كان يسير في زقاقٍ ضيّق من أزقة الحياة، منهك الجسد، مكسور الخاطر. لا وعد في الأفق، ولا أحد ينتظر. ومع ذلك، كان يردّدها في قلبه همسًا: “وإياك نستعين.”
ليست هذه الكلمات مجرّد آية تُتلى في الصلاة، ولا طقوسًا يتوارثها المؤمنون عن خشية أو عادة. إنها نداء فطري من الروح إلى خالقها. صرخة سكون، لا يسمعها إلا من ذاق ذلّ العبودية، وعِزّ الالتجاء، ولذة الخضوع بين يدي القادر الكريم.
الاستعانة بالله ليست محطة عابرة في أوقات الانكسار، بل هي مقام دائم في مسير السالكين. في كل نبضة، في كل نية، في كل سكون قبل الفعل، وفي كل فعل بعد النية.
أن تقول “إياك نستعين” يعني أن تُقرّ، لا بلسانك فقط، بل بجوارحك كلّها، أنك لا تقوم إلا به، ولا تصبر إلا بلطفه، ولا تفكّر إلا بمعونته، ولا تحبّ، ولا تعمل، ولا تخطو، إلا بمدده.
اليد حين ترتفع في الدعاء، هي استعانة.
والدمعة في جوف الليل، حين تنزل دون استئذان، هي استعانة.
والنَّفَس الذي يخرج دون أن تأمره، والنوم الذي يأخذك دون استئذان… كلاهما شكلان من أشكال الاستعانة.
حتى في أكثر لحظاتك “طبيعية”… فإنك تستعين.
لكن هذا المعنى لا يسكن القلب إلا حين يتربى على الإيمان، ويصفو من غبار الغفلة. حين يدخل السالك مدرسة المجاهدة، ويجالس أهل الذكر، ويطيل النظر في مرآة القرآن، يعرف أن قوله: “وإياك نستعين” هو موقف، لا مجرّد تلاوة.
أن تستعين بالله في زمن الصخب يعني أن تختار الانتماء إلى جبهة الضعف النبيل، حيث القوة ليست في الصراخ، بل في التوكل.
أن تستعين بالله في دنيا السرعة يعني أن تقف بثبات على أرض العبودية، وأنت ترى الناس تلهث خلف ظلال الأشياء.
المستعين حقًا هو من يتلمّس أثر الله في تفاصيله الصغيرة: في خفقة القلب حين يحب، في الكلمة التي تخرج دون زلل، في الصبر على من لا يُحتمل، في سجدة طويلة لا تطلب شيئًا… سوى وجه الله.
الاستعانة بالله هي رفيقة المجاهدة، لا تفارقه. فلا مجاهدة للنفس دون مدد، ولا ذكر لله دون حضور، ولا نية صافية دون نور، ولا تربية قلبية دون تسليم واستعانة.
إنها تسليم دائم، لا يتناقض مع العمل، بل يُطهّره ويزكّيه. فالعبد يعمل، ويسعى، ويخطط، ويجتهد، لكنه لا يُعلّق قلبه إلا بالله، ولا يرى النتيجة إلا من الله، ولا يثق في حوله وقوته، بل في فضل من بيده مفاتيح الأمور كلها.
“وإياك نستعين” ليست مجرّد دعاء، إنها عهد.
أن نسير إليه به، لا بأنفسنا.
أن نصبر في طريقنا إليه بفضله، لا بجلدنا.
أن لا نغترّ بلحظة قرب، ولا نيأس من لحظة فتور.
وما يصنع عبدٌ دون عون الله؟
كيف يقوى من لا مدد له؟
كيف يهتدي من لا نور له؟
كيف يُكمل الطريقَ من لم يأخذ بيده سيدُ الطريق؟
الذين عَرَفوه، عرَفوا أن كل ما فيهم منه. وأنهم متى تخلّى عنهم لحظة، تاهوا. وأنهم إن قالوا: “إياك نستعين” صادقين، خرجوا من ضيق نفوسهم إلى سعة رحمته.
وفي غمرة الزحام، وسط المعارك الصغيرة والكبيرة، حين تناديك الدنيا أن تعتمد على نفسك، وتربّت على كتفك قائلة: “أنت تستطيع”، يأتي صوت خافت من قلبك، يقول: “لا حول لي، ولا قوة، إلا بالله.” “وإياك نستعين، في كل شيء، وكل حين.”
ثم تكتمل المناجاة، وتعلو الهمسة إلى مقام التوحيد الخالص: “إياك نعبد وإياك نستعين.” كأن الروح، بعد طول التجربة، قد وصلت إلى جوهر الطريق:
أن نعبدك وحدك، لأنك أنت المستحق، لا أحد سواك.
وأن نستعين بك وحدك، لأنك أنت المعين، لا أحد سواك.
نعبدك لا لأننا قادرون، بل لأنك أهل للعبادة، وأهل للفضل. ونستعين بك، لأننا لو وُكِّلنا إلى أنفسنا، ضللنا الطريق قبل أن نخطو.
“إياك نعبد وإياك نستعين”…؛ هي خيط النور الذي يشق ظلام الحيرة، وهواء النفس الذي لا يختنق، وحبل العبد الذي لا ينقطع، والمحراب الذي لا يُغلق… وهو الدرب، وهو الزاد، وهو العهد.