وقفة مع معاني آيات النور (2)

Cover Image for وقفة مع معاني آيات النور (2)
نشر بتاريخ

قال ابن عجيبة في تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان والإسلام والإحسان، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدري، والزيت هو العلم النافع الذي يقوي اليقين، ولذلك وصفه بالضياء والإنارة.

يهدي الله لنوره من يشاء: أي يهدي الله تعالى من يعلم في قلبه خيرا لمعرفته والإيمان به والعمل بتعاليم دينه والسير على طريق الحق والرشاد، وذلك إما بإلهام منه سبحانه أو بواسطة تعليم، وفيه إيذان بأن مناط الهداية إنما هي بمشيئة الله تعالى.

ويضرب الله الأمثال للناس لكي يقرب لهم الأمور وييسر لهم المسائل ويبرز لهم العقول في صورة المحسوس. والله بكل شيء عليم.

محل تجليات نور الله بيوت ورجال

بيوت النور

نور الله الطليق الذي لا يعرف الحدود يدخل بيوتا بإذن من الله فيغمر قلوب ساكنيها بعد أن اطلع على أحوالها وصلاحها وشدة قدرتها لتلقي نور الله.

قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38).

فمشهد البيوت مشابه لمشهد المشكاة المحافظة على النور، ومشهد المصباح المشرق بالنور في المشكاة مشابه لتلك القلوب المشرقة بالنور في بيوت الله.

هذه البيوت أمر الله أن يرفع من قدرها لأنها أحب البقاع إلى الله؛ فيها يعبد ويوحد، فأمر بعمارتها وتعهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق بها. جاء في السنن للدارقطني: “بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة” وقيل: رفعها بمعنى بناؤها.

وهذه البيوت لم تبلغ هذا المقام عند الله إلا لسريان الذكر في ربوعها والتسبيح في أرجائها حتى أصبحت جنات وروضات في الأرض، يقول ابن القيم رحمه الله: “إن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر”.

ساكنة بيوت الله هم رجال يتميزون بأوصاف أهلتهم لكي يختارهم الله من بين عباده ليهديهم للاقتباس من نوره، يهدي الله لنوره من يشاء.

أوصاف رجال النور

فهم عمار بيوت الله، يقتبسون من نوره الذي أودعه الله فيها ويطمعون في أن يغمر هذا النور قلوبهم، بواطنهم وظواهرهم، أيمانهم وشمائلهم، وكل الجوانب المحيطة بهم.

الذين يذكرون اسم الله فيها بكل أنواع الذكر

ثم يحدد جل وعلا بعض أنواعه؛ يسبحونه بالغدو والآصال؛ ينزهونه عن كل نقص بالغدو أي من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والآصال جمع أصيل وهم ما بين العصر وغروب الشمس. وقد خصت هذه الأوقات بالذكر لشرفها، وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات.

لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وهذا دليل على كمال تبتلهم إلى الله تعالى واستغراقهم في تسبيحه، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، لا تشغلهم الدنيا وزينتها عن ذكر ربهم. وتخصيص التجارة بالذكر لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها لما ينتج عنها من ربح مادي، لا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة؛ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، فإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين دون تباطؤ. وتكرار ذكر الله في الآية دليل على سمو قدره عند الله، بل ما شرعت العبادات كلها إلا لتحقيق استحضار وجود الله في كل وقت وحين.

وإيتاء الزكاة وذكرها في الآية وإن لم يكن مما يفعل في البيوت، فلأنها قرينة إقامة الصلاة لا تفارقها في عامة المواضع، مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد. وهي دليل صدق المصلين.

يجمعون بين الخوف والرجاء

يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار؛ أي يخافون شدة يوم القيامة حيث تضطرب القلوب وتتغير من الهول والفزع حتى تبلغ الحناجر، وتتقلب الأبصار من نكران الغيب إلى العيان.

ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله؛ أي أحسن جزاء على أعمالهم، حسب ما وعدهم بمقابلة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، ويزيدهم من فضله وإحسانه بما يليق بكرمه وامتنانه، فيتفضل عليهم بأمور وعدهم بها، كالنظر في وجهه الكريم (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) والشفاعة لمن وجبت لهم.

يقول الشاعر:

هم رجال وعيب أن يقال لمن ** لم يتصف بمعاني وصفهم رجل

والله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب؛ أي بدون حدود ولا قيد، وبدون حصر لما يعطيه، لأن خزائنه لا تنقص ولا تنفذ، حتى يحتاج إلى عد وحساب لما يخرج منها.

وبذلك نرى أن الآيات الكريمة طوفت بنا مع نور الله عز وجل ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار الذين يكثرون من طاعة الله تعالى، في بيوته التي أمر برفعها دون أن يشغلهم شاغل، وبشرهم بالعطاء الواسع الذي سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه.