وأشهد أن محـمدا رسول الله

Cover Image for وأشهد أن محـمدا رسول الله
نشر بتاريخ

توطئة

    الشهادتـان أول أركان الإسلام، وعنوان فلاح من كانت آخرَ كلامه من الدنيا. وإحياءً لذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، نقف وقفة تأمل عند الشطر الثانـي من الشهادتين، استجلاء للمدلول، واكتشافا لمقتضياتها عقيدة وسلوكا.  والله من وراء القصد والهادي إلى السبيل القويم.

دلالة الشهادة

الشهادة لغة إقـرار واعتراف، وضده الإنكار والجحود. واصطلاحا تعنـي الإقرار بالقلب والتصديق بالجوارح. ومن تعاريف الإيمان: “إقرار بالجنان وتصديق بالأركان”، و”ما وقَــــرَ فـي القلب وصدّقـه العمل”. وعليه، فــــ”أشهد أن محمـدا رسول الله” تعنـي الإقرار بنبوة ورسالة سيدنا محـمد صلى الله عليه وسلم. يقول أبو بكر الجزائري فـي “منهاج مسلم” عـن نبوته صلى الله عليه وسلم: “أرسله إلى كافة الناس…نبيا خاتما، فلا نبــي بعده ولا رسول، أيده بالمعجزات، وفضله على سائر الأنبياء” (ص 37)، استأمنه ربه عن وحيه، وكلفه بالتبليغ. يقول الحق سبحانه فـي سورة “المائدة”: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته، والله يعصمك من الناس (الآية 68). وعليه فهو المُبلغ والدالُّ علـى ربه، قولا وعملا وسلوكا وحالا.

 من مقتضيات الشهادة

1.   توقيره صلى الله عليه وسلم:

حيث إنه نبـي الله ومبعوثه وجـب توقيره وتفخيمه وتعظيمه مراعاةً لقدره، فهو الكريم على ربه وخير خلقه. يقول جل جلاله فـي سورة “الفتح”: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّـراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وتُوقِّرُوه؛ وزيادة فـي تحصين مقام النبوة أنزل الحق سبحانه فـي بداية سورة “الحُجرات” أو سورة الآداب كما يسميها أهل التفسير، تخاطب المؤمنين وتنهاهم عن كل سلوك يتجرأ أو يستهين بشخصه الكريم قولا أو سلوكا أرعنَ. يقول عز سلطانه: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليـم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصـواتكم فوق صوت النبـي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمـالكم…. قال أبو هريرة: لما نزلت “لا ترفعوا أصواتكم”، قال أبو بكر رضـي الله عنه: “والله لا أرفع صوتـي إلا كأخـي السِّـرار” (تفسير القرطبـي). “وكان أبو بكر رضـي الله عنه إذا قدِم علـى رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود، أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان عمر رضـي الله تعالـى عنه كما فـي صحيح البخاري وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبـي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتـى يستفهمه” (تفسير القرطبـي).

أورد صاحب “الشِّفا” أن أبا جعفر المنصور ناظر مالِكـاً فـي مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك: “لا ترفع صوتك فـي هذا المسجد، فإن الله تعالـى أدب قوماً فقال: ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبـي ولا تجهروا له بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، ومدح قوما فقال: إن الذين يَغُضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم، وذمّ قوما فقال: إِنَّ الَّذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون،  وإنَّ حُـرمته ميتا كحُرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر”.

2.   محبته صلى الله عليه وسلم:

من يقف علـى الأدب الجم والتعظيم الجليل الذي يؤطر علاقة الصحابة الكرام رضـي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يُدرك مستوى حبهم لرسوله، لِمَا عرفوا من حقيقة مقامه عند ربه، وما حاز صلى الله عليه وسلم من عظيم الخُلق تُرجِـم رحمة وحرصا ورفقا بهم وصبرا عليهم. يقول عز وجل فـي خواتم سورة “التوبة”: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ؛ فلا عجب أن يَهيموا فـي حبه، ويُفْدوه بالمُهَج، ولا يُطيقون فراقه والابتعاد عنه. حبٌّ وَوَلَـهٌ وتعلّقٌ بشخصه الكريم أضحـى مِرقاةً تربوية وشرطا لصحة الإيمان. وفـي حديث البخاري عـن أنس بن مالك رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمنُ أحدكم حتـى أكون أحب إليه من والده وولده”؛ حبٌّ لم يكن لشخصه فقط، بل للمشروع الذي عرضه، فكان الانخراط والبذل والتضحية عرابينَ الحبِّ والتصديق.

3. الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:

لما كان الحب تعلّقا قلبيا، فمن أحب شخصا أكثر من ذكْـره، ولا يمَلُّ الحديث عن مزاياه. وعليه، فمن أحبه صلى الله عليه وسلم اهتبل بذكر سجاياه وخصاله. ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم الإكثار من الصلاة عليه، تصديقا لحبه، وفوزا بثواب من صلـى الله والملائكة عليه، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ترفع المقام وتُقـرِّب صاحبها من منزلته صلى الله عليه وسلم فـي الجنة. ومن حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود قوله صلى الله عليه وسلم: أَولَـى النَّاسِ بـي يومَ القيامَةِ أكثَرُهم علَـيَّ صلاةً. ناهيك علـى أن الإكثار من الصلاة علـى النبـي صلى الله عليه وسلم تُفرّج الكروب، وتُجلـي الهموم، وتقضـي الحوائج، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبَـيٍّ بنِ كعب لما قال له: أجعل لك صلاتـي كلها؟: “إذا تُـكفَـى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك” (رواه الترمذي وغيره).

4.   الاقتداء به صلى الله عليه وسلم:

لما كانت أعمال الإيمان لا تكتسبُ صفة الصلاح بعد صحة النية إلا إذا وافقت سنته صلى الله عليه وسلم، لقوله جل جلاله فـي سورة “الحشـر”: وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (الآية 7)؛ بل الواجب هو أن يهذب المؤمن نفسه، ويُطوِّع هواه فيتمثل السنة النبوية فـي صغير الأمور قبل كبيرها. وفـي حديث عبد الله بن عمر رضـي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به” (البيهقـي).

 إن الاقتداء طاعة. والطاعة اقتناع بصحة ما يُؤتـى أو يترك من الأعمال، تأسيا بنموذج صنعته العناية الإلهية وسدّدته. عن أبـي سعيد الخدري رضـي الله عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: “والَّذي نفسـي بيدهِ لتدخلُنَّ الجنَّةَ كلُّكم إلَّا منْ أبــى أو شردَ علـى اللَّهِ شـرادَ البعيرِ”. قيلَ يا رسولَ اللَّهِ ومن يأبـى أن يدخلَ الجنَّةَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “من أطاعنـي دخلَ الجنَّةَ ومن عصانـي دخلَ النَّارَ” (أخرجه ابن حبان والطبرانـي)؛ اقتداءٌ واتباع ولزومُ غَرْزِه صلى الله عليه وسلم يُورثُ محبة الله تعالى ومغفرة الذنوب: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونـِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران. الآية:31).

 بالتأسـي والاقتداء ينخرط المؤمن الراجـي عفو ربه في سلك المفلحين. يقول الإمام المرشد رحمه الله: “فالسنة الشريفة وحدها كفيلة أن توحد سلوكنا، وتجمعنا على نموذج واحد فـي الحركات والسكنات، فـي العبادات والأخلاق، فـي السمت وعلو الهمة. فإنه لا وصول إلى الله عز وجل إلا على طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا سبيل إلـى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا. فذلك كله برهان عن صدقنا فـي اتباعه إذ فـاتتنا صحبته”. (المنهاج النبوي – ص 139)

5. التهمُّم بقضايا أمته:

من مقتضيات حبه صلى الله عليه وسلم والإيمان بنُبُوّته الانخراط فـي تبليغ مشروعه ورسالته؛ اهتمام وتهمُّم بقضايا المسلمين واجب بمقتضـى الولاية العامة بين المسلمين بما هـي نُصرة وتعاون علـى البر والتقوى وإقامة لـشـرع الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة 72). فما كان الإسلام يوما مسألة خلاص فرديٍّ، وإلا لَما عادته قريش، بل هو مشروع لخلاص جماعـيّ للأمة يتأسس علـى صلاح الأفراد ليكونوا لبنة بناء فـي صـرح عزة الأمة؛ انخراط تضاعفت أهميته وقد غدا المسلمون غثاءً وأيتاما علـى قصعة اللئام.

أما بعد:

إنه ينبغـي لكل مؤمن ومؤمنة أن يجدد النية بعلاقته بنبيه صلى الله عليه وسلم ويتساءل: هل وُلد النبـي فـي قلبه؟ وهل للاقتداء به فـي سلوكه وأخلاقه حضور؟ وهل له من مشـروعه ودعوته نصيبٌ؟ من ألطف، أقول: من ألطف، ما قرأت فـي تفسير قوله تعالـى فـي سورة “التكاثر”: ثم لتُسألُـنّ يومئذ عـن النعيم، قيل فـي تفسيرها أو تدبّرها: النعيم ليس نِعم الدنيا ومتاعها وملاذها، بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن بعثته نعمةٌ وأيُّ نعمة: رحمة وشفقة وحرص وتهمم بمصير الأمة يوم الحساب. 

اِستفق يا من استغشيت وهْـمَ فكرك، وسطّحت أرض إيمانك، واعتبرته صلى الله عليه وسلم ساعـي بريد أودع رسالة الإسلام فـي صندوق بريدك. انتبه قبل فوات الأوان، واعلم أن أقرب أهل الإيمان مقاما منه صلى الله عليه وسلم فـي جنة الرضوان أشدهم حبا له، وأكثرهم صلاة عليه، وأرحمهم بأمته، وأحرصهم علـى تبليغ دعوته.

فلْيَـتَـحَـرَّ كلُّ راجٍ عفو ربه حقيقة مشاعره، ولْينظرْ هل استقر حبه صلى الله عليه وسلم فـي شغاف قلبه، ولا بأس أن يقرأ عن ولَـهِ الصحابة بشخصه صلى الله عليه وسلم، ولْيسأل نفسه: أين هـي من حبّ الرعيل الأول من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وها هـي أحوالهم وأحوال التابعين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مبثوثة فـي الكتب والمصنفات: كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفـى” للقاضـي عياض نموذجا.

والحمد لله رب العالمين.