واقع الفتنة والمخرج منه (2/2)

Cover Image for واقع الفتنة والمخرج منه (2/2)
نشر بتاريخ

أسبابها التاريخية

هذه الفتنة التي أصابت الأمة بأمراض مختلفة وعلى رأسها مرض الغثائية، ومرض داء الأمم، ومرض الردة والارتداد، وافتراق القرآن والسلطان، وانتقاض عرى الإسلام، ما أسبابها؟

لا شك أن هذه الفتنة كانت لأسباب تاريخية وانحرافات وقعت في تاريخ الأمة، وبالضبط بعد النبوة والخلافة الراشدة. هذه الفتنة لم تكن يوما أصلا في الأمة بل طارئا عليها. إنما الأصل هو الإسلام، إسلام العدل والكرامة والحرية.

فالأسباب إذا انحرافات وقعت في تاريخ الأمة غيرت مساره من مجراه الطبيعي إلى وجهة مجهولة. وعلى رأس هذه الأسباب انحرافان خطيران:

1- الانحراف الأول

بدأ بمقتل سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهم وانقضاض بني أمية على الحكم، فتحول الحكم من الخلافة إلى الملك. ومع هذا التحول الخطير غابت الشورى وجاء الاستبداد، وغاب العدل وجاء الظلم، وديست الكرامة وقمعت الحرية، وعاشت الأمة تحت حكم السيف لقرون طويلة وما زالت تصلى بلظاه. “سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمان خلافته حذيفة عن الفتنة التي تموج كموج البحر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص حذيفة بعلم ذلك، يعرف ذلك عنده الصحابة فيسألونه. قال حذيفة: قلت: ما لك ولها -أي الفتنة المائجة- يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابا مغلقا. قال عمر: فيُكسر البابُ أو يُفتح؟ قال حذيفة: لا، بل يُكسر، قال عمر: ذاك أحرى أن لا يُغلق أبدا. قال الراوي: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط. قال الراوي: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب. فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: عمر” 1 .

فتكت الفتن المائجة بخيار الصحابة رضي الله عنهم، بل بعامتهم بعد كسر الباب بمقتل عمر رضي الله عنه. قال سعيد بن المسيب التابعي الجليل رضي الله عنه: “وقعت الفتنة الأولى –يعني مقتل عثمان- فلم يبق من أصحاب بدر أحد، ثم وقعت الفتنة الثانية –يعني الحرة- فلم يبق من أصحاب الحديبية أحد، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وبالناس طباخ” 2 . المراد لم يبق من الصحابة أحد يُذكر. والطباخُ في اللغة القوة والسمن.

بقتل الرجال الأخيار تغيب النماذج الصالحة، يغيب الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر المعلمون المربون، فتبقى الحثالة يموج بعضها في بعض. وإن للفجوة الواسعة العميقة التي تركها فناء الصحابة في حروب الفتنة أبلغ الأثر في نقص تربية الأجيال اللاحقة. )من قتل عمر وفناء الصحابة بدأ انسياب تاريخنا من قمم الإحسان إلى بطاح سنة الله الجارية على الأمم. مع الأمة المحمدية عناية الله ووعده لا يزالان. لكن خصوصيات العناية والوعد لا يستثنينا من عموم السنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)“لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قلنا: يا رسول، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟” 3 .) 4 .

2- الانحراف الثاني

بدأ مع سقوط الدولة العثمانية على يد كمال أتاتورك، والذي مهد لدخول الاستعمار وتفكيك وحدة الأمة إلى دويلات وأقطار تتنازع الحدود والمصالح والمذاهب. هذا الانحراف انتهى باحتلال اليهود الصهاينة لأرض فلسطين، فأتى على ما تبقى في الأمة من قوة وعزة وكرامة ليصدق عليها قول الحبيب صلى الله عليه وسلم واضحا وجليا بأنها غثاء. فبذلك وصلت الأمة إلى الحضيض.

إن الله عز وجل أخبرنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم حريص على المؤمنين، رؤوف بهم رحيم. وإن الله عز وجل أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة من الغيب، مما يقع لأمته حتى قيام الساعة، نقل إلينا الصحابة رضي الله عنهم بعضها وأُنسوا الكثير. وإن الرسول الكريم حرص على وحدة أمته لما علم من قضاء الله الذي لا يرد، قضاء الله العلي القدير الحكيم الذي اقتضى أن تكون فتن، وأن يبتلى المسلمون بحكام العض والجبر، لا يظلم ربك أحدا، ولا يظهر الفساد في بر أو بحر إلا جزاء لما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون) 5 .

المخرج من الفتنة

بعدما عرضنا واقع الأمة الفتنوي، وعرضنا آثار الفتنة عليها، والأسباب التي كانت وراءها، لم يبق لنا إلا أن نتساءل: هل يرجى للأمة من خروج من هذه الفتنة وعودتها إلى أصلها؟ والأصل هو الإسلام. فإذا كان هناك من رجاء في الخروج من الفتنة، فكيف يتم هذا الخروج؟.

نعم الأمة ستخرج من هذه الفتنة طال الزمان أم قصر إن شاء الله تعالى، وستعود إلى مجدها وعزتها، وهذا ليس مبنيا على تخمينات وإنما رجاء يقينيا ووعدا صادقا من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن ما بشر به الله تعالى عباده المؤمنين في القرآن من بشائر الفتح والتمكين والنصر لا تعد ولا تحصى، وما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانه من بعده في أحاديثه ما يُفرح القلوب ويفتح باب الأمل على مصراعيه. وكل هذه البشائر الإلهية والنبوية مرتبطة بحدثين عظيمين في مستقبل الأمة الموعود: بشرى عودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، وبشرى وعد الآخرة بانهزام اليهود وتحرير المسجد الأقصى.

بشرى الخلافة الثانية على منهاج النبوة

يقول الله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (الأنبياء: 104-105).

ويقول أيضا: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا (النور: 53).

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”.

ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك اللهُ بيت مدر ولا وبر [بيوت الحاضرة]، ولا وبر [خيام البادية]، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يُعز الله به الإسلام، وذلا يُذل اللهُ به الكفر” 6 .

بشرى وعد الآخرة بانهزام اليهود وتحرير المسجد الأقصى

يقول الله تعالى: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا (الإسراء: 7).

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود” 7 .

فكل هذه البشائر كما هي باعث على الأمل فهي أيضا حافز على العمل والدعوة والبناء والتعبئة والجهاد والتنظيم. والله تعالى في كل ذلك هو المؤيد والموفق والقادر على أن يطوي لعباده المؤمنين المسافات، ويبارك لهم الخطوات والمجهودات، فإنه نعم المولى ونعم النصير.

كيف الخروج من الفتنة إلى الإسلام؟

“عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ستكون فتن”، قلت وما المخرج منها؟ قال: “كتاب الله…”” 8 . ماذا في كتاب الله تعالى إن عملنا به أخرجنا من ظلام الفتن إلى نور الإسلام؟.

– فيه دعوة إلى التغيير في قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهي قاعدة مهمة لأن خروج الأمة من الفتنة إلى الإسلام تغيير، وسنة الله في التغيير أنه سبحانه لا يغير ما بواقعنا من فتنة إلى إسلام حتى نغير ما بأنفسنا من الوهن وداء الأمم. ولا يكون هذا إلا بالتربية الإيمانية. وللتربية الإيمانية شروط ووسائل وأهداف.

– فيه دعوة إلى العمل الجماعي من أجل هذا التغيير في قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون (آل عمران: 104).

– فيه أن هذا العمل ينبغي أن يكون منظما كما في قوله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (الصف: 4).

– فيه أن هذا العمل الجماعي المنظم لا بد له من قيادة ربانية تقود الجماعة والأمة وفق منهاج محكم هو أداة علم ومفتاح عمل. يقول الله عزوجل: ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله (البقرة: 244). ويقول سبحانه وتعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة: 50).

– فيه دعوة إلى وضع ميثاق يوحد الأهداف ويجمع الجهود بين الفاعلين في المجتمع من فضلاء وعلماء ومفكرين وغيرهم. يقول الله تعالى: وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

خاتمة

وفي الأخير فلنعلم أن أمر الخروج من الفتنة إلى الإسلام إنما يتوقف على إحياء الإرادة الجهادية فينا. لا يكفي أن نعرف ما ينخر في ذاتنا وقوانا الداخلية وإن كانت المعرفة بالمرض مقدمة ضرورية للعلاج. ولا يكفي أن نعرف الحمولة التاريخية ومراحل تطارحها علينا وإن كانت هذه المعرفة شرطا أساسيا. إنما نبرأ من المرض المتوغل ونتحرر من الحمل القاصم للظهور باليقظة الإيمانية والهبة الإحسانية والتعبئة الجهادية. ومع يقظتنا وهبتنا إلى الجهاد نحتاج إلى الاستفادة من تجارب تاريخنا وإلى عرض ما نتج عن أوزار الماضي وسلبياته نستخرج منه دروسا إيجابية لتاريخ مستأنف 9 .

إن محاولة إدراك حقيقة هذه المفاهيم الثلاثة: الجاهلية، الإسلام، والفتنة، من قبل الدعاة والعلماء وكل من يغشى ميدان الدعوة، ويتصدى لمهمة التغيير لممّا يعين على فقه الواقع، ويسهل عملية الدعوة والتواصل. وبالتالي يساعد على اجتناب كل ما يرمي إلى الاصطدام بالواقع أو الحكم على الناس أو المجتمع بما لا يناسبه.

فالجاهلية ما كان قبل الإسلام، وما بقي منها فهو خارج أسوار الأمة، والإسلام ما كان في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وهو ما نتطلع إليه في المستقبل القريب. والفتنة ما كان بعد الخلافة الراشدة، والتي ما زالت الأمة تحيى تحت لهيب وطأتها، والتي نسأل الله تعالى أن يخرجنا منها في العاجل القريب سالمين غانمين. آمين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


[1] أخرجه الشيخان والترمذي.\
[2] رواه البخاري.\
[3] أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري.\
[4] الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، نظرات في الفقه والتاريخ.\
[5] الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، نظرات في الفقه والتاريخ.\
[6] رواه ابن حبان في صحيحه وجماعة من المحدثين بإسناد صحيح.\
[7] رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.\
[8] رواه الدارمي في سننه.\
[9] الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، نظرات في الفقه والتاريخ.\