في ذكرى مولد خير البرية، تفرح قلوب المحبين ابتهاجا بيوم أشرقت فيه أنواره صلى الله عليه وسلم، وسطع نجم رسالته الخاتمة.
في ذكرى مولد النور، يستبشر الكون بقدوم خير مولود جادت به بطون مكة، من بنوره أضاءت قصور بصرى الشام، فكان يوما ليس كالأيام.
يوم نحييه فرحا واعتبارا بما حلت به من بشائر النصر والفتح.
يومٌ تلاحمت فيه قلوب حيارى الأرض بفرح ملائكة السماء، إيمانا وحبا ويقينا في عهد مضيء.
نفرح احتفاء بالذكرى العطرة؛ تجديدا للعهد والبيعة لمن أخرجنا من عبودية الهوى والعباد إلى عبودية رب العباد، نحييها استجلاء للعبر مما تحمله من سمو شمائل من حقت وتحق له الذكرى؛ نموذج الكمال البشري، في عبادته وتعامله مع أحبابه وأعدائه.. ونرنو من طيب السيرة الاقتداء وحسن الاتباع، لتحق المحبة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران، 31].
كيف لا نحتفي بمن استحت أوثان الكعبة لولادته، فأبت إلا أن تتهاوى على وجهها؟ كيف لا نفرح بيوم أراد الحق تعالى فيه إذلال كبرياء المتجبرين، فكسر إيوان كسرى وأخمد نار فارس، ولم تكن قد أخمدت قبل ذلك بألف عام؟
كيف لا نحتفي بسيد الذكرى وكان مولده وما صاحبه من أحداث إيذانا بنهاية عهد الشرك والضلال، وبزوغ عهد مشرق ابتعثت فيه دماء الحياة لأمة شرفها الله تعالى بأن جعلها خير أمة، وأنبت من رحمها نساء تفخر أن حرر رقبتها من الوأد وجعلها شطر المجتمع ورحم الأمومة والحياة؟
صلى عليك الله يا علم الهدى، من أوصى بالقوارير وأكرمهن كما الرجال، من علم الأمة بأن وظيفة أنسنة الإنسان لا تكتمل إلا بحضورهن الفاعل والوازن، بل وبالإسهام الجاد في التغيير والبناء المجتمعي.
نعم هي فرصة للتعريف بأخلاق الإسلام وتصحيح ما رسخ في الأذهان من تمثلات خاطئة، وهي ذكرى تسعف في تجديد أواصر الرحم الآدمية والسعي الجاد إلى تقريب الصورة المثلى لنبي أعطى النموذج الأرقى في التعامل مع الآخر في أحلك الظروف.
نحتفي بالذكرى احتفاء يليق ويوافق ما تعيشه الأمة من نكبات، نستجلي الدواء لأدوائها، ونعطي المثل في تعامله صلى الله عليه وسلم وعلاجه لمثيلها.
نحيي الذكرى وغزة الجريحة تكابد وحيدة أمام السرطان الصهيوني الذي يأبى بحقده على الإسلام إلا أن يمارس حربا إبادية وحشية تجاهها، وإنه لأدعى والحالة تلك أن نحتفي بسيد الذكرى، لنعرف العالم برمته خلق الإسلام مقابل ما يفعله الكيان الغاصب.
نحتفي وزوايا الاحتفاء كثيرة، والمناسبة شرط، وشرط ما يعيشه إخوتنا في غزة أوجب لنقول إن دين الإسلام جاء رحمة للعالمين، نجد ونجتهد لإيصال نهجه عليه الصلاة والسلام في الحروب، كيف كان يشدد على الأخلاقيات السامية في التعامل مع العدو في ساحة الحرب، وهو القائل في كل غزوة ومعركة: “لا تقتلوا وليدا..” (رواه مسلم) وفي رواية أبي داود: “ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة..”، لا ولم يفته صلوات الله وسلامه عليه التفاصيل الدقيقة حسب كل واقعة وحيثياتها.
نحتفي بكمال أخلاقه ونذكر بها الكيان الغاصب؛ من دمر وعاث فسادا في أرض غزة، وقتل الأبرياء من المدنيين وجوع أهلها ونكل بالأسرى وغدر بمن يتفاوض معه.
نسمعهم في قلب الذكرى؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: “اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع” (رواه أحمد).
نحتفي بذكرى الحبيب ولا يمنعنا ما نحسه من حزن وألم تجاه ما يحدث لغزة الجريحة من الاحتفاء، بل هو الحافز لاستجلاء ما يفند نعت الإرهاب الذي ألصق بالإسلام وغيره من النعوت الكاذبة، إنه نبي الرحمة يوصي بعدم الإساءة لأهل الصوامع.
أفلا يحق لهذه الأمة أن تحتفي بهذه الأخلاق الراقية، ونسمعها لمن يشاهدون هدم المساجد وقصف من احتمى بها في قلب شعيرة الصلاة؟
نحيي الذكرى ونقول للكيان الغادر بالمواثيق؛ إن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، قد اجتمع له من مكارم الأخلاق ما لم يجتمع لغيره؛ فكان بحق قرآنا يمشي على رجليه بأخلاقه السامية التي كان يتعامل بها في السلم كما في الحرب.
نعم نحيي الذكرى وحق لصاحب الذكرى الاحتفاء وطيب الذكرى، نبي الرحمة من كان يقابل الإساءة بالمواقف المثلى مع العدو، ويوصي بإكرام الأسير والإحسان إليه.
والحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه أن جعل أهلنا في غزة ورثة لخلقه الكريم، وقد رأينا ورأى العالم حسن خلقهم في تعاملهم مع الأسرى، فضلا عن ثباتهم وصبرهم ويقينهم في أن النصر حليفهم ولو بعد حين. فاللهم اجعل ذكرى مولد خير البرية نورا وفتحا ونصرا لأمته صلى الله عليه وسلم، ولإخوتنا في غزة وفي كل فلسطين.