طريق البحث عن الولي

2-                محاذر في هذا الطلب

3-                تجربة الإمام رحمه الله في هذا الطلب

وتذكيرا بما سبق يقول الإمام المجدد إن طالب الحق الذي احترق فؤاده في طلب وجه الله ومعرفته لا يهمه أن يكون الشيخ المقصود إماما للصلاة كما رأينا عند ابن تيمية أو حاضنة كما عند العز بن عبد السلام أو كان من الأطباء الذين يعطون الترياق كما رأينا عند جهابذة هذا الفن وهو صنف نادر.

وهنا يقول الإمام المجدد:

“إن وجد الطالبُ الغريبُ الفريد، الصادق في طلبه، فكيف لقاؤه مع ذلك الوارث الكامل المتحقق بتبعيته الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم، النادر حتّى لا تجد إلاّ واحدا في الخلق بعد أن تصعد الحساب إلى آلاف الآلاف تعدها حتى ينقطع نَفَسُك؟
تلتفت إلى مصدر الهداية والنّور والدلالة على الله وهو الرسول المكرم صلى الله عليه وسلم فيخبرك أن: “الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”.

ويوجه تحذيرا:

“انظر وابحث وتحرَّ لئلا تسقط على أول خطيب يسحرك ببيانه، أو أول واعظ رقَّقَ قلبك فأبكاك وأبكى الناس، أو أول ذي رئاسة في العلم الظاهر حوله هالة وتلامذة، أو أول متشايخ من أبناء الفقراء له في الطريقة نسب عريق، أو حتى أول مُبَهْرِج نصّاب مرتزق، بل أول شيطانيٍّ عراف يُخبرك أخبار بيتك ويُمخرق وتزدحم العامة الذبابية على بابه”.  

إذن الأمر ليس بالهين، إذا لم يكن التوفيق الكامل من الله فقد يسقط في إحدى هذه الطبات العظمى والعياذ بالله.

وويورد الإمام رأي أبي النجيب السهروردي:

“رتبة المشيخة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله”.

ويلتفت الإمام عبد السلام ياسين إلى طرق ثلاث في البحث عن الشيخ

“أمامك إحدى ثلاث طرائق للنظر والبحث فيمن تخالل. فالأمر موكولٌ إليك.

أول طريقة أن تعتمد على موازينك المسكينة وتزن بها من يُشار عليك بصحبته. تجيء بمواصفات مسبقة وَقَرَتْ في فهمك، فربَّما تتصور هذا الوارثَ الكامل النائبَ في مقام الدعوة إلى الله على صورة ما يشبه الملائكة، فكن على ثقة أنك لن تعثر على شيء ولو انقطعت أنفاسك مرات في عد الآلاف، ولو انقطع عمرك في السياحة شرقا وغرباً تحمل معك تلك الموازين المسكينة. ذلك أن أولياء الله أصنافٌ ومراتبٌ وألوانٌ، منهم الوسيم الجميل الفصيح البليغ الجامع بين علم الظاهر وعلم الباطن، ومنهم الأشعث الأغبر، الذي لا يكاد يُبين. وربما يفوتُك الفَوْت حين تتخطّى رجلا عاديا في مظهره لا يُؤبَهُ له، وهو من هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: “رُبَّ أشعث أغبرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه”.
الطريقة الثانية هي التجريب حتى تجد من ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله:

“الطريقة الثانية أن تجرِّب ثم تجرب حتى تعرف من نفسك هل عثرت على من: “ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله”. وهنا أيضا إن اعتمدت على يقظتك وفطنتك ستقضي عمرا طويلا في بلاد التيه لأنك لا تستطيع تُميز بين”النهضة” التي يحدثها فيك مقال الواعظ الصادق الذي يسمعه العاصي فيتوب إلى الله على يديه، وبين “نهضة” القلب الذي تنتزعه صحبة العارف الوارث من لصوقه بالدنيا، وتحلق به في سماء طلب وجه الله. ثم إنك قد تجرِّب على المطلوب الحقيقي فتجده على غير ما كنت ترجو. وقد يصدر منه السلوك البشريُّ العاديُّ فتنكره، فلا تستطيع معه صبراً كما لم يستطع موسى صبراً مع الخضر عليهما السلام. نعم، لا يكون أحد من الصالحين، بَلْهَ أن يكون من الأولياء المتبوعين وهو مرتكب للكبائر مصر على الصغائر. ميزان الشرع معك هو وحده عاصمك. لكن ما زاد عليه مما هو من مثاليات معاييرك المسبقة فأوهام لا تنفع.
كنتُ حين استوحشت من الدنيا عِفْتُ نفسي وطار لُبّي في طلب الحق عز وجل.  

والطريقة الثالثة المعتمدة التي يوصي بها فيقول رحمه الله:

“كنتُ حين استوحشت من الدنيا عِفْتُ نفسي وطار لُبّي في طلب الحق عز وجل. اخْشَوْشَنْتُ وانقبضت وانصرفت للعبادة والتلاوة والذكر آناء الليل وأطراف النهار. فلما منّ علي الحنان المنان له الحمد والثناء والشكر بلقاء شيخي رحمه الله وجدت أنْساً ورحمة وطلاقة وبشرا وفرحا بالله. ما كنت أتصور مدة انقباضي و”أزمتي” وبحثي أن من شأن مريد صادق أن يضحك، ولا أن يلتذ بطعام وشراب، ولا أن يستقرّ به فراش وينعم بنوم”.
ثم بعد نقل هذه التجربة يقول:

“دعك من الاعتماد على غير الله، وابحث واحمِلْ معك ميزان الشرع، لكن لا مخرجَ لك من البحث التائه إلى أن تقف على باب الملك الوهاب الهادي. استخره واستعنه وتوكل عليه ولن تعدُوَ قدرك ومقدورك وسابقتك على كل حال. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: “إذا أشكل عليك الأمر ولم تفرق بين الصالح والمنافق فقم من الليل وصل ركعتين ثم قل: يا رب دلَّني على الصالحين من خلقك، دلني على من يدلني عليك، ويطعمني من طعامك، ويسقيني من شرابك، ويكحل عين قلبي بنور قربك، ويخبرني بما رأى عيانا لا تقليدا”.1 وقال: “إذا أردت أن تصحب أحدا في الله عز وجل، فأسبغ الوضوء عند سكون الهمم ونوم العيون، ثم أقبل على صلاتك تفتح باب الصلاة بطُهورك، وباب ربِّك بصلاتك. ثم اسأله بعد فراغك: من أصحب؟ من الدليل؟ من المخبر عنك؟ من المفرِّدُ؟ من الخليفة؟ من النائب؟ هو كريم لا يخيِّبُ ظنَّك. لا شك يُلهم قلبك، يوحي إلى سرِّك، يفتح الأبواب، يضيء لك الطريق. من طلب وجدَّ وجد”.

وأشير إشارات مركزة وهي تدخل في سياق شهادة الإمام المجدد نفسه. لقاؤه بالشيخ العباس يعتبره انقلابا كليا وميلادا حقيقيا ميلادار رةحيا يميز الإنسان الحق. هذا الانقلاب وهذا الميلاد الروحي كل هذا يعتبره نومة صوفية. قال في “الإسلام أو الطوفان” يعرف نفسه للحسن الثاني:
“ونمت نومة صوفية دامت ست سنوات قرأبقلب جديدت خلالها بل أعدت قراءة القرآن الكريم وقراءة السنة النبوية بقلب جديد”.

وفي نفس الشهادة يعتبر هذه الفترة فترة طفولية، يقول في الإحسان:

“الآن أعود إلى الموضوع لا لأتبرأ من الصوفية كما ألح علي بعضهم، ولا لأتحمل تبعات غيري، لكن لأقول كلمة الحق التي لا تترك لك صديقا، لكن لأتجاوز مرحلة كانت النقول عن الرجال ما دون كتاب الله وسنة رسوله سندا لطفولتي في طريق القوم. الآن وقد شب عمرو عن الطوق بفضل الملك الوهاب أعود لأشهد شهادة الحق أرجو بها وجه الله”.

ويقول في الإسلام أو الطوفان في نفس السياق:

“وأذكر نعمة الله علي في الملإ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة”.

وأختم بفقرة من كتاب “الإسلام غدا” من الفصل الثاني:

“لكن الإسلام الفردي والإيمان والإحسان لا يكون بنفسه جماعة، ولو تجمع آلاف من المحسنين ما كونوا جماعة حتى تربطهم روابط ثلاث هي المحبة والطاعة والنصيحة”.